التعليم تخاطب المديريات لتنفيذ المراجعات النهائية لطلاب الشهادتين الإعدادية والثانوية    الخشت يشارك باجتماع التعاون بين الجامعات المصرية وساكسونيا الألمانية    ننشر جدول امتحانات الفصل الدراسي الثاني لصفوف النقل والشهادات في بورسعيد    برلمانية: تنمية مهارات العمال وزيادة الإنتاجية والتنافسية مستهدفات مهمة بالموازنة الجديدة    ننشر قواعد التقديم للطلاب الجدد في المدارس المصرية اليابانية 2025    الشعب فرض كلمته.. ذكرى حل الحزب الوطني في مصر    شعبة الذهب تكشف مزايا «الكاش باك» ومخاطر السوق الموازي على المستهلك    وزير التجارة: ارتفاع صادرات مصر السلعية بنسبة 5.3% هذا العام    استعدوا لتغيير الساعة.. بدء التوقيت الصيفي في مصر خلال أيام    وزير المالية يشارك في منتدى «تمويل الرعاية الصحية» بواشنطن    المراكز التكنولوجية تستقبل طلبات التصالح من المواطنين 5 مايو المقبل    وزيرا البيئة والإسكان يبحثان مقترحات تشغيل مشروع تطوير موقع التجلي الأعظم    أستاذ في الاقتصاد الزراعي: «التموين» تستهدف توريد 3.5 مليون طن قمح هذا العام    مسؤول أوروبي: فرض عقوبات على إيران هذا الأسبوع    الاتحاد الأوروبي يعلن فرض عقوبات على إيران خلال الأسبوع الجاري    الصين تؤكد ضرورة حل القضية الفلسطينية وتنفيذ حل الدولتين    كندا تدين الهجمات الإجرامية للمستوطنين الإسرائيليين في الضفة الغربية    «التحالف الوطني» أرسل 4 آلاف طن مساعدات لغزة في المرحلة ال6    خادم الحرمين وولى العهد يعزيان سلطان عمان فى ضحايا السيول والأمطار    الخارجية الأمريكية: العراق يمتلك إمكانيات هائلة لتجديد الطاقة بالشرق الأوسط    جوميز يمنح لاعبى الزمالك راحة من التدريبات اليوم بعد الفوز على الأهلى    مواعيد مباريات اليوم الثالث ببطولة إفريقيا للكرة الطائرة    أهم ألف مرة.. ماهر همام يعلق على مباراة الأهلي ومازيمبي    كولر يصحح أخطاء الأهلي قبل مواجهة مازيمبي الكونغولي بدوري الأبطال    حكم دولي سابق: لاعب الأهلي كان يستحق الطرد أمام الزمالك    الأرصاد: طقس حار نهارًا على القاهرة.. والعظمى 31    في حمام الشقة .. العثور على جثة سيدة مذب. وحة بالعمرانية    تحرير 31 محضرا بمخالفات لمخابز فى السنبلاوين    أمطار غزيرة تضرب دولة خليجية وبيان عاجل لإدارة الطوارئ والأزمات والكوارث    فتح باب التقديم للمدارس المصرية اليابانية عبر هذا الرابط    مصرع منجد بالبيلنا سوهاج فى مشاجرة بسبب خلافات الجيرة ولهو الأطفال    اليوم.. الجنايات تستكمل محاكمة متهمين ب"داعش قنا"    "معلومات الوزراء": الطباعة ثلاثية الأبعاد تقنية صناعية سريعة النمو    فيلم شقو يتصدر الإيرادات بتحقيق 41 مليون جنيه في 6 أيام    رد الدكتور أحمد كريمة على طلب المتهم في قضية "فتاة الشروق    «صحة الشيوخ»: التوسع في تطبيق التأمين الصحي يستهدف تعزيز الحماية الاجتماعية    «الرعاية الصحية» تضع خطة طموحة للارتقاء بقطاع الصيدلة وإدارة الدواء في 2024    مستشار الرئيس: نهدف إلى حصول كل مواطن على الرعاية الصحية الكاملة    وزارة الصحة تكشف أسباب مقاومة المضادات الحيوية للبكتيريا.. التفاصيل    فريق طبي بمستشفى جامعة قناة السويس يُجري عملية استئصال كلي للقولون بالمنظار الجراحي    تهديد شديد اللهجة من الرئيس الإيراني للجميع    الجائزة 5000 دولار، مسابقة لاختيار ملكة جمال الذكاء الاصطناعي لأول مرة    رئيس تحرير «الأخبار»: المؤسسات الصحفية القومية تهدف إلى التأثير في شخصية مصر    جدول امتحانات المرحلة الثانوية 2024 الترم الثاني بمحافظة الإسكندرية    دعاء ليلة الزواج لمنع السحر والحسد.. «حصنوا أنفسكم»    حظك اليوم برج القوس الثلاثاء 16-4-2024 على الصعيدين المهني والعاطفي    أحمد كريمة: تعاطي المسكرات بكافة أنواعها حرام شرعاً    تفاصيل حفل تامر حسني في القاهرة الجديدة    أبرزها عيد العمال.. مواعيد الإجازات الرسمية في شهر مايو 2024    هل هناك خطة للانتهاء من تخفيف أحمال الكهرباء.. الحكومة توضح    "كنت عايز أرتاح وأبعد شوية".. محمد رمضان يكشف سبب غيابه عن دراما رمضان 2024    حسن مصطفى: أخطاء كولر والدفاع وراء خسارة الأهلي أمام الزمالك    إبراهيم نور الدين يكشف حقيقة اعتزاله التحكيم عقب مباراة الأهلى والزمالك    دعاء السفر قصير: اللهم أنت الصاحبُ في السفرِ    مصطفى عسل يتأهل لنهائي بطولة بلاك بول الدولية للإسكواش    لماذا رفض الإمام أبو حنيفة صيام الست من شوال؟.. أسرار ينبغي معرفتها    رئيس تحرير «الأخبار»: الصحافة القومية حصن أساسي ودرع للدفاع عن الوطن.. فيديو    خالد الصاوي: مصر ثالث أهم دولة تنتج سينما تشاهد خارج حدودها    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



"اليوم السابع" ينشر "سيرة الخال".. سر ال14 قرشا التى حصل عليها "الأبنودى" من الملك فاروق.. حكاية سجنه بعد انضمامه ل"منظمة شيوعية".. أسباب خلافاته مع أم كلثوم.. وكيف أقنع محمد رشدى بعدم الاعتزال
نشر في اليوم السابع يوم 21 - 04 - 2015

يعيد "اليوم السابع" نشر سيرة الخال عبد الرحمن الأبنودى، التى أعدها الكاتب الصحفى، محمد توفيق، ونشرت على صفحات وموقع "اليوم السابع" فى 8 حلقات مطولة خلال شهر نوفمبر من العام 2013.
تحدث الشاعر الكبير، الراحل عبد الرحمن الأبنودى، تحت عنوان "الخال يروى سيرته"، فى تلك الحلقات، عن تاريخه ومراحل حياته المختلفة، منذ عهد الملك فاروق، مرورًا بانضمامه لمنظمة شيوعية، وغير ذلك من المراحل، كما علق من خلالها على العديد من رموز الفن والشعر والأدب الذين عاصرهم، واشترك معهم فى العديد من الأعمال الفنية، وغير ذلك من القصص والأسرار.
لقراءة حلقات "الخال يروى سيرته"..
"الخال" يروى سيرته "الحلقة الأولى" : حصلت على 14 قرشاً من الملك فاروق.. وأخفاها والدى فارتكبت أول جريمة عائلية فى حياتى!.. عملت راعيًا للغنم وعمرى 5 سنوات.. ولم أستخدم الحذاء إلا فى المدارس
◄ اشتريت «مِعزة» بعد أن جمعت كل أموالى ووالدى ذبحها عقابًا لى وأكلها هو وضيوفه!.. وعندما سألت أمى: «أين ذهبت المعزة؟»، فقالت «أٌمال أنت أكلت إيه؟!
◄ ولدت فى تسعة أيام لا يعيش فيها إنسان.. فقال والدى لأمى «دعيه يموت فى هدوء.. وشدّى حيلك وهاتى غيره»!
◄ أمى رأت فى المنام حمارة وَلَدَت جحشًا عليلًا.. ورأتهم يربطون ركبتيه بحبال كى تتماسكا لذلك حين أنجبتنى ربطت ركبتى بأشرطة الأقمشة المضفرة حتى لا تتفككا!
◄ حفظت القرآن فى كُتاب «الشيخ إمبارك» والتسميع كان يتم ب«الشاكوش» وصبغة اليود!
فى كل مرة التقيت فيها الخال عبد الرحمن الأبنودى كان يصدمنى بوقائع مدهشة لم يعلن عنها من قبل، وبأسرار وتفاصيل لم يكتبها أو ينشرها أو يذكرها من قبل، كأنه يتحدَّى الزمن، ويريد أن ينتصر عليه. فهو "مخبِّى فى عينيه السحراوى تملِّى حاجات" -مثلما وصفته العمة يامنة- فهو يتحدث فى كل شىء ويذكر فى أحاديثه الممتدة عبر نصف قرن من الزمان أدق تفاصيل حياته لدرجة أنك تجزم أنه لا يمكن أن يكون لديه شىء يقوله بعد ذلك، لكن مخزون الخال لا ينفد أبدًا.
هذا هو الخال كما عرفته، خلال عام كامل قضيته بصحبته -وصحبة أعماله- من خلال سلسلة حوارات يمكن اعتبارها حواراً واحداً امتد على مدار العام.
كنا نقوم بإيقاف جهاز التسجيل بعد خمس أو ست ساعات من الحوار المتواصل وفى المرة التالية نُكمل ما توقفنا عنده وهكذا ظللنا على مدار السنة نتحدث فى كل شىء عن حبه لعبد الناصر وكراهيته للسادات ولقاءاته مع مبارك وهجومه على مرسى، وخلافه مع أم كلثوم وصلاح جاهين، وسر تعلقه بعبد الحليم حافظ ومحمد رشدى، وصداقته لأمل دنقل ويحيى الطاهر وتطرقنا لأبطال قصائده، وسر تسميته ب«رُمان»!!
1
اليوم: الاثنين 11 من إبريل عام 1938م.
كانت السينما تعرض واحدًا من أهم الأفلام على مدار تاريخها، لكن تمت مصادرته فى اليوم الأول لعرضه!
الفيلم هو «لاشين».
وقصته أن قائد الجيش حاول تنبيه الحاكم إلى ألاعيب حاشيته، وغضب الناس منها، لكن الحاكم الضعيف لم يستجب له، وترك حاشيته - وأهله وعشيرته - يفعلون ما يشاؤون لدرجة أنهم قاموا باعتقال قائد الجيش!
لكن الأمور صارت من سيئ إلى أسوأ حتى حدثت مجاعة كبرى جعلت الشعب يثور ضد الحاكم، وحاشيته، وتم إسقاط النظام، وأفرج الشعب عن «لاشين» قائد الجيش، واعتبروه بطلًا قوميًّا، وقائدًا عظيمًا وقف مع الشعب ضد الاستبداد، وأسهم فى كشف الفساد، حتى عمَّت العدالة البلاد.
لكن عندما عُرض الفيلم للمرة الأولى تم اعتبار هذه القصة بمثابة عيب فى الذات الملكية!
وتمت مصادرة الفيلم وتغيير نهايته، واعتبار أن كل ما جرى خلال أحداث الفيلم مؤامرة كبرى تعرض لها الحاكم، الذى انتصر فى النهاية على المتآمرين، ووافقت الرقابة على عرضه بعد تعديله!
لكن المدهش أن صاحب هذا السيناريو البديع هو الشاعر أحمد رامى، وقد لعب بطولة هذا الفيلم ممثل درس التمثيل فى فرنسا اسمه «حسن عزت»، وشاركه فى البطولة الفنان حسين رياض، وأخرج الفيلم المخرج الألمانى «فريتز كرامب».
فى هذا التوقيت كان جمال عبدالناصر قد تخرَّج فى الكلية الحربية، والتحق بالكتيبة الثالثة بنادق، وتم نقله إلى «منقباد» التى التقى فيها أنور السادات.
وعبدالحليم حافظ قد بلغ التاسعة من عمره، وقرر خاله أن يُودِعه فى ملجأ للأيتام، وقضى حليم هناك ثمانى سنوات حتى غادر الملجأ إلى معهد الموسيقى العربية.
.. وبيرم التونسى كانت تطارده السلطات الفرنسية، وتطرده من كل بلد يذهب إليه بسبب سخريته اللاذعة من الاحتلال الفرنسى.
.. وفؤاد حداد التحق بمدرسة «الفرير»، وذهب صلاح جاهين إلى مدرسة الناصرية الابتدائية.
.. وكانت نُذٌر الحرب العالمية الثانية قد بدت فى الأفق بعد تعميم التدريب العسكرى.
.. وتم تكليف محمد محمود باشا بتشكيل وزارته الثانية التى أطلق عليها «وزارة كبت الحريات وضرب الشعب»، وقد عيَّن محمد محمود باشا نفسه وزيراً للداخلية بجانب رئاسته للوزراء!
ولم تستمر هذه الوزارة سوى شهرين فقط!
هذه الحكومة رغم مساوئها العديدة فإنه كان من أبرز مزاياها أنها ضمَّت ثلاثة أسماء لامعة فى الفكر، والدين، والأدب.
فقد تم اختيار المفكر الكبير أحمد لطفى السيد باشا - الذى لقَّبه العقاد ب«أفلاطون الأدب العربى» - ليكون وزيرًا للدولة.
وصار الدكتور محمد حسين هيكل - صاحب أول رواية مصرية- وزيرًا للمعارف.
وتولَّى منصب وزير الأوقاف الشيخ مصطفى عبدالرازق - شقيق الشيخ على عبدالرازق صاحب كتاب «الإسلام وأصول الحكم» - وقد تتلمذ الشيخ مصطفى على يد الإمام محمد عبده، بينما كان نجيب محفوظ واحدًا من تلاميذه.
فى نفس التوقيت كان الملك فاروق يحتفل بزفافه على الملكة فريدة فى دار الأوبرا المصرية، وذلك بعد أن أصدر مرسومًا ملكيًّا بحلّ البرلمان الوفدى، وقد ثار النواب الوفديون، ولكن الشرطة أخرجتهم من المجلس!
وفى نفس العام ظهرت ليلى مراد لأول مرة، ووُلد الأديب يحيى الطاهر عبدالله، ونشر طه حسين كتابه «مستقبل الثقافة فى مصر»، وظهرت أول مجموعة قصصية لنجيب محفوظ باسم «همس الجنون»، وظهر لتوفيق الحكيم روايته «عصفور من الشرق».
وسط هذه الأجواء، أنجبت فاطمة ابنها عبدالرحمن.
2
فى تسعة أيام من النادر أن يعيش فيها إنسان، وإذا عاش فإنه يعيش عليلًا، وإذا وقف سرعان ما يسقط.
إنها أيام الحسومات، و«الحسومات» حسب التقويم القبطى - الذى ما زال أهلنا فى قرى الصعيد يتبعونه - أيام تسعة، تأتى فى وقت معين من السنة القبطية.
حينذاك كانت تنتظر فاطمة قنديل بزوغ الهلال الجديد بصبر فريد، لأنه يعنى أن عمر ابنها الميت قد زاد شهرًا، وكانت الأم تصعد للهلال الجديد أعلى قمم البيت، لتصبح بمفردها مع الهلال وربّ العباد بعد أن يتشرب الغروب اسمراره المعتَّق لتلمع نجوم السماء فتضىء جسدها الذى يصعد منه الدعاء، وتكشف رأسها تناجى وتدعو وتتوسل إلى ربها.
فى هذه اللحظة العصيبة حاول الشيخ محمود التخفيف عن زوجته، وقال لها: «دعيه يموت فى هدوء، لا تتعلقى به.. اعتبرى أنك لم تنجبيه.. شدّى حيلك وهاتى غيره.. ليس له عمر».
لكنها لم تستجب، ولم تيأس، ولم تفقد الأمل، بل كانت تقوم بجمع النساء حول جسد ابنها الميت البالى، وتُشعل البخور، وتظل تبتهل إلى الله وتدعوه بفيض من الأدعية وأطنان من الطقوس التى مارستها بجنون حتى يظن من لا يعرفها أنها تنتظر مولودها الأول وليس الرابع!
كانت فاطمة تفعل ذلك كل ليلة فى الصباح والمساء، وتخلع ملابسها، وتتطهر، وتخرج فى قلب الليل، وعند استقبال الفجر تتوسل إلى الله أن يظل ابنها حيًّا، وقد استجابت لها السماء، لذلك ظلت فاطمة قنديل تشعر بأنها حققت أكبر معجزة فى الدنيا، وهى أنها أبقت ابنها «عبدالرحمن» على قيد الحياة بعد قتال مرير، وحرب ضروس ضد الطبيعة وقوانين الوجود بخبرتها الطبية النادرة، ووعيها بتجارب السابقين.
فقد رأت فاطمة قنديل فى المنام - خلال فترة الوَحَم - حمارة وَلَدَت جحشًا رفيعًا عليلًا! رأته بعد ولادته مباشرة على تلك الحالة التى لا يقوى فيها أى جحش صغير على المشى، رأت الجحش الهزيل، ورأتهم يربطون ركبتيه بحبال كى تتماسكا، لذلك حين أنجبت ابنها، ووجدته غير قادر على استعمال ركبتيه كأنداده جميعًا، استوحت فكرة حبال الجحش، ونقلتها من ركبتى الحيوان إلى ركبتى الإنسان، وربطت ركبتى وليدها عبدالرحمن بأشرطة الأقمشة المضفرة حتى لا تتفككا!
فى هذه الظروف الاستثنائية وُلد «عبدالرحمن محمود أحمد عبدالوهاب حسن عطية حسن أحمد عبدالفتاح عمران» الذى صار فيما بعد الشاعر الكبير عبدالرحمن الأبنودى، نسبةً إلى قريته أبنود التى نشأ بها، وعاش فيها طفولته، وعمل بها راعيًا للغنم.
ومهنة الرعاة هى مهنة الأنبياء -مثلما يصفها الخال- «يا تطلع منها نبى يا تطلع شاعر» لكثرة ما فيها من تأمل للطبيعة والناس.
3
كان «عبدالرحمن» يستيقظ كل صباح ينتظر غنمه التى يرعاها أمام باب البيت.
فى كل صباح تجد كل أبواب البيوت وقد فُتحت وقفز منها الماعز والخرفان وتنخرط جميعًا فى طابور وتملأ الدنيا غبارًا، والأطفال وراءها يستعدّون للرعى وهم حفاة، فلم يكن أحد وقتها يملك حذاءً حتى مَن كان يملك حذاء من الكبار لم يكن يستعمله فى أغلب الأحيان.
فكانت «ست أبوها» جدة عبدالرحمن تسير فى عز القيالة إلى مشاوير العزاء الطويلة ملتفَّة ببُردتها، تلقف من الحَرّ وتوحِّد وتستشهد خوفًا من أن تموت، تزيح الباب ذا الضلفة الواحدة كأنها قادمة من السعير وتجلس على أول شىء مرتفع. تفرد فى الأرض «المبخوخة» قدميها المتورمتين الحافيتين، وقد نسيت حذاءها المعقود فوق رأسها، كأنها فقط كانت تقول للآخرين إنها تملك «مداسا»!
كان الرجال يفعلون ذلك حتى فى الملابس!
وأحيانا إذا ما ورَّمت القيالة القدمين المنتفختين، كانت «ست أبوها» تدق عدة «بَصَلات» عليها ملح تلطخ به رجليها حتى الساقين ل«يفشّ» الورم وتعود الساقان إلى طبيعتهما القديمة.
تعرف أن كل هذا سيحدث لها، ومع ذلك تنسى حذاءها المعقود فوق رأسها وتخوض حافية فى «لهاليب» جهنم.
لكنها لم تكن وحدها التى تفعل ذلك، وكأن الحذاء حرام أو عيب «يقولوا عليّا لابسة جزمة؟! ليه رايحة أتجوّز ولّا رايحة عُرس؟ دى جنازة يا ولدى. ده واجب».
فى هذا الزمن لم تكن فكرة الحذاء مطروحة أصلًا، وتبدو فكرة أسطورية بعيدة التخيل والمنال، لكنها لم تكن تخطر على بال أحد فى أبنود، لأن الأفكار تخلقها الحاجة، ولم يكونوا يشعرون أنهم فى حاجة إلى حذاء.
فى ذلك الوقت حتى لو امتلك أحد هذا الحذاء فإن القدرة على استخدامه كانت معدومة، لأنه ليس من المعقول أن يذهب طفل بحذاء للرَّعىْ، فى التراب والماء والوحل.
الرعى مهنة أساسها الحرية - مثلما يقول الخال - حرية البدن والساق بالتحديد، للكر والفر والمطاردة والمحاصرة والمسايسة، تردّ من هنا وتصدّ من هناك، تزعق وتعوى، وتضرب، وتردع حتى يسمعك جيدًا صاحب الحقل الذى اعتدَتْ عليه بهائمك فيغفر لك خسارته وإلا خربت الدنيا.
الحذاء هنا شىء معطَّل، شىء فى مصلحة الماعز وضد صاحب الحقل وضدك، شىء يهيئ للعنزة الطائشة أن تطيش، والنعجة الهاربة أن تتمكن من تنفيذ مخططاتها اللئيمة.
لذلك كان الجميع حفاة، كلهم يرتدون قميصًا واحدًا خامًا رخيصًا يستر نصف البدن، أما فكرة الملابس الداخلية فلا تنشأ إلا قبل ليلة الزفاف بوقت قصير!
هكذا عاش «عبدالرحمن» - حتى بلغ الخامسة من عمره - مع أقرانه حياة فقيرة لكنها مُلهمة حتى إنه يعتبرها أيامه الحلوة رغم كل ما فيها من قسوة.
فكان على الطفل الصغير أن يأتى بطعامه بنفسه، ويأخذ سنارة، ويذهب بها إلى النهر ليصطاد السمك الذى يكفيه قوت يومه، وإلا مات جائعًا.
4
فى ذلك الزمن كان الصبى لا يملك غير جلباب واحد من «الدمُّور الخام» حُثالة القطن، أبيض أقرب إلى البنى، يبقعه بلح النخيل ولوزات القطن إلى أن يختفى على آخر العام لونه القديم تماما.
وكان «عبدالرحمن» مثل كل أقرانه يملك هذا الجلباب، لكنه أراد أن يستخدمه بصورة مختلفة يروى تفاصيلها قائلًا: كنتُ أعتقد أن سيّالتى - الجيب الطولى الذى بجانب ثوبى- قد تتسع لرمانة أو رمانتين، لكنى اكتشفت غير ذلك حين خططت لأول سرقة فى حياتى! فقد كان فى ظهر بيتنا جنينة واسعة اسمها جنينة «على غزالى» وكانت بالغة الاتساع مزروعة فقط بالرمان، وكان رمانها يغطى أسواقًا كبيرة لمناطق بعيدة، لذلك تصورت أنه لن يفطن أحد لهذه السرقة البسيطة التى لا أريد منها سوى رمانة أو اثنتين، كما يمكننى إخفاء القشر بالدفن فى تراب الفرن أو فى قلب شونة التبن. وحين استقر الأمر، وعقدتُ النية على السرقة، انزلقت من على الجدار العالى إلى أرض جنينة «على الغزالى»، وحين لامست القدمان الأرض، كانت الركبة قد تسلخت، وأَدْمَت نفسها، لكنى لم أكن أحس شيئًا، واكتشفت كل ذلك بعدها بكثير! ووجدت نفسى فى الجنينة بين الأشجار، وحيدًا.
وبدأت أمد يدى داخل الفروع الشوكية، وأنتزع الرمانة لأكتشف أنها لا تُنتزع، فبدأت أديرها وألفها كأنك تفتح حنفية إلى أن يرق العود الرفيع القوى الذى يمسك بالرمانة من كثرة لَفّ الرمانة فتنقطع، كلما قطعت واحدة تلألأت لى أختها، وجدتنى فى النهاية وقد كومت كومة كبيرة، لم أجد صعوبة فى العثور على حبل ربطت به وسطى و«عبعبت» عِبِّى - كما تعلمت من جنى القطن - ورحت أضع الرمان حتى امتلأ.
فجأة وجدتُ على رأسى «منسى» - رحمه الله - وهو ابن «على» وهو أكثر البشر بدانة فى أبنود.
جريت لأهرب فلم أستطع لدرجة أن «منسى» البدين الثقيل الذى لا يتحرك أمسك بى بسهولة أنا العفريت الخفيف الذى يقفز كالغزال، كان الرمان فى عبّى أثقل من وزنى نفسه، لم أكن قد اكتشفت أنه ثبّتنى فى الأرض كالجدار القديم، فَصِحْت: «يا امّه».
سمعتْ أمى صراخى ففزعتْ، واعتقدتْ أنى سقطتُ فى البئر، وراحت تنظر والصراخ يأتيها من جهة أخرى إلى أن اهتدت إلى مكانى، واعتقدت أنى سقطت فى الجنينة دون قصد وأنا أطلّ من سور «الزَّرب».
بعد قليل تفهمت الموقف من قبضة «منسى» الممسكة بكم قميصى الدَّمور، وذلك العب الملىء بالرمان.
أفرغت الرمان وخرجت إلى بيتنا من باب الجنينة يملؤنى الخجل ويجلّلنى العار، وجاء والده بالرمان بعد أن وبَّخ ابنه، وقبل أن ينصرف الرجل سأل جدتى عن اسم ابنهم الذى قفز الجدار، فأجابت أمى من الداخل: «رمان».
من يومها، وصار اسم تدليلى «رمان» فى بلدة لا تدلل أبناءها.
ويعلِّق الخال على هذه الواقعة قائلًا: لو لم يقتحمنى الشعر ويتلبسنى ويأخذنى من كل هواية أو متعة أخرى لصرتُ لصًّا حاذقًا خفيف اليد.
هكذا يمكن أن نقول إن الشعر أنقذنى من السجن المدنى لكنه قبض الثمن حين زجَّ بى إلى زنازين السجن السياسى!
5
ترك الأبنودى الغنم، وذهب إلى كُتَّاب الشيخ امبارك، وكان يوم «التسميع» فى الكُتَّاب يتم بالشاكوش وصبغة اليود، ومن لا يحفظ تُشق رأسه بشاكوش الشيخ!
ويقوم مساعداه الشيخان «همام» و«رمضان» بوضع كمية لا بأس بها من صبغة اليود فى حفرة الرأس، وبعض لوزات قطن ببذرها، وكان يوم الخميس أيضًا هو الذى ندفع فيه «الخميس» للشيخ ثمنًا للعلم الذى نتلقاه، و«الخميس» هو عشرة مليمات إذا لم ندفعها كان عقابنا منه أشد من عقابنا عن عدم الحفظ ساعة التسميع.
كان هذا السلوك ثابتًا قدريًّا لا يتغير ولا يتزحزح من مكانه حتى لو انطبقت السماء على الأرض إلا فى ذلك اليوم الذى لم يكن لاختلافه مثيل، والذى بطش بالسلوك التقليدى المحكم لكُتَّاب مولانا «الشيخ امبارك».
كانت المرة الأولى التى اختلَّت فيها الموازين وعصف القدر بكل النظم الحديدية التى أسسها الشيخ، فلم يقف طابور التسميع الذى يتم دائمًا تحت تهديد الشاكوش وبصحبة صبغة اليود.
والأعجب أن الشيخ لم يطلب من تلاميذه دفع «قرش الصاغ» رغم أنه كان أول ما يفعله فى صباح يوم الخميس أن يمد يده لاستلامه.
هل نسى قرش الصاغ أو نسى أن اليوم هو الخميس؟!
لكنه لا ينسى، ولم ينسَ، لكن الحدث أكبر من أن يلتفت الشيخ إلى قرش الصاغ، لدرجة أنه لم يصطحب الشاكوش معه فى ذلك اليوم، ولم تَكْسُ ملامحه تكشيرته المعتادة، بل إنه كان يرتدى ملابس نظيفة رغم أنه لا يفعلها إلا فى أول الأسبوع.
الكل ظل ينتظر ليعى ماذا حدث؟
وفجأة، دخل رجال يرتدون ملابس أنيقة للغاية، لم يَعْتَدْ التلاميذ على رؤية مثلها من قبل، وربما كانت المرة الأولى التى يرون فيها الأحذية اللامعة.
وخلف هؤلاء الرجال كان هناك آخرون يحملون حقائب جديدة، وقد كانت أيضًا المرة الأولى التى يرى فيها التلاميذ شيئًا يمكن حمله فى اليد سوى المقاطف.
وتقدم أكثر الرجال أناقة ووسامة وقال: «نحن هنا فى كُتَّاب حى الأشراف.. باسم الشريف الأعظم الذى ثبت أنه ينتسب إلى آل البيت: مليكنا المعظم جلالة الملك فاروق ملك مصر والسودان».
وأكمل الرجل كلامه قائلًا: «بمناسبة زيارة مولانا المعظم جلالة الملك فاروق الأول ملك مصر والسودان إلى مدينة قنا لوضع حجر الأساس لمسجد سيدى عبدالرحيم، وبمناسبة ثبوت نسبه إلى الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام، وابتهاجا بهذه المناسبة قرر الملك الحبيب أن يهب كلا منكم نفحة وهدية ملكية، لكى تدعو له بالرفاء، وطول البقاء».
أنهى الرجل حديثه وأشار إلى التلميذين اللذين فى «التختة» الأمامية أن يتنحّيا، وأن يتركا المكان دون أن يقول ذلك لهم قولا، لم يفهما، لكن «الشيخ امبارك» الذى فهما، فَرَدَ كفّ يمناه، ودفع بالتلميذين ليجدا نفسيهما ملتصقين بجدار الفصل الواسع ولم ينتبه لذلك أحد، إذ حملقت العيون فى تلك الحقيبة التى فُتحت ليشعّ منها ضوء خطف أبصار الجميع.
كانت الحقيبة الجلدية الأنيقة مليئة بقطع نقدية ذات أضلاع وقرون، وعرف التلاميذ أن تلك القطعة ذات الأربعة أضلاع قيمتها قرشان، وكانوا يطلقون عليها اسم «التُّمْن»، لكنَّ أحدًا لم يكن رآها على تلك الصورة المضيئة من قبل.
«شنطة» بحالها مليئة بذلك «التُّمن» الجديد الذى زغلل عيون الجميع، إذ لا يحدث شىء كهذا إلا فى حكايات الأمهات، والجدَّات ليلًا حين ينفتح الكنز بعد أن يأمره المارد، لكن المارد فى الحكايات كان دائمًا أسود، أما هذا المارد فبياضه يثير العجب، كأنه لم يأكل فى عمره سوى اللبن والجبن الأبيض والجير والبطيخ الأقرع - مثلما يصفه الخال.
اندفع ثلاثة رجال من الزائرين الذين لم يسمع أحد صوتهم، ليقوموا بتوزيع النقود، فصاح «الشيخ امبارك»: «افتح يدَّك ياد أنت وهوّه».
فتح التلاميذ أيديهم، ومرّ الثلاثة، كل منهم استلم صفًّا، وظلوا يضعون فى كف كل تلميذ سبعة «أتمان»، أى سبع قطع نقدية، قيمة القطعة قرشان، يعنى أربعة عشر قرشا، محبة وهدية من «الملك فاروق الأول ملك مصر والسودان».
ثم فجأة اختفى الجميع.
لم يعد هناك أثر لهؤلاء النازلين من الكوكب البعيد، ولا للمشايخ الثلاثة «امبارك وهمام ورمضان».
الخال" يروى سيرته "الحلقة الثانية " : الأبنودى: كنت عضواً فى منظمة شيوعية وأبلغ عنى المسؤول السياسى فدخلت السجن 6 أشهر.. وبعدها قررت أن أصبح حزباً بمفردى!
أبلغنى أحد المقربين من «السادات» بأننى مرشح للوزارة فقلت لمدير مكتبه: «قول للريس أنا ما انفعش للشغلة دى»
قابلت «عبدالناصر» مرة واحدة وأنا تلميذ فى الثانوية.. واعتقلت فى عصره وبعد ما قلبت فى وشوش اللى حكمونا بعده أدركت أننى لم أعطه حقه
(1)
فى عام 1954 ذهب مجلس قيادة الثورة بأكمله إلى مدينة قنا لمواساة أهلها، ولمواجهة الكارثة التى حدثت هناك، فالسيول دمرت المدينة، لدرجة جعلت التلاميذ يذهبون إلى المدارس على قوارب صنعوها من جذوع النخيل.
يومها كان البلد بكامله فى استقبال الضيوف من سياسيين وفنانين كبار حضروا لمساندة أهالى قنا.
وكان «عبدالرحمن» يقف مع زميله فى المدرسة جمال نصارى، فقال له: «مش الراجل اللى هناك دا شبه جمال عبدالناصر اللى فى الصورة؟»، فقال له: «باينّه هو».
فذهب الاثنان، ووقف «عبدالرحمن» أمام «عبدالناصر» وقال له: «أنت جمال عبدالناصر؟»، فرد عليه: «أيوه»، فقال له الخال: «ممكن أسلم عليك؟»، فسلم عليه، ونظر إليه نظرة ما زالت محفورة فى ذاكرة الخال حتى الآن، لدرجة أنه يقول إنها كانت السبب فى قصيدة «عبدالناصر» التى كتبها فيما بعد.
كانت هذه هى المرة الأولى والأخيرة التى رأى فيها عبدالرحمن الأبنودى جمال عبدالناصر وجهًا لوجه. المدهش أن الأبنودى لم يكن مناصرًا ل«عبدالناصر»، بل كان معارضًا له حتى رحل، فصار من أشد مؤيديه، بل من أكثر المدافعين عنه، والمؤمنين بما فعله، رغم أنه دخل السجن فى عصره، ومكث فيه ستة أشهر.
ففى أكتوبر 1966 اقتحم ضباط المباحث منزل الخال عبدالرحمن الأبنودى، وتم إلقاء القبض عليه، ومصادرة كل أوراقه، وعصب عينيه بقطعة من قماش، وأخذوه إلى إحدى جهات التحقيق.
وفى أثناء سيره فى الطريق إلى المعتقل ظلوا يضربونه ب«الشلوت» وعلى رأسه حتى وصل إلى مكتب المحقق وهو لا يستطيع الوقوف على قدمه، والذى أجرى تحقيقًا صوريًا معه.
وبعد انتهاء التحقيق مكث 36 يومًا فى سجن انفرادى فى القلعة، بلا أى شىء، لا جورنال، ولا ورقة، ولا يرى سوى بُقعة ضوء تأتى إليه كل صباح من نافذة الزنزانة، ويظل يلاعبها إلى أن تبهت وتختفى.
لم يكن «الأبنودى» وحده الذى دخل سجن «عبدالناصر» فى هذا التوقيت، فقد سبقته قائمة طويلة من المثقفين، ودخل معه السجن عدد كبير من أصدقائه المقربين، من بينهم جمال الغيطانى، وسيد خميس، وصلاح عيسى، وسيد حجاب، لكن كان من غير المسموح أن يجلسوا معًا، أو يتحدثوا معًا، لكن الخال كان يحاول أن يُسقط جدار الزنزانة بصوته، فكان يقضى يومه فى الغناء داخل الزنزانة ليسمعه أصدقاؤه حتى يقوِّى من عزائمهم، ولعل أكثر أغنية كان يرددها هى «عم بضوى الشمس» للسيدة فيروز.
وعندما كان يمر عم سيد حارس الزنزانة يقول ضاحكًا: «أهى دنيا بتلعب بينا.. على رأى الأبنوبى»!
لكن كان يرد عليه الخال من خلف باب الزنزانة ويقول له: «مش أنا يا عم سيد اللى كتبتها»، فيرد مندهشًا: «أُمَّال همَّا جابوك هنا ليه؟!».
السجن لم يجعل «الأبنودى» يفقد صوابه مثل كثيرين، ولم يجعله يكره سجانه.
ظل متصالحًا مع هذه التجربة، بل يرى أنها تجربة كان لا بد منها حتى يكتمل البناء الشعرى له، فهو يرى أن الشاعر الحق لا بد أن يمر بثلاث تجارب رئيسية: أن يعيش أجواء الحرب، وأن يدخل السجن، وأن يأنس بالحب، وقد مر بالثلاث.
لكن تجربة السجن تركت فى الخال أثرًا مدهشًا، يقول عنه: «كان حائط السجن مثل كرسىّ الاعتراف، إذا أردت أن تعرف نفسك جيدًا، أسند ظهرك على حائط السجن، هتعرف قد إيه شجاع أو قد إيه جبان، وبتخاف من إيه، وبتخاف على إيه، ودرجة صمودك قد إيه، وكيف ترى الناس حولك».
لكن السؤال: لماذا تم اعتقال عبدالرحمن الأبنودى؟
والجواب يرويه الخال بقوله: كنت فى منظمة سياسية، وأبلغ عنى المسؤول السياسى فى المنظمة، وكان اسمها «و - ش» أى وحدة الشيوعيين، وكانت تتكون من مجموعة من المناضلين وقتها، وكان من بينهم جمال الغيطانى، ومحمد العزبى، وجلال السيد، وعلى الشوباشى. ولم تكن منظمة حقيقية، ولم يكن لها أهداف واضحة، وقد تكونت بالجهود الذاتية، وكانت رسوم الاشتراك 25 قرشًا، وكانت أشبه ب«تعليم الماركسية بالأجر»، ولكن بعد هذه التجربة قررت أن أكوِّن حزبًا بمفردى.
ويعلّق الخال ساخرًا: «هو فى حد عاقل يروح يجيب لنفسه رئيس.. إذا كان رئيس الوحدة اللى كنت فيها طلع هو اللى مبلّغ عنى مباحث الأمن».
لكن صدر القرار بالإفراج عن «الأبنودى» ورفاقه بناءً على طلب المفكر جان بول سارتر الذى رفض الحضور لمصر بسبب اعتقال مجموعة من المثقفين، واشترط أن يتم الإفراج عنهم قبل حضوره إلى القاهرة، لكن «عبدالناصر» وافق بشرط، وهو أن يأتى «سارتر» أولًا إلى مصر، وبعد أن يصعد إلى طائرته، يتم الإفراج عن جميع المثقفين.
(2)
رغم كل ما حدث، فإن الخال «الأبنودى» صار ناصريًا أكثر من الناصريين أنفسهم، ولكن بعد رحيل «عبدالناصر» بسنوات طويلة، وعندما سألته عن أسباب ذلك التحول الكبير مع الرجل الذى انتقده حيًا ومدَحه ميتًا قال: «بعد ما قلّبت فى وشوش اللى حكمونا بعده أدركت أنى لم أعطِ للرجل حقه».
ويفسر الخال كلامه قائلًا: فى أبنود لم نشعر بما فعله «عبدالناصر»، فلم يكن لدينا إقطاعيات حتى نعرف فضل «عبدالناصر» الكبير على الفلاحين، فالوادى ضيق، والجبلان ضاغطان على النيل، والمساحة الخضراء ضيقة جدًا، فعندما وزَّع «عبدالناصر» الأرض على الفلاحين لم تستفد أبنود بشىء، وأنا وأهلى لم نستفد بشىء، ولم يتغير سوى أن الطبيب أصبح فى القرية على بعد أمتار من الوحدة الصحية.
لكن عندما جاء «السادات» و«مبارك» ثم وصلنا إلى «مرسى» أصبح لزامًا علىَّ أن أتذكر «عبدالناصر» للأجيال التى لوثوا لها وجه «عبدالناصر»- والكلام لا يزال على لسان الخال - فهو بطل شعبى.
لكن عندما وقعت حرب أكتوبر 1973 كان الخال فى إنجلترا بصحبة الأديب السودانى الطيب صالح، وعندما عرفا بالحرب، وحاولا العودة إلى مصر عن طريق ليبيا، لم تفلح المحاولة، فحُكم عليه أن يظل فى بلاد الثلج والضباب، وأن يشاهد الحرب من وجهة نظر الأعداء. ويروى الخال تفاصيل ما جرى هذه الفترة بقوله: الإنجليز يتحدثون طوال الوقت باعتبارهم أنصار القضية الفلسطينية، لكن بمجرد أن قامت الحرب صاروا يهودًا أكثر من اليهود ذاتهم، وتبنوا موقف إسرائيل فى كل شىء، لكن الميزة الوحيدة أننى رأيت ما لم يره الشعب المصرى، فقد شاهدت حرب الدبابات التى كان بطلها المصرى العظيم عبدالعاطى، صائد الدبابات، وغيره، وأدركت أننا «دعكناهم»، خصوصًا أن كل دبابة تخرج عندهم بكاميرا لتسجل تفاصيل المعارك، ظنًا منهم أن الكاميرات ستسجل انتصارات، مثلما فعلوا أثناء حرب 67، لكن هيهات! ويواصل الخال: عندما كنا نذهب إلى نادى ال«بى بى سى» ونطلب الغداء، ونجلس على ترابيزة نجد أنفسنا محاطين بكراهية ليس لها حدود من الذين كانوا أصحابنا بالأمس، كل ذلك كان بسبب إسرائيل، فكانت تجربة مختلفة ومهمة.
لكن بعد مرور الأيام، وانتهاء الحرب، بدأت جيهان السادات تظهر فى الصورة، وتتصدر المشهد بزياراتها لجرحى الحرب. فى هذا التوقيت اتصل المخرج الراحل محمد سالم ب«الأبنودى»، وأبلغه أن حرم الرئيس تريد منه العودة إلى القاهرة، من أجل أن يقوم بإلقاء قصائده فى احتفالات النصر، لكن «الأبنودى» اعتذر.
وكانت لدى الخال دوافع كثيرة لعدم التفكير فى العودة، منها أنه وجد صعوبة شديدة فى الخروج من مصر قبل الحرب، وتم التضييق عليه بصورة كبيرة، وتم رفض سفره أكثر من مرة، علاوة على أن الحرب انتهت، وبالتالى لم تعد هناك ضرورة مُلحَّة لعودته، على حد تعبيره.
بعد ذلك قام الخال بتغيير محل إقامته، ورقم تليفونه، ولم يكن يعرف أحد طريقًا له سوى صديقه الطيب صالح.
لكن فجأة رنّ جرس الهاتف، ووجد أن المتحدث هو عبدالحليم حافظ، وكان يتصل به من لندن.
تعجب الخال وسأله: «إنت جبت نمرتى منين؟»، فضحك، وقال له: «يا نهارك أسود بقالك سنين ماشوفتنيش وأول حاجة تقولها لى جبت نمرتك منين.. إنت فاكر إن الدولة مش عارفة إنت فين؟ يعنى علشان إنت فى إنجلترا مش هنعرف إنت فين؟!».
وبعد حديث طويل فى التليفون عن الصحة والأحوال قال حليم: «يرضيك يعنى نعمل أغانى للنكسة ومانعملش أغانى للنصر، ماتخليهاش فى تاريخك كده».
فردّ عليه الخال: «طيب خلاص، روح إنت وأنا جاى».
وبالفعل، عاد «الأبنودى» وعاد الثلاثى: عبدالرحمن الأبنودى، وكمال الطويل، وعبدالحليم حافظ، للعمل معًا فى الأغنية الوحيدة التى كتبها الأبنودى للنصر وكانت «صباح الخير يا سينا»، وبعد أن تم تسجيلها، كان عبدالحليم قد وصل إلى الأمتار الأخيرة فى رحلة مرضه، وقال ل«الأبنودى»: «ماتزعلش منّى أنا غنّيت وأنا تعبان جدًا»، فرد عليه الخال: «إنت غنّيت من القلب وصوتك كان كله إنسانية وعذوبة لم أرها من قبل».
وسافر حليم بعد التسجيل مباشرة إلى إنجلترا، ووقف الأبنودى ليودِّعه قبل أن يتجه إلى المطار، لكنه لم يعلم أنه اللقاء الأخير.
(3)
ورحل عبدالحليم، وودَّعه الخال إلى الآخرة، فى يونيو 1975 كان «السادات» يفتتح قناة السويس، ومعه عبدالرحمن الشرقاوى، وأنيس منصور، فنظر إلى الشط ووجد الفلاحين يروحون ويجيئون على الشاطئ، فقال: «مش دول بتوع عبدالرحمن الأبنودى بتوع وجوه على الشط، أمال الأبنودى فين؟».
ونشرت الصحف ما قاله الرئيس «السادات»، واتصل مدير مكتب السادات فوزى عبدالحافظ ب«الأبنودى»، وقال له: «سعادة الريس منتظرك فى استراحة المعمورة»، فرد عليه الخال: «يا عم أنا ماعرفش استراحة المعمورة ابعتولى عربية»، فقال له عبدالحافظ: «لأ.. اتصرَّف وتعالى.. وكلمنى لما توصل إسكندرية».
ووصل «الأبنودى»، واتصل بمدير مكتب «السادات» من تليفون أحد المقاهى الموجودة على الكورنيش، وبعد دقائق، جاءت له عربية سوداء اصطحبته إلى استراحة الرئيس.
وفى أثناء سيره بالسيارة وجد أن كل من تمر أمامه السيارة يضرب له التحية، لكنه لم يتبين إن كانت له أم لسيارة الرئاسة!
وبمجرد أن وصل إلى قصر الرئاسة، وضعه الحرس فى غرفة المكتب، ومرت الدقائق ثقيلة على الخال حتى جاء «السادات»، وقال له بصوت أجشّ: «أنت جيت يا عبدالرحمن»، فردَّ عليه: «أهلا سيادة الرئيس».
لكن حدثت حركة فى منتهى الخبث والغدر،
فقد وجد الخال ترابيزة طويلة جدًا، كأنها قد وُضعت من أجله، وبالتالى لا يستطيع مصافحة الرئيس إلا إذا أحنى رأسه!
وفجأة وفى أثناء مصافحته للسادات وجد مصورًا «طلع من تحت الأرض» خلف ظهره يلتقط له صورة، وهو يبدو منحنيًا أمام الرئيس، فأيقن أنها واحدة من ألاعيب «السادات»، وأيقن أيضًا أن رحلة عداء ستبدأ.
وبدأت الجلسة، ودار النقاش حول ديوان «وجوه على الشط» الذى كان يذاع كحلقات إذاعية بعد نكسة يونيو، وقال «السادات» ل«الأبنودى»: «لما كنت بافتتح قناة السويس لقيت ناسك اللى إنت كاتب عنهم، فتذكرتك، خصوصًا إنى كنت متابع حلقات «وجوه على الشط» يوميًا، وكنت باسمعها مع عبدالناصر فى أوقات كثيرة، وعشان كده أنا بقى عايزك تكمِّل بقى الانتصار، عايز بقه أشوف الفلاحين دول بعد النصر بقيت أحوالهم إيه.. وأنا عايزك تكلم الناس يا عبدالرحمن.. إحنا بتوع مصاطب.. مش زى صاحبك جاهين بتاع عبدالناصر». فقاطعه الخال، وقال له: «صلاح جاهين قيمة عظيمة وكبيرة، وهو مثلى لا يكتب إلا قناعاته الشخصية، ولا أحد يُملى عليه شيئًا».
فردَّ «السادات»: «أيوه مش دا اللى قال «منا فينا الموج والمركب والصحبة والزينة» يعنى بتاع عبدالناصر»، فقال له: «بس هو أول من قال الديمقراطية»، فقاطعه «السادات»: «أنا بحبّ بليغ حمدى، ومش بحبّ كمال الطويل».
ويعلق الخال بقوله: «يعنى هو لا يحب هذا الغناء اللى صنعه عبدالحليم وكمال الطويل وصلاح جاهين، أتارى هو عاش مع عبدالناصر كل ده وهو مابيحبوش».
خرج «الأبنودى» من استراحة «السادات» وهو يغلى من فورة الغضب، واتجه إلى خالد محيى الدين، وجلس معه وطلب منه الانضمام إلى حزب التجمع، فقال له زعيم التجمع: «النهارده بس أقدر أقول إن عندى حزب بجد».
وعلّق صلاح عيسى يومها قائلًا: «حد يدخل حزب من غير ما يقرا خطه السياسى»، فرد عليه «الأبنودى»: «أولا: ده مش حزب، ده اسمه التجمع لشرفاء مصر، ثانيا: علشان السادات يعرف إنه مش علشان قعد معايا قعدة ممكن يلوّث سمعتى».
ووقَّع «الأبنودى» على استمارة الانضمام إلى «التجمع»، لكن «السادات» لم يصمت!
بعدها قابل الخال أحد المحسوبين على السادات فقال له: «السادات بيعملك وزارة اسمها وزارة التثقيف الشعبى.. مبروك هتبقى وزير».
وظل فوزى عبدالحافظ ينشر فى الصحافة أخبارًا كاذبة عن لقاءات لم تتم بين «السادات» و«الأبنودى».
وفى اتصال آخر أبلغ «الأبنودى» فوزى عبدالحافظ، مدير مكتب «السادات»، بما يريده قائلا: «يا فوزى بيه أنا راجل شريف، والشارع هو اللى عملنى مش الحكومة، الحكومة اللى قبلكم حبستنى، فلو سمحت أنا مش بتاع حد، أنا من الشارع المصرى، وإذا كان «وجوه على الشط» أثّر فى الرئيس فده لأنى صادق مع الناس مش مع الرؤساء، وقول للريس إن أنا ما انفعش للشغلة دى».
فبُهت عبدالحافظ وقال: «كده يا أستاذ.. حاااااضر».
سيرة الخال .. " الحلقة الثالثة " .. الأبنودى: «أنا عمرى ما كنت مدّعى بطولة.. واللى بيقولوا عليّا مخبر مايعرفوش إيه اللى جرالى لأنى لا أبوح بأسرار مطارداتى»
قابلت مبارك ثلاث مرات وانتهت علاقتى به عندما قلت: بلا رئاسة.. بلا معارضة.. بلا بتاع!
«مبارك» أمر بعزل المسؤولين عن تأمين احتفال 6 أكتوبر لأن «عبدالعاطى صائد الدبابات» قام بمصافحته!
تم استدعائى إلى نيابة أمن الدولة العليا والمدعى الاشتراكى بسبب قصائدى وكنت أول من يحاكم ب«قانون العيب»
انتهت العلاقة بين السادات والأبنودى، لكن الحرب بدأت!
كان الأبنودى عائدًا للتوّ إلى بيته، وبمجرد أن جلس على الكرسى فتح التليفزيون، فوجد أن الرئيس السادات يخطب قائلًا: «أمريكا وأستراليا وكل الدول الصديقة، والشيوعيون الخونة أعداء الوطن واللى لابسين قميص جمال عبدالناصر».
وبعد أن أنهى السادات كلامه، أمسك الأبنودى بقلمه، وجلس على مكتبه، ووجد نفسه يكتب:
الوحى ده.. ماجانيش من موسكو
ماجانيش من أمريكا
ماجانيش غير من هنا من القلب
فأنا باعتقد إنى باحبّ الوطن
وأموت فداء للشعب
أنا صوتى منّى وأنا ابن ناس فُقَرَا
شاءت ظروفى إنى أكتب واقْرا
فباشوف وباغنّى
والفقرا باعتينّى
يا.. ناس.. يا هوه
قَبْلِنْ ما قول قوله
اتأكدوا إنه صوتى ده وصَدَر منى
أنا مش عميل حد
أنا شاعر
جاى من ضمير الشعب
وبعد أن انتهى من كتابة رائعته التى أطلق عليها «سوق العصر»، رن جرس الهاتف، فرفع السماعة، فوجد الدكتور سمير فياض يدعوه إلى احتفال بذكرى ميلاد الزعيم جمال عبدالناصر فى ميدان حلوان.
فوافق الأبنودى، وقرر أن يلقى قصيدته الجديدة، لكنه خشى ألا يُسمح له بإلقائها إذا عرف منظمو الحفل كلماتها التى تهاجم النظام، فاحتفظ بها فى جيبه حتى صعد أعلى خشبة المسرح، بعد أن خطب لطفى الخولى، وصبرى عبدالله.
لكن بمجرد صعوده وجد هتافات عالية ظن فى البداية أنها تحية له، لكنه فوجئ أنها بمثابة هجوم عليه، واكتشف أنها أغنية ضده من أغانى نجم والشيخ إمام.
ولم تهدأ عاصفة الهجوم عليه رغم محاولات البعض تهدئة الثائرين، حتى قال الخال عبدالرحمن الأبنودى: «أنا هاقول للى يسمع واللى مايسمعش لأ»، ثم بدأ فى إلقاء قصيدته «سوق العصر»، ووجد وزير الداخلية النبوى إسماعيل بجواره يسجل له كل كلمة يقولها فى قصيدته!
وبعد أول فقرة من القصيدة دوّت عاصفة من التصفيق، وخرج من الاحتفال محمولًا على الأعناق، وصار بعدها ضيفًا دائمًا وأساسيًا على الاحتفالات الكبرى التى ينظمها اليسار.
كان ذلك فى سبتمبر 1977، بعدها بأربع سنوات كتب الخال عبدالرحمن الأبنودى ملحمته «الأحزان العادية» فى يناير 1981، ثم فى الشهر التالى، وتحديدًا فى 21 فبراير فى عيد الطلبة كتب رائعته «المد والجزر» التى تنبأ فيها بمقتل السادات، وفى نفس التوقيت كتب قصيدته «لا شك أنك مجنون».
بعدما صارت قصائد الأبنودى بمثابة المدفعية الثقيلة التى تواجه نظام الرئيس السادات تم استدعاؤه إلى نيابة أمن الدول العليا، وعندما ذهب وجد رئيس النيابة عبدالمجيد محمود، النائب العام الأسبق، فى انتظاره.
وبدأ التحقيق، لكنه بدا هادئًا، ولم يتضمن سوى سؤال واحد فقط، هو: هل أنت صاحب قصائد «الأحزان العادية» و«المد والجزر» و«سوق العصر» و«المجنون»؟
فأجاب الأبنودى: طبعًا، وانتهى التحقيق.
ويعلق الخال بقوله: «أنا عمرى ما كنت مدّعى بطولة، واللى بيقولوا عليّا مخبر مايعرفوش أنا إيه اللى جرالى، لأنى لا أبوح بأسرار مطارداتى وقطع رزقى».
بعد أسبوع واحد فقط من تحقيق نيابة أمن الدولة العليا، وجد عبدالرحمن الأبنودى نفسه مطلوبًا للتحقيق معه أمام المدعى العام الاشتراكى.
وقبل أن يذهب كان على موعد مع الكاتبة فريدة النقاش التى حضرت إليه لتجرى حوارًا معه، فحكى لها أنه كان فى نيابة أمن الدولة، فتعجبت.
وقالت له: إنت مالك ومال نيابة أمن الدولة.
الخال: أنا كان بيتحقق معايا هناك الأسبوع اللى فات.
فريدة: طيب وماقُلتش ليه؟
الخال: هو أنا قُلت لكم على اللى فات ده كله؟ أنا مش باقول، دى مشكلتى.
فريدة: لا طبعًا مش مشكلتك.
الخال: يا ستى أنا متحوّل على المدعى الاشتراكى بقانون العيب.
فريدة: لا يمكن، إزاى ماتقولش! إنت مش عضو فى «التجمع»؟!
قلت لها: لا أنا عضو فى مصر، وبعدين أنا شايل حال نفسى، هو إنتى تعرفى إيه جرالى فى المهاترات دى كلها.
وخرجت فريدة من حوار الأبنودى، وروت ما حدث معه، فجاء إليه صحفى وصحفية يعملان لدى صحيفة «واشنطن بوست» الأمريكية لعمل حوار معه حول تفاصيل التحقيق معه، وإحالته إلى المدعى الاشتراكى، وتم نشر الحوار فى نفس اليوم الذى مَثُل فيه الخال أمام المدعى الاشتراكى.
ويروى الأبنودى تفاصيل ما جرى هناك بقوله: عند ذهابى للمدعى الاشتراكى وجدتُ يحيى الجمل وصبرى مبدى، أحد المحامين من الإسماعيلية، لكنى بطبيعتى لا أحب أن أصطحب محامين معى، وبمجرد أن ذهبت إلى مكتب المدعى الاشتراكى، قال لى مدير مكتبه: «يا سيد عبدالرحمن دول كلمتين بس مش عايزين محامين».
ودخلت إلى مكتب المحقق، وبدأ كلامه، وقال:
- أستاذ أبنودى.. حضرتك لك قصيدة اسمها «المجنون»؟
الأبنودى: قبل أى قصيدة، وقبل أى حاجة أنا عندى كلام أقوله، أنا أُدين هذه الجلسة الحقيرة، وأُدين هذا الاستدعاء.
فالجمل راح مزعَّق، وقال: أنت متطوّع! قلت له: «هو أنا جيبتك.. أنا قُلت لك تعالى معايا؟! دى ورقة باعتها ظابط مباحث مايسواش تلاتة تعريفة للمدعى الاشتراكى».
فغضب جدًا يحيى الجمل، قلت له: «هو أنت معاهم ولّا معايا.. أنا قُلت لك تعالى؟ إنت مالك بيّا!».
واستكمل المدَّعى تحقيقه:
المدَّعى: هل لك قصيدة اسمها «المجنون»؟
الأبنودى: طبعًا.. قصيدتان اسمهما «المجنون»، فى قصيدة «فى الأرض والعيال»، والثانية اسمها «لا شك أنك مجنون».
المدّعى: وهل ده شعرك؟
الأبنودى: طبعًا شعرى.. أنا شعرى لا يُقلِّد ولايُقلَّد، تسمعه تعرف إن ده شعر الأبنودى، ده سؤال؟!
المدّعى: ومَن تقصد بالمجنون؟
الأبنودى: باكلّم نفسى.. لا شك أنك مجنون أنك مصدق الحاجات الجميلة اللى السادات عمل عكسها وراح القدس، والناس مبسوطة بده، فأنا مجنون إنى مش زى الناس.
المدّعى: وهل أنت ضد الزيارة؟
الأبنودى: طبعا ضد.. إلا ضد! الشعب المصرى كله ضد، واللى مش ضد النهارده بكره هيبقى ضد.
ويحيى الجمل مستمر فى الصياح «أنت بتطوّع، ما تردّ على قد السؤال»، وأنا مستمر أقول له: لو سمحت!
شوية وجاء تليفون للمدّعى الاشتراكى، فتغيّر 180 درجة، وحط السماعة ووجه إلىّ الكلام:
المدّعى: يا أستاذ عبدالرحمن إنت راجل مسموع.. الرحمة، ماينفعش كده، وإنت شايف الوضع حساس فى مصر.. إمضى.
الأبنودى: مش هامضى.
المدّعى: امضى عَ الكلام اللى قولناه.
الأبنودى: برضو مش هامضى، احبسنى مش هامضى.
المدّعى: خلاص.
وأنا عمال أقول لنفسى إيه اللى خلاه تحول من الولعة للهدوء، فاستكمل بإذلال، وهو موصلنى للباب، سألنى:
المدّعى: برضو خِف، يعنى الولد والبنت الأمريكان دول..
الأبنودى: إيه دول؟
المدّعى: اللى عملوا معاك حوار.
الأبنودى: أنا حد عمل معايا حوار؟ ولا أعرف حاجة.
المدّعى: إزاى ده الحوار منشور النهارده.
الأبنودى: ولا أعرف حاجة.
عند الأسانسير، ويحيى الجمل بيسألنى هو كان بيقولك إيه، قلت له بيسألنى عن الصحفيين الأمريكان اللى عملوا معايا حوار لل«واشنطن بوست»، وأنا قُلت له لأ ماعملوش.
الجمل قال لى: ده أنا صدقتك.
قلت له: ما المفروض تصدق.
قال لى: ده إنت تقتل القتيل وتمشى فى جنازته.
قلت له: هو أنا صاحب المدّعى الاشتراكى؟! هو شغلته يسأل، وأنا شغلتى أقول لأ.
قاللى: أصل شايفك من أول اليوم ماقولتش لأ غير فى دى!
وبالفعل وجدت الموضوع منشورًا فى «واشنطن بوست» بعنوان: السادات يحاكم شاعر الفقراء بمقتضى قانون العيب.
بعد تلك الواقعة جاء خريف الغضب فى سبتمبر، وتم اعتقال عدد كبير من رموز الصحافة والسياسة، لكن عبدالرحمن الأبنودى لم يكن بينهم، رغم أنه بعد ما حدث كان من الطبيعى أن يأتى على رأس القائمة، لذلك سألت الخال عن السبب فقال: «أنا كنت أول اسم لكن السادات شطبنى بيده، قالهم ده لأ، ده له تصرف تانى خالص!».
ورحل الرئيس السادات، وفرح الأبنودى - لكنه لم يكن محقًا أبدًا فى فرحه - لدرجة أنه كتب قصيدة تمدح القاتل الذى اعتبره بطلًا.
وعندما سألتُ الخال عن تلك اللحظة، وعن شعوره وقتها قال: «كنت حاسس إن رحيله فى الوقت ده نعمة، بغض النظر عن إنه اُغتيل، لأنى ضد الاغتيال، ولأنى كتبت فى لحظة انفعال، خصوصًا أن عمر الاغتيال ما حل مشكلة، واللى هيغتال هييجى مكانه، وهيجيب واحد بعده أسوأ، وعنده عقدة إن اللى قبله اُغتيل، لذلك أشعر الآن أنى أخطأت، لكن وقتها استعدت كل البلاوى اللى شيلها لى بدون ذنب»، فخرجت قصيدة «المتهم».
ورحل الرئيس السادات والتقى الأبنودى مبارك ثلاث مرات.
الأولى كانت فى الثمانينيات، بعد أن سمع مبارك أغنية «مصر يا أول نور فى الدنيا»، وسأل عن مؤلف الأغنية، فقالوا له عبدالرحمن الأبنودى، فاتصل به صفوت الشريف، وأخبره أن مبارك يريد مقابلته.
واتصل به أحد لواءات الرئاسة، وأخبره أن ميعاد اللقاء فى التاسعة صباحًا، فردّ عليه الأبنودى: «أنا باصحى الساعة 11، يا ريت تأخرولى الميعاد شوية»، فتعجب اللواء وقال له: «يا أستاذ أبنودى ده ميعاد رئيس جمهورية»، وهذه المواعيد يتم تحديدها بدقة شديدة قبل أسبوع على الأقل، ولا يمكن تغييرها.
فذهب الأبنودى فى الميعاد لمقابلة مبارك، ورحب به، وقال له: أنا سمعت الأغنية وسعيد بها، وبدأ بينهما حوار امتد لساعات، وكان برفقة الدكتور جمال سلامة ملحن الأغنية.
قال مبارك: أنا أول واحد بيصحى فى البلد دى علشان أضمن أن العيش وصل للناس.
وردّ الأبنودى: يا ريس مفتاح البلد دى هى الديمقراطية.
مبارك: أنا لو ادّيت الديمقراطية بالشكل اللى انت بتقوله مش هاعرف أحكم، وآديك شايف حال البلد.
الأبنودى: ده رأيى، ولازم دائمًا تلتقى بالمثقفين وتحاورهم.
مبارك: إنتو كمان لازم تقفوا معانا.
الأبنودى: أقف مع الناس نقف معك.
مبارك: أنا طلعّتهم من السجون.
الأبنودى: دى حركة سياسية!
وانتهى اللقاء، وخرج الخال من مقابلة مبارك وهو يشعر أن لديه رغبة فى الإصلاح، فقد كان حسنى مبارك فى بداية عهده، ولم يكن الطغيان قد تسلل وقتها إلى قلبه.
المرة الثانية التى التقى فيها الأبنودى حسنى مبارك كانت فى التسعينيات، ووقتها كانت رائحة الصفقات الفاسدة لنجله «علاء» بدأت تفوح وتصبح حديث الناس، بل إن الشائعة الأكثر انتشارًا فى ذلك الوقت هى أن ابنه ألقى بالفنانة شيريهان فى مياه الإسماعيلية، «المدهش أن تلك الشائعة كلما تم نفيها تأكدت أكثر».
ويومها حاول الأبنودى التهرب من اللقاء لكن باءت محاولاته بالفشل، فذهب وهو يحمل رسالة واضحة يريد أن يبلغها للرئيس، وقال له: «الشعب المصرى عنده جورنال سرّى، ولم يطلق شائعة إلا وتأكد الناس من صحتها فيما بعد». وأضاف الخال: «الناس مش مبسوطة، بناء الكبارى مش كفاية»، فتساءل مبارك: «طيب أعمل إيه؟»، فرد الخال بحسم: «لأ من ناحية تعمل تقدر تعمل كتير».
وانتهت المقابلة.
أما المرة الثالثة التى التقى فيها الأبنودى مع مبارك فكانت دعوة لثلاثين فردًا من الكتّاب والمثقفين لمقابلة الرئيس فى قصر الرئاسة، وقتها كان الخال قد نشر قصيدته «عبد العاطى» فى جريدة «الدستور» حين كان يرأس تحريرها الأستاذ إبراهيم عيسى، وذهب المثقفون وجلسوا فى انتظار الرئيس.
ويروى الأبنودى ما جرى يومها قائلًا: لحظة دخول الرئيس كان واقفًا بجوارى زكريا عزمى، ورغم ذلك تجاهلنى ولم يُسلم علىّ كالعادة، فحاولت أرجع إلى الوراء قليلًا من جواره «فداس على رجلى كى لا أتحرك»!
ودخل حسنى مبارك، وسلّم على اثنين ثم التفت إلىّ، وقال بلهجة تهديدية: «ازّيك؟.. كويس؟»، قلت له: «آه كويس يا ريس»، وراح مكمل مَشْى. وأتذكر أن كل الكتاب السياسيين ورؤساء تحرير الصحف كانوا فى هذا اللقاء، لكن اللى «شال القعدة» كان الدكتور محمد السيد سعيد، وقد شن هجومًا ضاريًا على مبارك ونظامه، وتحدث عن كل شىء فى فساد الدولة وفساد أبنائه.
لكن علاقة الأبنودى بمبارك تبدلت بعد قصيدة «الاسم المشطوب»، فبعد نشر القصيدة بيومين، اتصل بزكريا عزمى من أجل قرار علاجه على نفقة الدولة، فلم يردّ، وتنصّلت الدولة من علاجه، وكانت القطيعة.
ولقصيدة «عبدالعاطى» قصة، ففى أثناء واحد من احتفالات نصر أكتوبر تمت دعوة أبطال الحرب، ومن بينهم البطل عبدالعاطى، صائد الدبابات، وكان الكل يسأل عنه، لكنه كان يجلس فى آخر القاعة، وبمجرد أن تم الإعلان عن وجوده فى الحفل دوّى تصفيق حاد فى أرجاء مسرح الجلاء التابع للقوات المسلحة لدرجة جعلت المسرح يهتزّ من فرحة الحاضرين به، ومن حماستهم فى التصفيق له.
لكن حدث ما لم ينتظره أو يتوقعه أحد!
فعندما تقدم عبدالعاطى لمصافحة الرئيس، سلم عليه مبارك بتعالٍ شديد، وبجفاء أشد، وفى اليوم الثانى صدر قرار بعزل اللواء رئيس نادى الجلاء من منصبه، وكذلك تم عزل بعض المسؤولين عن تأمين القاعة، وكأنهم استنكروا كيف لهذا الرجل الفقير أن يسلّم على الرئيس؟!
فاستشاط الأبنودى غضبًا عندما علم بما حدث، وقال لنفسه «الراجل ده أحسن من ولاد الرئيس ومن الرئيس نفسه.. هذا الرجل قدم نفسه للموت علشان بلده، ودلوقتى مش لاقى ثمن العلاج»، ولكن لم تكن فكرة القصيدة قد أتت بعد.
لكن بعد فترة وفى أثناء رحلة علاج صعبة عاشها الخال فى واحدة من مستشفيات فرنسا، تذكر كل ما جرى، وشعر بحجم المهانة التى تعرض لها واحد من أنبل وأعظم أبطال مصر على مدار تاريخها وهو عبدالعاطى، ورغم أن الخال كان تحت تأثير المخدر ظلّ عبد العاطى يُلحّ عليه، فغاب عنه النوم، فقام وجلس على سريره، ولم يكن معه سوى قلم دون ورق، فكتب رائعته «الاسم المشطوب» على ورق مناديل! والتى جاء فيها:
كلّمنا وانت فى السريرعيّان
عن اللى ولَّى.. وخان
وعن اللى باع النصر فِ الدّكان
مش ده الوطن
اللى اتفقت معاه يا صاحبى زمان
تِئن والأنين مرير
وانت بتتقلب على السرير
سرير فقير
تطلق زفير الحزن فى النفس الأخير
ولا الشاشات بكيت
ولا المذياع أذاع
فاكشف غطا وجهك
ومزّع القِناع
بَلا حكومة
بَلا رئاسة
بَلا معارضة
بَلا بتاع!
الخال يروى سيرته ..الحلقة الرابعة ..الأبنودى: سرقت كرسى القسيس لأنى وجدته مناسباً لمكتبى.. ولم يخب ظنى أبدًا بفضل بَركة القسيس!!
كتبت قصيدة «يامنة» فى 10 دقائق على ترابيزة المطبخ بعد أن علمت بوفاتها!
بعد اعتقالى صادر الأمن قصيدة «جوابات حراجى القط» وقالوا لى «ده شعر شيوعى»!
«حراجى» شخصية حقيقية وكان يلعب معى
فى أبنود لكنه لم ير السد العالى طوال حياته!
لم يجد الخال كرسيًّا مناسبًا لمكتبه الصغير سوى كرسىّ القسيس!
فذهب إلى أحد معارض الموبيليا القديمة، وطلب منه مواصفات الكرسىّ الذى رآه فى الكنيسة، لكنّ صاحب المعرض أكد له صعوبة ذلك، لكن الأبنودى أصرّ على كرسىّ يشبه كرسىّ القسيس وأمام إصراره، قرر صاحب المعرض - المحبّ للخال - أن يساعده بصورة لم تخطر على باله، ولا يمكن أن تخطر على بال أحد!
قرر صاحب معرض الموبيليا أن يُرسل أخاه الصغير ليقفز فوق سور الكنيسة، ويتسلل إلى حديقة الكنيسة، ويسرق الكرسىّ الذى سرق عقل الأبنودى!
الأبنودى ما زال - حتى الآن - يضحك كلما تذكر هذه الواقعة، ويقول: «بس بصراحة الكرسى فيه بَركة القسيس وخير ومعطاء.. أقعد عليه فلا يخيب مقصدى».
لكن المدهش أن الكرسىّ الذى فعل الأبنودى بسببه هذه المغامرة الكبيرة لا تلحظ عين زائره أى فرق بينه وبين أى كرسىّ عادىّ، فهو بسيط فى كل شىء، لا زخرفة زائدة، ولا ضخامة، ولا فخامة، ولا شىء، سوى أن الأبنودى رآه بعين شاعر يرى فى الأشياء ما لا يراه سواه، فيكفى أنه قد رأى فى هذا الكرسىّ راحته.
ونفس الطريقة التى اختار بها الأبنودى الكرسىّ اختار بها مكتبه، فهو مجرد مكتب خشبى صغير، يشبه الأنتيكات، لا يزيد عرضه على نصف متر، ولا طوله على متر، اشتراه الأبنودى فى منتصف الستينيات من شارع هدى شعراوى، وتنقّل به بين أكثر من سكن، ولم يفرّط فيه أبدًا، رغم أن صديقه المهندس نبيل غالى أهداه مكتبًا فخمًا وضخمًا لا يوجد منه سوى نسخة واحدة فى قصر الملك حسين ملك الأردن، لكن الأبنودى رفض الجلوس عليه، ولم يتخلَّ عن مكتبه.
وكانت من أوائل القصائد التى كتبها عبدالرحمن الأبنودى على هذا المكتب ديوان «أحمد سماعين.. سيرة إنسان» وتحديدًا الجزء الأول والثالث منه حين كان يسكن الخال فى باب اللوق، أما الجزء الثانى فقد كتبه فى السجن.
والبطل الحقيقى لهذا الديوان هو «محمد مصطفى» - ابن عم الأبنودى - مات أبوه، وتزوجت أمه «نوارة» من عمه «موسى العبور»، فظل مع جدته يشاغبها وتدعو عليه بالطاعون، وبأن يعمى فلا يرى تحت رجليه.
وكان «محمد مصطفى» - أو أحمد سماعين - يصرخ كمن مات له عزيز ويصيح فى وجهها مطالبا إياها بأن تعدّد عليه وتلطم وتنوح وتبكى قائلًا: «ابكى يا ولية، قطّعى خدودك، وعددى على «مرمَّد».. «مرمَّد مات»!
و«مرمَّد» على وزن «محمد» كما ينطقها سكان أبنود، و«مرمَّد» فيها من الرماد والشؤم ما يفزع فكانت تبحث حولها عن أى شىء تضربه به فلا تجد، فتصيح فى عجز: أياكش تموت صُحّ صُحّ وما تلقى اللى يبكى عليك يا «قزين»، و«القزين» هى مزيج من حزين ويتيم ووش فقر.
لكن هذه السيدة الصلبة كان لها مكانة كبيرة فى قلب الخال، فكان يناديها ب«مامتى عزيزة» ويصفها بأنها أقوى من الأصحّاء، فلم تَعُقْها «بَركتَها» على الأرض كسباطة النخلة - التى تسقط مقلوبة بعد قطعها فتفرش نفسها على مساحة كبيرة من الأرض - عن التمسك ببقايا العمر، ينقلونها من الظل إلى الشمس ومن الشمس إلى الظل، تعاند الفصول وتناطح الزمن، وتخجل من أن تصبح متواضعة بسبب فقدانها قدراتها الحسية؛ فلسانها كان أقوى من لسان أى امرأة فى الحى.
لكن لماذا اختار الأبنودى شخصية «محمد مصطفى» أو «أحمد سماعين» دون غيره لتخليده فى ديوان كامل؟
هكذا سألت الخال.
وأجاب: كان جدع، ومالوش حد فى الدنيا.
فقد كان يفعل كل شىء بنفسه، إذا أراد أن يأكل يذهب ليصطاد سمكته من النيل، وكان أمهر أبناء جيله فى صيد السمك، وعلمنى صعود النخل، وصيد الحمام الجبلى، فقد كنا نجلس معًا ننصب الفَخّ للحمام الجبلى لنصيده من خلف ساتر، وفى أثناء جلوسنا كان دائم الحكْى عن والده وأعمامه ويُتْمه فى سن صغيرة، فلقىَ كلامه صدًى فى نفسى.
المدهش أن الأبنودى روى سيرة «أحمد سماعين» وهو حى يُرزق، وحاول أن ينقله للعيش معه حين كان الخال يسكن فى السويس - حتى يرحمه من العمل فى مناجم الفوسفات التى كان يعمل بها معظم فقراء أبنود فى ذلك الوقت - فذهب إليه، وقطع خمسة كيلو مترات محنىّ الرأس تحت الأرض حتى وصل إليه وسط غبار كثيف يُعمى العيون، ويسد الأنوف، ويسبب كل الأمراض الصدرية، واصطحبه معه هو وأسرته إلى مزرعته، واستعادوا ذكريات الطفولة، لكنه أبى أن يكون عبئا على أحد، وترك الخال وعاد إلى منجمه، حيث يحسبه الجاهل غنيًّا من التعفف.
لكنه بعد سنوات قليلة مثلما عاش غريبًا مات فجأة!
ففى أثناء عمله فى «منجم حِميضات للفوسفات» فجأة تصاعدت أبخرة من المنجم، وكلما ذهب أحد ليرى ما جرى لا يعود، حتى قرر محمد مصطفى أن يخوض المغامرة محاولا إنقاذ رفاقه لكنه ذهب ولم يعد، ولم تبقَ من سيرته سوى الصورة التى رسمها له الخال فى قصيدة «أحمد سمعين»:
لكن قصيدة «يامنة» لها قصة أخرى.
فقد كان الخال فى زيارة لقريته أبنود، وكعادته ذهب إلى ابن عمه حاملا الهدايا التى يقوم الأخير بتوزيعها نيابة عنه.
كان يفعل ذلك من أجل العمة «يامنة» وحدها؛ لأنه يعرف أنها لن تقبل منحة أو مساعدة من أحد، لكنها تقبل الهدية، وكان فى كل مرة يذهب إليها ويجلس معها تسأله «هتيجى العيد الجاى.. وهتشرب مع يامنة الشاى؟» وهو يُجيبها: «هاجى يا عمة».
لكن هذه المرة جاء ولم يجدها!
فحين قال الخال لابنة عمه: «يلّا بقى نطلع على عمتك»، فردّ عليه: «استنى بس ناكل لقمة»، فقال له الخال متعجبًا: يا عم مش هاكل.. نسلم بس على «يامنة» الأول. هنا اضطُّر ابن عمه ليخبره بما حدث، فقال له: «بصراحة أصلى ماكنتش هاقول.. يامنة ماتت».
وقعت الصدمة على الخال. حزن على عمته، وغضب من ابنه عمه، وقال له: «يخرب بيت أبوك.. أنت قاعد ومخلّينى أشرب الشاى.. وأضحك ويامنة توفّت»، فردّ عليه: «أنا مش عارف أقولها لك كيف؟! ده لسه الأسبوع اللى فات، وإحنا لسه بنروح المندرة نعزّى».
فقام الأبنودى على الفور، وذهب إلى المندرة ليؤدى واجب العزاء فى عمته «يامنة»، ثم عاد إلى القاهرة محمًّلا بعبق سنوات طويلة مضت.
وحين وصل إلى بيته وجد أن النوم قد خاصم جفونه، فدخل إلى المطبخ ليحتسى فنجانًا من القهوة، وأمسك بالفنجان وجلس على ترابيزة المطبخ وفى 10 دقائق فقط تذكر تفاصيل ما جرى بينهما فى آخر لقاء جمعهما، ووجد نفسه يكتب:
والله وشِبْت يا عبدالرحمن
عِجِزْت يا واد؟
مُسرع..؟
ميتى وكِيف؟
عاد اللى يعجز فى بلاده
غير اللى يعجز ضيف!!
هلكوك النسوان؟
شفتك مره بالتلفزيون
ومره ورُّونى صورتك فى الجورنال
قلت: كِبِر عبدالرحمن!
أمّال أنا على كده
مُتّ بَقَى لى مِيت حُول!!
وغادرت «يامنة» الحياة، وقبْلها «أحمد سماعين»، لكنهما لم يغادرا ذاكرة الخال، فهو ما زال يذكر، ويتذكر، ويروى ذكريات أيام الصبا حين كان يذهب إلى بيت عمته «يامنة» ويجلس معها هو و«أحمد سماعين».
فقد كان بيتها مخزنا للسمك، بفضل فيضان النيل الذى هدم جداره الخلفى، فاستقر السمك بكل أنواعه بين جدرانه الباقية، وكان الحال يظل كذلك لمدة شهرين كاملين حتى يبدأ النهر فى جمع مائه من جديد، فيتسرب منه الماء شيئا فشيئا تاركًا بعضه فى فناء بيت «يامنة» الخلفى.
وفى ذلك اليوم الموعود، كان يذهب الخال بصحبة «أحمد سماعين» وآخرين، وينزعون ملابسهم، وينزحون الماء عبر سور الجدار الذى سقط، «أحمد سماعين» يقوم بالجهد الأكبر فى مثل هذه الشؤون.
فالسمك كان عشقه الأكبر، لأنه لا يأكل اللحم، ومن الممكن أن يجلس زمنا لا يعكر صبره قلق إلى أن تشفق عليه سمكة فتأتيه لتنتحر مختارة راضية وتدخل سنارته بإرادتها - على حد وصف الخال- فمن أجل السمك كان يبذل جهدًا ما بعده جهد تحت إشراف «العمة يامنة»، ثم شيئا فشيئا مع نقص الماء يبدأ السمك يدرك المأزق الذى وقع فيه فيتخبط بحثًا عن ثغرة للنجاة، لكن «أحمد سماعين» يكون قد رفع السور، فلا تتمكن سمكة من فك حصارها للانسحاب مع ماء النهر الذى قدمت معه، تتحسر، وهى تحس أن الماء عائد من دونها، ثم يقسّم السمك ليأخذ كل من شارك نصيبه.
أما الآن فلا فيضان، ولا بيت العمة ولا شىء من أبنود التى عرفها الخال، فبعد رحيل «يامنة» صارت زيارة الخال لأبنود مقتصرة على مُتحفه، ومكتبته فقط.
لكن السؤال الذى يطل برأسه دائمًا: هو لماذا بقيت قصيدة «يامنة» فى الذاكرة؟ لماذا ظلت مطلبا جماهيريا يطلبه الناس من الخال أينما حَلّ؟ لماذا ارتبط بها الناس؟ لماذا صار الجميع يعرف يامنة ويحبها؟ ولماذا صارت أقرب قصيدة إلى قلوب الأمهات؟ وما الفرق بين «يامنة» وغيرها من القصائد؟
والجواب: يامنة حالة فريدة ومتفردة، لا تحدث كثيرا، فبمجرد أن تقرأها أو تسمعها تتذكر أمك أو جدتك أو خالتك أو عمتك، وتشعر أن هذه القصيدة قد كُتبت من أجلك، فهى تعبر عن كل ما جال بخاطرك، وتتحدث بلسانك عما لم تستطع أن تواجه نفسك به، وتعيش معك وبداخلك، فكل كلمة فى القصيدة تلمسك، تلمس إحساسك، وتخاطب وجدانك، وتجمع كل مفارقات الحياة الإنسانية من موت وحياة، وفرحة، وألم، وضحك وبكاء، وتألق وخفوت.
ويامنة شخصية حقيقية، كانت زوجة عم الأبنودى، واسمها الحقيقى «آمنة» لكن فى الصعيد ينطقونها «يامنة» أى «يا آمنة»، وهذه المرأة التى بلغت من العمر عتيًّا أدركت فلسفة الحياة الإنسانية وجوهرها ورأت ما لا نراه، وعرفت ما لا يعرفه سوى أصحاب البصيرة النافذة والرؤية الثاقبة والحكمة البالغة، لذلك كان من المنطقى أن يرتبط بها الأمهات، وتشعر بسعادة بالغة حين تسمعها أو تقرؤها، فهى تُخلِّد كل أم، وتُكرم كل سيدة مُسنّة، وتضعها فى مكانة عالية لا يصل إليها أحد، لذلك بقيت يامنة وستبقى.
لكن فى عام 1966 تم اعتقال الخال، وتمت مصادرة كل أوراقه التى تضم أشعاره.
وكان من بين هذه الأوراق ديوانه الأشهر «جوابات حراجى القط»، وعندما طلب منهم الخال أوراق الديوان وأبلغهم أنها لا تحوى سوى أشعاره رفضوا، وقالوا له «دا شعر شيوعى»!
يومها اعتبر الأبنودى أنه لم يكتب هذا الديوان، وأن «حراجى» انتهى إلى غير رجعة، خصوصًا أنه لم يكتب أبدًا أى قصيدة مرتين؛ لذلك حاول أن يقنع نفسه بأنه لا توجد قصيدة اسمها «حراجى»، وبعدما خرج من السجن، وحدثت النكسة سافر إلى السويس واستقر هناك.
لكن فى عام 1969 حدث تغيُّر أعاد «حراجى» إلى الحياة.
وقتها كان السد العالى هو حديث مصر بأسرها، وأملها الباقى بعد النكسة فى إعادة الأحلام التى قضت عليها 5 يونيو، وكان الأبنودى يرى أن هذا المشروع يمكن أن يُغيّر وجه مصر إلى الأفضل والأجمل، فقرر زيارة السد، والكتابة عنه.
فذهب بصحبة صديقيه سيد خميس، وسيد حجاب لزيارة وزارة السد العالى حيث كانت فى نفس الشارع الذى يسكن فيه الأبنودى، وكان وقتها سيد حجاب قد نشر قصيدة جديدة فى «الأهرام» (فى مربع صلاح جاهين) وعندما وصل الثلاثة إلى الوزارة وجدوا الموظف المسؤول عن رحلات السد فى الوزارة، ويُدعى «حسنى أمين» (ما زال صديقا للخال حتى الآن) محتفظا بقصيدة «حجاب» تحت زجاج مكتبه، فعندما شاهدوا ذلك، قالوا «كده ضمنّا إننا هنروح السد العالى مرتاحين».
لكن عندما طلبوا من الموظف الذهاب إلى السد العالى ليكتبوا عنه، قال لهم: «لا تتفاءلوا كثيرا إحنا مش فى الاتحاد السوفيتى الذى يُرسل الشعراء والكُتاب إلى المشاريع القومية، وأنصحكم بألا تحاولوا مرة أخرى، فلن تذهبوا».
وبالفعل تم رفض الزيارة، فعاد الثلاثة، وقد خاب مسعاهم.
لكن الخال لم ييأس، وقرر أن يكرر المحاولة مرة أخرى، ولكن عن طريق آخر، وهو أن يذهب بنفسه وعلى نفقته الشخصية كأى مواطن بسيط يريد أن يذهب ليرى واحدًا من أكبر مشاريع بلده على مدار تاريخها، فذهب إلى محطة القطار، وقام بحجز تذكرة سفر إلى أسوان، وسافر بالفعل حين كانت الرحلة تستغرق يومين فى الطريق، وبمجرد أن وصل إلى مدينة أسوان سأل عن الطريقة التى يذهب بها العمال إلى السد العالى.
وبعد ساعات قضاها الأبنودى فى رحلته من مدينة أسوان إلى السد العالى واضطر خلالها إلى الاستعانة بأكثر من ثلاث وسائل مواصلات، وصل أخيرا.
وبمجرد وصوله سأل عن المكان الذى يقيم فيه العمال القادمون من قرية أبنود للمشاركة فى بناء السد، فدلّوه على المكان.
ويروى الخال ما رآه هناك بقوله: عندما وصلت إلى مكان عمال أبنود وجدت العيال اللى كانوا معايا فى المرعى، وقد كبروا ويعملون فى السد، فى مكان لم يطرق من أيام الفراعنة، وقعدت معاهم فى السد نحو 17 يومًا، وكان أكلنا اليومى «المِشّ»، وجبتلهم لحمة مرتين، وكان بيكون معاهم بصل وثوم وملوخية ناشفة وطماطم ناشفة وحِلل، ولم يكن طبعًا فيه «استحمام»، فكانوا يملؤون صفيحة مياه من النهر ويغتسلون بها، وينتظرون ملابسهم حتى تجف، لكنى وجدت أن العمل قد غيّرهم، وأثّر على لهجتهم.
ويستطرد الخال: بعد تجربة إقامتى فى السد العالى، تذكرت «حراجى البِسّ» صديقى فى الطفولة الذى كان معى فى أبنود، وقلت لنفسى لو «حراجى» كان هنا مكان أى واحد من الرجالة دى، هل كان هيتغير؟، فقلت أجرّب أنقله إلى هذا المكان حتى لو على الورق، خصوصًا أن حراجى لم يرَ السد العالى، ولم يذهب إليه أبدًا!
ويفسر الخال سر اختياره ل«حراجى» ليكون بطلا لديوانه بقوله: «حراجى» نسبة إلى الأرض «الحَرَجة»، وقد كان عريضا وضخم الجسم، وكنا نلعب معًا، ولكن لعبه كان عنيفا بسبب جسمه، وكان من يأخذ «خبطة» من حراجى تعلّم فى جسمه ثلاثة أشهر، ولكن حراجى كان عنده «شوية هبل»؛ لذلك أردت من خلال شخصيته أن أرسم سذاجته الجميلة التى تصورتُ شكلها بعد أن تأثرَت بالماكينات الحديثة»، فيقول لزوجته:
فى الراديو يا فاطنة يقولوا:
بنينا السد.. بنينا السد
لكن ما حدّش قال:
السد بناه مين
بنوه كِيف
نايمين ولّا قاعدين!
بينما ترد عليه زوجته فاطمة أحمد عبدالغفار التى تريد أن يعود لها بعد أن طالت غيبته عليها قائلة:
أهى هيّه هيّه الحدوتة
مش كنت هنا بتزرع فى أراضى الغير
وآخر الحُول تكون اتهدّيت
والغير ياخد الخير؟
عندك نفس القصة يا حراجى
صدّق فاطنة وتعال
هات الرجّال وتعال
لو راح يدّوك كانوا ادولك
همّا ما عاوزين منك يا حراجى
غير حيلك
لميتَى حنقعد عُبطه كده
يلعب بدماغنا دِيَّتى وده
لكن المفاجأة أن الخال رأى «حراجى» بعد أن كتب ملحمته، فقد التقى معه فى نهاية الستينيات بالصدفة.
فقد كان يقود الخال سيارته فى منطقة «شندورة» على القنال، وخُيِّل إليه أنه شاهد «حراجى»، فعاد بالسيارة إلى الخلف، وتأكد أنه هو فعلا، وأراد أن يعرف إذا كان ما زال ساذجا على حاله أم لا، فنادى عليه، وقال له: اركب فى الكرسىّ اللى ورا هوصلك بيتك. فصعد «حراجى» إلى سيارة الخال، لكنه وجد أنه لا يسير فى طريق بيته.
فصاح «حراجى» قائلًا: «مودّينى فين يا بيه» فقاطعه الخال: «اسكت خالص وانزل، أنت جاسوس بتشتغل لحساب إسرائيل»!
فبكى «حراجى» لكنه عندما نظر فى وجه الأبنودى ضحك، وعانقه بشدة وكانت آخر مرة يرى فيها الأبنودى، حراجى الذى لم يعمل فى السد العالى إلا من خلال ملحمته «جوابات حراجى القط».
ما رواه الخال لى عن حراجى الحقيقى، دفعنى إلى أن أعرف منه مَن تكون «فاطمة أحمد عبدالغفار» الحقيقية التى رسم لها صورة شعرية بديعة؟ هل كان يتصور والدته فاطمة قنديل؟ أم أنها مجرد شخصية خيالية؟
فجاء جواب الخال مفاجئا بقوله: «فاطمة أحمد عبدالغفار لا تشبه أمى لكنها صورة من فاطمة أختى، التى اكتسبت من طباع فاطمة قنديل وستّ أبوها، فأخذتها نموذجًا لزوجة حراجى، التى تمتلك هذه الطاقة الهائلة من الحب والحنان، فأختى حين تعرّض زوجها لمحنة كبيرة وغاب عنها لمدة ثلاث سنوات، كانت لها مقولات مثل «شامّة ريحة هدومه ومش باقْدَر أنام»؛ لذلك هذا الانتماء الشديد إلى زوجها وحنانها المدهش ورِقّتها الجميلة هو ما دفعنى لاستحضار صورتها وأن أكتب عن زوجة حراجى، خصوصًا أن أختى «فاطمة» تسكن وجدانى ولا يمر يوم واحد دون أن أتحدث معها، وأطمئن على أحوالها».
لذلك كانت لغة زوجة حراجى ناعمة، وصادقة، ومؤثرة، ومُعبرة عن نساء عانين كثيرا من غياب أزواجهن، لذلك تقول «فاطمة»:
يعنى بعد ما تخرَب يا أبوعيد
حيقولوا حراجى كان شغال ومفيد
ادُّولوا وظيفة بيه؟
إياها السبعة جنيهات!!
لكن السؤال لماذا صارت جوابات حراجى القط إلى زوجته فاطمة أحمد عبدالغفار مشهورة إلى هذا الحد وباقية إلى الآن؟
والجواب كما ورد على لسان الخال:
أولًا: لأن هذه القصيدة ليس لها سابقة فى الشعر.
ثانيًا: صدق التجربة، ففاطمة أختى وبيننا تاريخ طويل مشترك يجعلنى قادرا على تجسيدها، ونموذج «حراجى» هو نموذج الشباب الذى عشت معه فى قريتى وهو يشبه الشباب الموجود فى كل القرى.
ثالثًا: زمن السد العالى هو زمن العظمة كلها، ولا يوجد أى عمل حتى دراسى عن السد العالى ظل على قيد الحياة، والناس لا تقرأ الرسائل بالضرورة من أجل السد العالى، ولكن للعلاقة الفريدة بين حراجى وزوجته، وفى المشاعر الاستثنائية التى تجمع بينهما.
ويواصل الخال حكاية حراجى قائلًا: «لكن ديوان حراجى كان ممكن أكتبه من غير ما أروح السد العالى، لأن الشعر مش مرتبط بمكان، وحراجى أول عمل درامى شعرى لى؛ لذلك كلما ذهبت وألقيته فى أمسية وجدت صدًى رهيبًا له». لكن زيارة الأبنودى للسد العالى التى أنتجت لنا رائعة «جوابات حراجى القط» لم تكن الزيارة الوحيدة التى قام بها الأبنودى للسد فى هذا التوقيت، فقد ذهب الأبنودى مرة أخرى حين كان الزعيم جمال عبدالناصر يفتتح الساتر الترابى، وكان بصحبته الشاعر الكبير محمود حسن إسماعيل صاحب القصيدة الخالدة «النهر الخالد».
يومها أخذ الخال قاربًا فى النهر وذهب إلى العوّامة التى يجلس بها «محمود إسماعيل» خلال فترة الرحلة، ونادى عليه «يا عم محمود» وطبعا لم يتخيل «محمود إسماعيل» أن ينادى عليه أحد من الماء، فقال «مين.. عبدالرحمن!» فرد عليه الخال: «انزل أوّريك النهر الخالد اللى كتبت عنه وأنت ماشفتوش.. أنت فاكر اللى فى بلدنا دُكهَة نهر»، وقام الاثنان بجولة نيلية فى جزر أسوان.
لكن الخال لم يكتب حرفًا واحدًا عن السد العالى بعد هذه الزيارة المُرفهة التى كانت ترعاها الدولة، بينما تجلت إبداعاته حين زار السد مع الأنفار الذين قال عنهم على لسان حراجى لزوجته:
فى السد يا فاطنة
صنفين مِ الأنفار:
صنف اللى تبع الشركة
وصنف مع مقاولين
وأنا كنت مع مقاول
من يوم ما باعنى الحاج حسين
لحين ما الأستاذ طَلْعت
دلدلِّى حِبال الخير
ونَتَعْنِى من الكَحْت
ونَجَدْنى من تعب الأنفار.
سيره الخال ..الحلقة الخامسة..«الأبنودى»: ذهبت لمحمد رشدى وهو يفكر فى الاعتزال وقلت له «ده زمنك انت مش زمن عبدالحليم».. فعاد بأغنية «تحت الشجر يا وهيبة»
نقلا عن اليومى :
عبدالحليم قال لى: أنا عايز أغنّى اللغة بتاعتك.. لكن أنا ماقدرش أقول المسامير والمزامير زى صاحبك رشدى!
كتبت أغنية «عدوية» فى بنت كانت تعمل خادمة فى منزل ملحن صديقى!
قلت ل«حليم»: «إحنا لو عملنا أغنية مافيهاش إننا دخلنا حرب وانهزمنا.. هننضرب بالجزم»
تَكرَّر هذا السؤال كثيرا لكنه فى كل مرة كان يحمل جديدا!
سأل صلاح جاهين، الأبنودى: «مافيش حاجة فى جيبك أنشرها؟ عشان مش قادر أرسم»، فرد عليه الخال: كاتب عن دودة القطن.. تلزمك؟.. «ماتقولش حاجات مقسومة.. ماتقولش الأيام سود.. قوم من أحلاها نومة.. وانجد قطنك من الدود».
فنشرَها جاهين، وحدث ما لم يتوقعه أحد.
فبمجرد نشر هذه الكلمات فى مربع عمنا جاهين فى جريدة «الأهرام»، سمعها الخال بعد أيام فى الراديو!
كان الأبنودى يسير بصحبة صديقيه صلاح عيسى وسيد خميس، فسمع أغنية فى الراديو فقال لهما «مش دى شبه الكلام اللى أنا كنت كاتبه فى الجورنال؟!» ثم سمعوا المذيع فى الراديو يقول «أغنية أنقذ قطنك.. غناء: فاطمة على.. تأليف: عبدالرحمن الأبنودى». كانت هذه المرة الأولى التى يسمع فيها الأبنودى كلماته مُغنَّاة، واندهش كيف وصلت إلى الإذاعة؟ ومَن الذى اختارها؟ وكيف تحولت لأغنية متكاملة بهذه السرعة؟
والجواب كان عند جاهين، فعندما حكى له الأبنودى ما حدث، قال له: الأستاذ الشجاعى طلبها، وهو المسؤول عن تحويل الأشعار إلى أغانٍ للإذاعة، ويريد أن يقابلك. وبالفعل قرر الأبنودى أن يذهب لمقابلته، ولكنه لم يجد ملابس مناسبة ليذهب بها إلى الإذاعة لأول مرة فى حياته!
واقترح عليه صديقه الملحن إبراهيم رجب أن يعطيه قميصا جديدا، ومعه بدلة جديدة، اشتراها أخوه، لكن البدلة كانت مثيرة للسخرية بلونها الفسفورى، فبمجرد أن وصل الأبنودى إلى مبنى الإذاعة، والتقى محمد حسن الشجاعى، سأله: انت مين؟! فأجابه الخال: عبدالرحمن الأبنودى، فعلّق قائلًا: إيه اللى انت عامله فى نفسك دا؟ انت طاووس؟ فردّ عليه الأبنودى: أنا لبستها علشان أقابلك، فضحك وقال: يا راجل كنت جيتلى بهلاهيلك كان أحسن لى. المهم، تعرف تكتب أغانى؟
الأبنودى: أيوه.
الشجاعى: بس تبطل اللغة اليمنى اللى بتكتب بيها.
الأبنودى: حاضر.
وتركه الخال ومضى، وحكى لصديق كفاحه سيد خميس ما جرى، فأصر خميس على أن يحتفلا بمناسبة أن الأبنودى صار كاتبا للإذاعة ب«أكلة كباب»، وبعدها عادا إلى البيت الذى كان عبارة عن عوامة فى منطقة الكيت كات، وأغلق الخال الباب على نفسه، ليتفرغ للكتابة، فكتب ثلاث أغانٍ دفعة واحدة، وكانت بالترتيب: الأولى عن السد العالى، وتقول كلماتها «اتمدّ يا عمرى اتمدّ.. وأعيش وأفرح وأشوف بعنيّا السدّ» وغناها محمد قنديل، والأغنية الثانية «بالسلامة يا حبيبى بالسلامة» التى تذاع كل صباح، أما الثالثة فكانت «تحت الشجر يا وهيبة». وذهب للشجاعى، وعرض عليه ما كتبه، فوافق على الأغنيتين الأولى والثانية، وعلّق على أغنية «تحت الشجر يا وهيبة» قائلًا: «أنا مش قلت لك تبطل الكتابة اليمنى دى.. مين اللى هيغنّيها؟!» فردّ عليه الأبنودى حاسما وقاطعا: محمد رشدى اللى غنّى «قولوا لمأذون البلد».
لكن الشجاعى فاجأه قائلًا: «يا ابنى دا حصلت له حادثة فى طريق السويس، واتكسر، وقاعد فى بيتهم»، فرد الأبنودى بحدة: «هو اتكسر ولا صوته اللى اتكسر، بس سيبنى أروح له».
وفى أثناء مناقشات الشجاعى والأبنودى دخل عليهما بليغ حمدى فقال له الشجاعى: سلم عليه كويس ده هيكون له شأن كبير - يقصد الأبنودى - فلما عرف بليغ أنه الأبنودى احتضنه، وخرجا صديقين.
وذهب الخال ليبحث عن رقم تليفون محمد رشدى، ووصل إليه عن طريق معهد الموسيقى، واتصل به، لكن رشدى كان فى أسوأ حالاته المزاجية، فعامله بقرف شديد - على حد وصف الأبنودى - ثم أعطاه ميعادا على قهوة التجارة فى شارع محمد على، وفى الميعاد جاء بمنتهى «الألاطة»، وسأله «رشدى» بتعالٍ شديد: «عايز إيه؟!» فقال له الأبنودى: «أنا جاى لك من عند الأستاذ الشجاعى». وهنا بدأ يتكلم وتتغير معاملته؛ لأن المعروف عن الشجاعى أنه رجل شريف جدًّا وحاد، ودخل الأبنودى فى الموضوع مباشرة وأبلغه أنه كتب أغنية له، ويريد أن يغنيها للإذاعة.
ثم أضاف قوله: «لكن مش دا اللى أنا جاى لك علشانه.. أنا جيت عشان صوتك ومكانتك.. وسيبك بقى من القعدة دى، وتعالى نتمشّى».
وسارا معًا حتى وصلا شارع الشريفين فى وسط البلد، وطوال سيرهما ظل الأبنودى يتحدث عن الفن الشعبى، وأهميته للبلد فى هذه المرحلة، وأن هذا زمن العمال والفلاحين، قائلا لمحمد رشدى: ده زمنك أنت مش زمن عبدالحليم حافظ.
كان محمد رشدى صامتا أغلب الوقت لكن بدا عليه أن الطاقة السلبية التى كان مشحونا بها بدأت تغادر جسده، وقال للخال: «دا أطول مشوار مشيته بعد الحادثة»، ثم أخذ تاكسى وعاد لبيته، ومعنوياته فى السماء.
لكن ظل الشجاعى محتفظًا بالأغانى التى كتبها الأبنودى، ويعرضها على الملحنين لتلحينها إلا أغنية «وهيبة» حتى جاء عبدالعظيم عبدالحق وقال: «يا سلام! مين كتب دى؟» فردّ عليه الشجاعى: عبدالرحمن الأبنودى، فقال له عبدالعظيم: «دا نَصّ ما حصلش»، فقال الشجاعى: «ما انتو صعايدة زى بعض»!
ولحنها عبدالعظيم عبدالحق، وغناها محمد رشدى، وصارت أكبر نقطة تحول فى حياته، ووقف على المسرح ونسى آلام قدمه، وأصبح يغنّيها فى كل حفلة، وأعادته «وهيبة» إلى الحياة مرة أخرى، وصار أشهر مما كان، وأفضل مما تمنى، وصار لا يستغنى عن الأبنودى أبدًا، فقد شعر بأنه أنقذ مستقبله الفنى.
وتغيرت حياة محمد رشدى، وتغيرت أيضًا حياة الأبنودى، فبعد «وهيبة»، طلب محمود حسن إسماعيل -أحد أهرامات الشعر- مقابلة الخال، وقال له: «إيه الجمال اللى انت بتكتبه دا، انت بتكتب كلام فوق مستوى الناس دى».
ارتبط الأبنودى فى هذه المرحلة ارتباطا وثيقا بمحمد رشدى، وكوّنا ثنائيا مهمًّا، لكن شهرة هذا الثنائى تضاعفت بعد أغنية «عدوية»، ولكن المفاجأة مَن هى عدوية تلك الملهمة لهذه الأغنية؟!
عدوية خادمة تعمل بمنزل الملحن عبدالعظيم عبدالحق، لكن الأبنودى رأى فيها صورة البنت القروية المصرية ذات الوجه الصبوح، بضفائرها الطويلة، وكانت - فى نظره - تشبه رسومات الفنان هبة عنايت التى كانت تتصدر مجلة «صباح الخير» حينذاك.
وحين جاءت عدوية تقدم الشاى للأبنودى نظر إليها، وقال: «الله.. اسمك إيه؟» فقالت: «عدوية»، فقال لها: «طيب يا عدوية هاكتبلك أغنية».
أسبوع واحد فقط، وجاء الأبنودى إلى صديقه عبدالعظيم وقال له «عايزك تلحن أغنية عدوية»! فاندهش عبدالعظيم عبدالحق، وحاول التهرب من الأبنودى، وقال له: «مش قادر أتخيّل البنت الشغالة فى الأغنية دى ولا الكلمات لايقة عليها». فى هذا التوقيت ظهر بليغ حمدى، وسأل الأبنودى: «بتعمل إيه دلوقت؟ مافيش حاجة جديدة؟»، فقال له الخال: «باعمل أغنية لعبدالعظيم عبدالحق عن بنت بتشتغل عنده»، فعلق بليغ ساخرا «هو كل حاجة عبدالعظيم عبدالحق» وسمع الأغنية وأعجبته، ولحنها ونجحت نجاحا مدويا، بقيت آثاره معنا حتى الآن. وتصدر الثلاثى رشدى وبليغ والأبنودى المشهد فى الساحة الفنية، ولكن حدث ما نقل الأبنودى وبليغ من رشدى إلى حليم!
ففى أحد الأيام كان الخال فى استوديو صوت القاهرة بصحبة محمد رشدى، وبليغ حمدى، وفرقة صلاح عرام، يسجلون أغنيتَى «بلديات» و«وسّع للنور». وفجأة وجد أمامه اثنين يرتديان بدلتين أنيقتين، وتختفى ملامح وجهيهما خلف نظارات سوداء ضخمة، وقال أحدهما بنبرة حادة موجها كلامه إلى الخال: «حضرتك الأستاذ الأبنودى؟ من فضلك عايزينك معانا شوية»!
فصار معهما بهدوء، وقال لبليغ بالإشارة من خلف زجاج الاستديو ما معناه: «أنا معتقل.. ابقى ادفع لى إيجار الشقة»، وكان وقتها يسكن فى عمارات أوديون، لكن بليغ ضحك، بل إنه كاد يسقط على الأرض من كثرة الضحك، وظل على هذه الحالة حتى غادر الأبنودى مع الرجلين الغامضين، بينما الأبنودى فى شدة الضيق والغيظ مما يفعله صديقه بليغ الذى لا يخفى فرحته.
وخرج الثلاثة من الاستوديو، وكانت سيارة «كاديلاك» فى انتظارهم، وركب الثلاثة، وركب أحدهم بجوار الأبنودى، والثانى بجوار السائق، والكل صامت، لا كلمة، لا تعليق، لا همسة، لا شىء. ومرّت السيارة بجوار مبنى وزارة الداخلية فى لاظوغلى ولم تقف، فقال الأبنودى لنفسه «أكيد عندهم أماكن كتير.. همّا هيغلَبوا؟»!
لكن فجأة وقفت السيارة أمام عمارة ضخمة فى الزمالك، وكان يقف أمامها شرطة، فظن الأبنودى أن المخابرات هى التى ألقت القبض عليه، ودخل العمارة، وسار إلى الأسانسير، وصعد معهم حتى وصل إلى شقة ظن أنها مكتب للمخابرات، ورنّ أحدهم الجرس، وانفتح الباب.
فوجد الأبنودى أمامه رجلا نوبيًّا يرتدى طربوشا وقفطانا أبيض وحزاما أحمر، وبمجرد أن وطئت قدماه الشقة، وجد صالة كبيرة بها سجاد لم يرَ مثله قط، وفوتيه ضخما يجلس عليه شخص نحيف، لكن ملامحه غير واضحة خلف الفوتيه.
فجأة قام هذا الشخص، وجرى نحو الأبنودى ليعانقه، ويقول له «عبدالرحمن.. أنت جيت؟».
فإذا هو عبدالحليم حافظ!
فأبعده الأبنودى عنه قليلا، وقال له: «أنت عبدالحليم حافظ؟» فردّ عليه: «أيوه يا سيدى.. أنا عبدالحليم»، فقال له الخال: «أمّال مين ولاد الجزمة دول اللى سيّبوا رُكبى؟!».
وجرى عبدالرحمن خلفهم فى الشقة، وهم يقولون له: «واحنا مالنا ما هوّ اللى قال».
ويضيف الخال: لكن عبدالحليم منعنى عنهم، وأخذنى بالأحضان والقبلات، وظللنا نضحك معًا لساعات طويلة، ثم قال لى «عايزك تكتب لى أغنية». ثم أمسك بسماعة التليفون، واتصل بأحد الأشخاص، وقال له: «تعالى عبدالرحمن الأبنودى وصل»، فحضر بعد دقائق كمال الطويل ورحّب بالأبنودى بحرارة بالغة، ثم جلس الثلاثة «حليم والطويل والأبنودى» يتحدثون عن الغناء، وقال عبدالحليم للأبنودى «أنا عايز أغنية لعيد ثورة يوليو».
فردّ عليه الخال: «أولا: أنت وصلاح جاهين وكمال الطويل رمز لهذا العيد، ولهذا النوع من الغناء، ثانيا: صلاح جاهين برّه بيتعالج، وأنا مش هاخون غيابه، صلاح صديقى، ومن فضلك استبعد هذا الأمر». فنظر حليم إلى الأبنودى وقال: «طيب وبعدين إحنا مزنوقين عبدالناصر منتظر يسمعنى.. نعمل إيه؟». فردّ عليه الأبنودى قائلًا: صلاح عامل مجموعة قصائد منها «اتكلموا» وأنا ممكن أخذها، وأعملك المونتاج بتاعها، وأسلمك لها نص رائع». وبالفعل اتفقوا على هذا الحل للمأزق، لكن صلاح جاهين عاد من رحلة العلاج، ومعه أغنية عيد الثورة «يا أهلا بالمعارك».
كانت هذه هى المرة الأولى التى يلتقى فيها الأبنودى، عبدالحليم حافظ، وأصر حليم على أن يمكث الخال معه فى بيته، ورأى الأبنودى ديوانه الأول «الأرض والعيال» فى غرفة نوم حليم وبجوار سريره - على حد وصف الخال - وفرح بشدة، وقال له: «أنا عايزك تغنّى لى أغنية عن العدوان الثلاثى».. فرد عليه عبدالحليم «بس إحنا سنة 64!!»، فقال له الخال: «ما انت كان المفروض تغنّيها لى من زمان وأنا زعلان إنها فاتتنى»، فقال له: «خلاص هاتها نلحنها»، فردّ الأبنودى: هىّ جاهزة وعبدالعظيم محمد ملحنها، فضحك حليم وقال مازحًا: «أنت كمان عايزنى أغنى لغير اللى باغنِّى ليهم!»، وبالفعل غنَّاها عبدالحليم فى عام 1966، وكانت أغنية «الفنارة». لكن فى نفس الجلسة كان عبدالحليم واضحا وجادًّا حين قال موجها كلامه إلى الأبنودى: «أنا عايز أغنّى اللغة بتاعتك دى علشان عاجبانى.. لكن أنا ماقدرش أقول المسامير والمزامير زى صاحبك يقصد أغنية عدوية التى غناها محمد رشدى.
واستطرد حليم قائلًا: أنا برضه عبدالحليم حافظ. فكان رد الخال جاهزا، وكأنه كان فى انتظار تلك اللحظة فقال حاسمًا: طيب هنعمل أغنية «التوبة» بس مع بليغ. وكان حليم حينذاك مختلفًا مع بليغ، لكن الأبنودى كان يرى أن بليغ هو الأنسب لهذه الأغنية التى لم يكن قد كتب كلماتها بعد!
وذهب الأبنودى لبليغ وأخبره بما حدث، لكن بليغ قال له: «بس أنا وعبدالحليم بينّا زعل»، فرد عليه الأبنودى: «يا سيدى لا بينكم ولا حاجة هو عبدالحليم حافظ وأنت بليغ حمدى»، فصمت بليغ ثم قال: «طيب خلاص علشانك أنت».
وذهب الأبنودى وبليغ إلى حليم، وبمجرد أن رأى بليغ، حليم زال كل شىء، وأكلا وشربا وضحكا معًا، ولم يتحدث أحدهما إلى الآخر ولو معاتبا، وفى اليوم التالى بدأ العمل فى أغنية «أنا كل ما أقول التوبة يا ابويا ترمينى المقادير».
والمدهش أن الأبنودى، ذهب إلى الاستوديو، ولم يكن قد انتهى من كتابتها، لكنه ارتجلها وهو يجلس مع بليغ حمدى، يكتب «كوبليه» ثم يلحنه بليغ، وهكذا، حتى انتهت واحدة من أشهر أغانى حليم وبليغ والأبنودى. لكن حين جاء موعد تسجيل الأغنية كان عبدالحليم خائفا، ومتوترا فى أثناء التسجيل، فقد كان يشعر بأنه يغيّر جلده كله، لدرجة أنه سجلها مرتين ليطمئن قلبه.
لكن بعد هذه التجربة دخل الأبنودى إلى السجن، ولم يكن قد أتمّ قصيدة أخرى، فقط كان قد كتب «أنصاف أغانٍ» استكملها حليم بمؤلِّفين آخرين، بعدما استأذن الأبنودى، الذى وافق على الفور، وقال لحليم: «كمل مالكش دعوة بيا»، وقد حدث هذا أيضا مع فايزة أحمد إذ أكمل شعراء آخرون أغنيات للخال رشحهم لاستكمالها!
لكن بعد خروج عبدالرحمن الأبنودى من السجن فى إبريل 1967 تعاون كثيرا مع عبدالحليم لكن الظروف التى عاشتها مصر فى هذا الوقت طغت على أى شىء وكل شىء.
رغم الحالة التى كانت تعيشها مصر حينذاك فإن الأبنودى وحليم كانا لا يفترفان فى هذا التوقيت حتى إنهما سمعا خطاب التنحى معًا فى بيت عبدالحليم، وكان معهما أحمد رجب وكمال الطويل وبليغ حمدى ومجدى العمروسى، ووقعت الصدمة فوق رؤوسهم جميعًا، وهرولوا إلى الشارع وانضمّوا إلى الملايين التى خرجت تطالب عبدالناصر بالتراجع عن قرار التنحى.
لكن لم يكن ليسمح عبدالحليم أن يستسلم لحالة اليأس التى أصابت الجميع، أن تتسلل إلى قلبه، وفنه، فذهب إلى الأبنودى، وقال له: «إحنا هنقعد كده من غير أغانى»، فردّ الخال: «لو عملنا أغنية مافيهاش إننا دخلنا حرب وانهزمنا، هننضرب بالجزم».
فقال حليم ساخرا: «طيب ما تعمل، أنت مش عاملّى ثورى وبتدخل السجن ولما ييجى أوان الثورية تطلع مش ثورى»!!
فأعطى الأبنودى لحليم ورقة فيها قصيدة قد كتبها قبل النكسة، وتقول كلماتها:
عدَّى النهار
والمغربية جايَّة
تتخفَّى ورا ضهر الشجر
وعشان نتوه فى السكة
تاهت من ليالينا القمر
وبلدنا على الترعة
بتغسل شعرها
جانا نهار
ماقْدِرْش يدفع مهرها
حين قرأ حليم هذه الكلمات رقص فرحًا، واتصل ببليغ حمدى وقال له «احضر فورا»، وتفرغ الثلاثة لتحضير «موال النهار».
وفى أثناء التحضير للأغنية، ظل عبدالحليم يحلم لمدة ثلاثة أيام أن الناس تحمله فى ميدان التحرير، وهو يرتدى جلبابا أبيض ويغنّى «عدَّى النهار».
كانت «عدَّى النهار» مثل السحر، غيرت نفوس الناس، بل إنها كانت ترفع معنويات عبدالناصر شخصيًّا لدرجة أنه كان يتصل برئيس إذاعة صوت العرب ويسأله: «فين أغنية عدَّى النهار؟!».
لكن بعد «موال النهار» ظل الأبنودى لسنوات يبحث ويجمع السيرة الهلالية ذلك التراث البديع الذى لم نقدره حق قدره، وعاش الخال متنقلا بين البلدان، ولم يلتقِ مع عبدالحليم حتى حدثت معجزة نصر أكتوبر، فعاد ليعملا معًا فى آخر تعاون بينهما «صباح الخير يا سينا»، حينها كان عبدالحليم قد وصل إلى الأمتار الأخيرة فى رحلة مرضه، وقال للأبنودى: ماتزعلش منّى أنا غنيت وأنا تعبان جدًّا، فردّ عليه الخال: انت غنيت من القلب وصوتك كان كله إنسانية وعذوبة لم أرَها من قبل. وسافر حليم بعد التسجيل مباشرة إلى إنجلترا، وذهب الأبنودى ليودّعه قبل أن يتجه إلى المطار، لكنه لم يكن يعلم أنه اللقاء الأخير.
ورحل عبدالحليم، وودّعه الخال إلى الآخرة، ورثاه الأبنودى قائلًا:
فينك يا عبدالحليم
كتبت سطرين
بس كنت حزين
أدّى ورقتى لمين
فينك
نغنّى تانى موال النهار
يا صاحب الرحلة ف طريق الشوك
أنت مامُتّش
همَّا شِبْعوا موت
المسألة مش صوت
المسألة
هَمّ الجميع يتحضن
المسألة
تترجم لمعاناة.. وطن
المسألة أمِّتنا فى التِّيه
تفتكر
وتنتفض
وتعود
تنفض غبار اليأس.
سيرة الخال.." الحلقة السادسة".. عبدالرحمن الأبنودى: لست من محبى أم كلثوم ورفضت أن تغنى لى ثلاث مرات.. فكرهتنى للأبد
راهنت عبدالحليم على كتابة أغنية كلاسيكية وكسبت الرهان بأغنية «مشيت على الأشواك»
«لا أتصور أننى ممكن أضيع ساعتين عشان أسمع أغنية لأم كلثوم».. وأفضل أن أقرأ كتابًا!
أغضب عبدالرحمن الأبنودى، أم كلثوم مرة واثنتين وثلاثًا!
المرة الأولى: جاء بليغ حمدى إلى الأبنودى، وهو فى غاية السعادة، وقال له: «افرح يا عم.. أم كلثوم هتغنيلك».
فردّ الأبنودى بهدوء: «هتغنيلى إيه؟».
بليغ فَرِحًا: «بالراحة يا حبيبى».
الأبنودى ساخرًا: «بقى أم كلثوم هتغنى أغنية اسمها بالراحة يا حبيبى أنت اتجنيت ولّا إيه؟!، صداقتنا كوم والأغنية دى كوم، أم كلثوم عايزة تغنى لى أكتب أغنية تليق بيها وبيَّا وبيك».
بليغ مندهشًا: «طب أنا دلوقتى أقول لأم كلثوم إيه؟!».
الأبنودى: «قول لها هاعمل حاجة تليق بيكى».
رفض الأبنودى رفضا قاطعا وحاسما، وبرر ذلك قائلًا: «هذه الأغنية واحدة من الأغانى المسلية التى كنا نكتبها لإذاعة الكويت حتى تظل فى الظل بعيدا عن الأضواء، ولا يتم احتسابها علينا أمام الجمهور والنقاد، خصوصًا أن كلمات الأغنية كانت تقول «بالراحة يا حبيبى.. كلّمنى بالراحة.. دا أنا مشيت يامة علشان أشوف راحة.. يا مالينى حِنيّة ومودة وسماحة.. عايز تريحنى كلمنى بالراحة».
كان الأبنودى يرى أن كلمات هذه الأغنية أقل من قيمة ومكانة أم كلثوم التى كان يودّ فى أول تعاون بينهما أن تكون فى أغنية تليق بمكانتهما، وتضيف إلى رصيدهما.
لكن أم كلثوم لم تغفرها للأبنودى، وشعرت أنه يرفض الغناء لها، خصوصًا أن الأبنودى فى ذلك التوقيت كان قد وصل إلى أعلى هرم النجومية مع عبدالحليم حافظ، وكانت أم كلثوم تريد الاستفادة من موهبته فى إضافة لون جديد إليها، مثلما فعلت مع بليغ حمدى الذى استعانت به بعد أن نجح وتألق مع عبدالحليم، فأضاف إليها نكهة جديدة.
المرة الثانية: لم يكتفِ الأبنودى بما فعله فى المرة الأولى حين رفض غناء أم كلثوم أغنية «بالراحة يا حبيبى»، لكنه عاد وكررها!
كان الأبنودى يجلس مع عبدالعظيم عبدالحق فى بيته حين قامت ثورة اليمن، ويومها كان الاثنان يقومان بعمل تترات المسلسلات القديمة الرائدة، وفى أثناء تناول طعام العشاء قال له: «ما تعملّى كلمتين عن ثورة اليمن»، فكتب إرضاء له أغنية، وأعطاها له.
وفى اليوم التالى، فى أثناء زيارة الأبنودى لصلاح جاهين، سأله جاهين كعادته: «ماعندكش حاجة جديدة؟» فقال له: عامل حاجة عن ثورة اليمن بس مضحكة شوية. لكنها أعجبت جاهين وقال له: «دى جميلة» ونشرها فى «مربعه» فى جريدة «الأهرام».
وكانت الصدمة!
اتصل وجدى الحكيم بالخال صباحًا، وطلب منه أن يأتى سريعا إلى مبنى الإذاعة، وحضر الأبنودى والتقى الأستاذ عبدالحميد الحديدى مدير الإذاعة، وبدأ الحوار:
الحديدى: أم كلثوم قررت تغنى كلامك عن ثورة اليمن.
الأبنودى: يا نهار أسود!
الحديدى: حد أم كلثوم تغنى له، ويقول يا نهار أسود!!
الأبنودى: طبعا يا نهار أسود، أنا كنت عند عبدالعظيم عبدالحق وكتبت له الأغنية دى علشان طلبها منى.
وجدى الحكيم: أنت مجنون؟! عبدالعظيم مين.. بنقولك أم كلثوم.
الأبنودى: ماليش دعوة ده صاحبى ولا يمكن أخونه.
فاتصل الحكيم وعبدالحميد، بالملحن عبدالعظيم عبدالحق، وطلبا منه أن يتنازل عن الأغنية لأم كلثوم، فرفض واشترط أن يقوم بتلحينها لها!
فصُدمت أم كلثوم عندما علمت بما حدث، وقالت «يعنى أنا فى مقارنة مع عبدالعظيم»!!
المرة الثالثة: دائمًا التالتة تابتة، فبعد ما فعله الأبنودى فى المرتين السابقتين مع سيدة الغناء العربى، صار من الصعب أن تفكر فى الغناء له، أو تطرح اسمه بينها وبين نفسها!
لكن حدث ما جعلها تعيد تفكيرها للمرة الثالثة، ففى أثناء حرب 5 يونيو كان أغلب المطربين والمؤلفين والملحنين يجتمعون داخل مبنى الإذاعة، فعبدالحليم، وبجواره أم كلثوم، وعبدالوهاب، وفايزة، ونجاة، ومعهم كمال الطويل وبليغ حمدى، والأبنودى، وغيرهم من نجوم الصف الأول فى الغناء والتلحين والتأليف.
لكن فجأة سمعَتْ أم كلثوم، عبدالحليم يُدندن:
ابنك يقولك يا بطل هاتلى نهار
ابنك يقولك يا بطل هاتلى انتصار
ابنك يقول أنا حواليَّا الميت مليون العربية
ولا فيش مكان للأمريكان بين الديار
ابنك يقولّك يا بطل هاتلى نهار
وقررت سيدة الغناء أم كلثوم أن تغنى هذه الكلمات، وقالت لكمال الطويل: «أنا عايزة أغنّى الأغنية دى».
الطويل: «الصعيدى اللى هناك هو اللى كاتبها وأشار إلى الأبنودى».
أم كلثوم: لأ.. ده بيكرهنى.. روح أنت قوله.
فذهب الطويل إلى الأبنودى، وروى له ما حدث لكن الخال رد عليه قائلًا: «دى تالت مرة أم كلثوم تعمل فيّا الحركة دى.. وعموما أنا ماليش دعوة روح قول لعبدالحليم.. إذا كنت لم أضحِّ بعبدالعظيم عبدالحق هل معقول أضحِّى بعبدالحليم؟!».
وذهب الطويل، وبالطبع كان رد عبدالحليم جاهزًا، وعاد إلى أم كلثوم التى قررت ألا تتعاون مع الأبنودى أبدًا.
الصدفة لعبت دورًا كبيرًا فى الخلاف الكبير بين أم كلثوم وعبدالرحمن الأبنودى، لكن الحقيقة أن الأبنودى لم يكن من مريدى أم كلثوم، بل لم يكن من محبيها، ورغم أنى لا أجد تفسيرًا واحدًا منطقيًّا لعدم حب الخال لسيدة الغناء - بلا منازع فى رأيى - إلا أنه يُصرّ على ذلك ويؤكده ويقول: «أنا لست من هواة أم كلثوم، لكنى من عشاق عبدالحليم، ولا أتصور أننى ممكن أضيع ساعتين عشان أسمع أغنية لها، الأفضل لى أن أقرأ كتابا لشاعر أو أديب أو عالم!!
الأبنودى قطعًا يعرف قامة وقيمة أم كلثوم حتى لو كان لا يحبها، فهى قيمة كبيرة لا يمكن تجاوزها أو التقليل منها، لكن ربما الخال الصعيدى لم يكن محبا لغرور كوكب الشرق عن الذهاب إليه والحديث معه، وأنها تريد أن تأمر فتُطاع، وهو ما رفضه الخال، حتى لو رأى البعض -وأنا منهم- أنه من حقها أن تضع نفسها فى المكانة التى تراها، وألا تقبل المقارنة بأحد أو المنافسة مع أحد.
الأبنودى وجد نفسه مع عبدالحليم، وقبلها مع محمد رشدى، وقد التقطته أم كلثوم بذكائها وحسها الفنى حين لمع معهما، ووجدت عنده ما لم تجده عند غيره؛ لذلك حاولت معه مرة واثنتين وثلاثًا، لكنها فشلت، ولم تستطع أن تجد معه أرضية مشتركة، وربما يكون قرب الأبنودى الشديد من عبدالحليم سببا كافيا لابتعاده عن أم كلثوم، فربما كان من الصعب أن يجتمع الاثنان فى قلبه وعقله.
لكن هذه طبيعة الخال، فهو لا يحب أن يتحدث إلا مع وعمن يحبهم، ولا يهوى الحديث عمن يختلف معهم وعنهم، ويفضل دائمًا أن يظل يتحدث عن جمال عبدالناصر، وعبدالحليم حافظ، ولا يود الحديث عن أنور السادات، وأم كلثوم ويتحدث عن صلاح جاهين ولا يرغب فى الحديث عن أحمد فؤاد نجم.
هذه قناعاته التى لا يغيِّرها، لأنه لا يريد أن يَجرح أحدًا أو يُجرِّح فى أحد حتى لو كانت حكاياته مع مَن لا يهواهم أمتع ممن يهواهم، لذلك أقرب الحكايات إلى قلبه حكاياته مع عبدالحليم حافظ، وتحديدا تلك الحكاية!
فقد كان رهانًا، ولكن ليس كل الرهان حرام!
كان الجالسون: الموجى، وبليغ، وكمال الطويل، ومرسى جميل عزيز، ونبيل عصمت، وجلال معوض، ومجدى العمروسى، ووجدى الحكيم.
وراح الأبنودى بلسانه السليط ينال من أغنيات آخر أفلام العندليب، وفجأة قال عبدالحليم: يا أستاذ أبنودى رحم الله امرأ عرف قدر نفسه.. أنت راجل جميل فى الأغانى الشعبية، والأغانى العاطفية الخفيفة، والوطنية، ومالكش دعوة بالأغانى الكلاسيكية.
الأبنودى: هذه ليست أغانى كلاسيكية.. دى كيمياء.. تضع مادة على مادة تعطينى مادة.. بمعنى أن الذين يكتبون هذه الأغانى لا يحسّونها.
عبدالحليم: يا أستاذ دول أساتذة كبار وأنت ماتعرفش تكتب زيّهم!
الأبنودى: أنا ما أرضاش.. مش ما أعرفش.. ولو كنت مثلهم لاشتريت الشارع اللى أنا ساكن فيه.
عبدالحليم: لأ.. أنت ماتعرفش.. ولو كتبت زى أغنية «جبار» - وكان أيامها يجرى بروفات أغنية «جبار».. ورأيه أنها من الأغانى التى يصعب تكرارها - فلن أناقشك فى أجرها!
فكتب الأبنودى رائعته «مشيت على الأشواك»:
مشيت على الأشواك وجيت لأحبابك
لا عِرفوا إيه ودَّاك
ولا عِرفوا إيه جابك
رميت نفسك فى حضن
سقاك الحضن حزن
حتى فى أحضان الحبايب
شوك شوك يا قلبى
وكسب الاثنان الرهان!
نعم، الأبنودى كسب التحدى وحصل على أعلى أجر فى أغنية، وعبدالحليم كسب أغنية صارت واحدة من أبدع الكلاسيكيات.
لكن الغريب أن الخال لا يعرف عدد الأغانى التى كتبها، ولم يفكر يومًا فى جمعها فى كتاب، والأغرب من ذلك أنه لم يكن يحصل على مليم واحد من الأغانى الوطنية التى كتب كلماتها، وتغنَّى بها عبدالحليم، وما زالت كل القنوات الفضائية تذيعها!
ولعل الأبنودى الشاعر الوحيد الذى لم تتضمن دواوينه - على كثرتها - نصًّا واحدًا من أغنياته، فهو يرى أن القصيدة ملكه وحده لا شريك له فيها، أما الأغنية فيشاركه فيها المطرب والملحن والموزع، وكم من كلمات تغيرت استجابة لدواعى اللحن والصوت.
لكن رغم ذلك يظل عبدالرحمن الأبنودى واحدا من الذين غيَّروا شكل الأغنية، فقد أضاف إليها لغته، ومفرداته، وطريقته، وأفكاره، حتى صار البعض يقول إن الأغنية قبل الأبنودى شىء وبعده شىء آخر.
الأبنودى وضع قواعد جديدة لكلمات الأغانى حين كتب لمحمد رشدى أغنيتين حوَّلته من رجل مريض لا يترك بيته إلى مطرب لا يغادر الاستوديو، وصار هذا الشكل قانونًا حين عمل مع عبدالحليم حافظ فى أغنية «أنا كل ما أقول التوبة». واستمر الخال فى رحلته، وظل يراهن على نفسه، وعلى قدراته الاستثنائية، وعلى مخزونه الإبداعى، وظل فى فترة يفاجئ مريديه، فعندما تذهب إليه الفنانة نجاة وتطلب منه كتابة أغنية لها فيهديها:
عيون القلب.. سهرانة.. مابتنامشى
لا أنا صاحية.. ولا نايمة.. ماباقدرشى
يبات الليل.. يبات سهران.. على رمشى
وانا رمشى ما داق النوم
وهو عيونه تشبع نوم
رُوح يا نوم من عين حبيبى
رُوح يا نوم
الأبنودى يبحث دائمًا عما يُدهش الناس، فهو يرى نفسه بمرآة البسطاء، ولا يشغل نفسه بمنافسة أحد، فهو ينافس نفسه فقط.
فمثلما كتب الخال لنجاة واحدة من أجمل أغانيها، كتب أيضًا للفنانة الكبيرة شادية واحدة من أجمل أغانيها وهى «آه يا اسمرانى اللون.. حبيبى يا أسمرانى»، وكذلك كتب للمبدعة فايزة أحمد أغنية «مال عليَّا مال».
وحين ذهبت إليه الفنانة صباح كتب لها أغنية لم تعد تذكر أو تغنى سواها، بل تؤكد دائمًا أن هذه الأغنية هى تعبير دقيق يجسد تاريخ حياتها الفنية، وهى أغنية:
ساعات ساعات ساعات ساعات
أحب عمرى وأعشق الحاجات
الخال ظل نابضًا بشعره، وبكلمات أغانيه التى أثبتت أنها قادرة على الصمود، ومواجهة الزمن بانتصاراته وانكساراته، وبنجومه الجدد أيضًا، فقد عمل الأبنودى مع عدد كبير من نجوم الغناء منذ أن جاء إلى القاهرة فى الستينيات وحتى الآن، ولعل أكثر فنان غنَّى من كلمات الخال هو على الحجار، فقد تعاونا فى أغانٍ كثيرة، منها أغانى تترات المسلسلات الأجمل فى تاريخ الدراما العربية.
وقد حرص الحجار على تحويل عدد كبير من قصائد الأبنودى إلى أغانٍ مهمة، ومؤثرة، ومنها قصيدة «ضحكة المساجين» التى خرجت فى توقيت حرج لمواجهة سلطة المجلس العسكرى الذى كان يحكم مصر بعد ثورة 25 يناير، فتم منع إذاعتها فى العديد من القنوات!
وهذه ميزة الحجار فهو حالة مختلفة وصادقة وجادة وجريئة ولا تسعى لمجد، وإنما تسعى لفن؛ لذلك من أكثر الأغانى التى لمست قلوب الناس حين غناها على الحجار هى:
ماتمنعوش الصادقين عن صدقهم
ولا تحرموش العاشقين من عشقهم
كل اللى عايشين للبشر
من حقهم
يقفوا ويكمِّلوا
يمشوا ويتكعبلوا
ويتوهوا أو يوصلوا
وإذا كنا مش قادرين نكون زيهم
نتأمل الأحوال، ونوزن الأفعال
يمكن إذا صدقنا نمشى فى صفهم
وكما لا يمكن حصر عدد الأغانى التى كتبها عبدالرحمن الأبنودى، لا يمكن أيضًا حصر عدد المطربين الذين تعاونوا معه، لكن هناك مطربا يشعر البعض أنه الأقرب إلى لون الأبنودى الشعرى هو محمد منير الذى يعرف ويدرك قيمة أن يغنى من كلمات الأبنودى، ففى كل عمل جديد له يسعى إلى الخال ليضع بصمته على ألبومه الغنائى.
محمد منير نجم له بريق خاص، ولون مختلف، لا ينافس أحدا، ولا أحد ينافسه تمامًا مثل الخال؛ لذلك ارتبطت صورة محمد منير الغنائية بصورة الأبنودى الشعرية، فكلاهما جاء من الجنوب مُحملا بمخزون ثقافى ثرى ومختلف، لكن بقى تعاون واحد بين الاثنين قريب إلى قلبيهما.
ولكن له قصة.
ففى أحد الأيام ذهب منير إلى الملحن محمد رحيم، وقال له: «سمعَّنى عندك إيه؟»، فردّ عليه رحيم: عندى حاجة بتقول «يا بنات الهلالية.. يا بنات الهلالية».
فقاطعه منير قائلًا: «لو عايز تتكلم عن الهلالية يبقى لازم نروح لدكتور الهلالية الرجل اللى لفّ 30 سنة يجمع السيرة الهلالية».
وذهب منير بصحبة رحيم إلى الخال ليطلبا منه أن يكتب أغنية تحمل بين ثناياها السيرة الهلالية، فكتب الخال يقول:
جاى من بلادى البعيدة
لا زاد ولا مَيَّه
وغُرْبتى صاحْبتى بِتْحُوم حواليّا
وانتى تقوليلى بحبَّك
تحبِّى إيه فيَّا
وده حب إيه ده
اللى من غير أى حرية
سيرة الخال .."الحلقة السابعة".. الأبنودى: طلب منى المخرج حسين كمال كتابة أغانى فيلم «شىء من الخوف» لكنى قررت كتابة السيناريو والحوار!
نقلا عن اليومى :
اتفق صلاح ذو الفقار مع أهالى قرية فى القليوبية أن يقوموا بالاشتراك فى مشهد «فتح الهاويس» مقابل بناء الهاويس لهم
رغم نجاح فيلم «الطوق والإسورة» فإننى لم أُعجب به ولم أفهم بعض الجمل التى قيلت رغم أننى كتبت الحوار!
فى عام 1968 كان الفنان صلاح ذو الفقار يعمل منتجا فنيا للأفلام السينمائية، وكان عليه أن يبحث عن قرية تشارك بكل أبنائها فى تمثيل فيلم للمخرج حسين كمال.
وظل ذو الفقار فترة يبحث عن ضالته حتى وجدها فى إحدى قرى محافظة القليوبية التى وافق عمدتها، ولكن بشرط أن يقوم المنتج بإنشاء «هاويس» لأهل القرية، فوافق ذو الفقار على دفع ثلاثة آلاف جنيه تكلفة بناء هاويس للقرية، ووافق العمدة على أن يشارك أهل القرية فى الفيلم.
كان هذا الفيلم هو «شىء من الخوف» عن قصة الأديب ثروت أباظة، وبطولة شادية ومحمود مرسى ويحيى شاهين، وحوار عبدالرحمن الأبنودى الذى غيَّر معالم القصة لتخدم الصورة السينمائية البديعة التى رسمها حسين كمال، تلك الصورة المحفورة ل«عتريس» الذى يقمع أهل بلده، لكنه يضعف أمام حبه ل«فؤادة» التى وقفت مع أهل قريتها ضده، و«فتحت الهاويس».
ذلك المشهد التاريخى الذى لم يشارك فيه مجاميع من الكومبارس، لكن شاركت فيه قرية بأكملها من أجل تلك اللحظة التى انتظرها آلاف الأهالى طويلا من أجل «فتح الهاويس» الذى أعاد الحياة إلى القرية، لذلك جاءت الاحتفالات صادقة وحقيقية وواقعية، وبلا أى ذرة من تمثيل.
هذا الفيلم وحده يكفى كل من شارك فيه فخرا أنه كان شجاعا فى مواجهة النظام الحاكم وقتها، فالكل كان يعرف أن «فؤادة» ترمز إلى مصر وأن «عتريس» هو صورة لجمال عبدالناصر، لكنه رغم ذلك لم يُمنَع، ولم يُمانع الزعيم عبدالناصر فى عرضه، بل إنه هو من وافق عليه.
لكن الذى خلَّد الفيلم وجعله صالحا لكل العصور، ولكل الحكام هو حرفيته العالية، ومهارة صانعيه الذين لم تحركهم كراهية وحقد بقدر ما حركتهم وطنية وإخلاص وحب شديد للبلد والحرية، جعلت من الفيلم واحدا من أهم الأفلام فى تاريخ السينما المصرية والعربية، وربما لو كان الفيلم مباشرا وانتقد الرئيس بصورة فظة لصار مثارا للسخرية فيما بعد، وصار نسخة من أفلام هانى رمزى!
لكن لمسة الأبنودى على هذا العمل تحديدا كانت واضحة ومدهشة، فقد أعاد كتابة الحوار الذى كان قد كتبه صبرى عزت، وكان الشخص الوحيد الذى سمح له حسين كمال بأن يقوم بإيقاف التصوير إذا وجد أن لهجة الممثلين انحرفت عن المسار الذى رسمه لها، فالشخصيات تكلمت كما أراد الخال، وعبرت كما يرى، وتحدثت بما قاله لها، فقد كان مسؤولا عن تحفيظ الممثلين الكبار طريقة النطق السليمة للعبارات التى كتبها.
لكن الغريب أن الأبنودى شارك فى هذا الفيلم بالصدفة البحتة!
ففى إحدى المرات كان الأبنودى فى زيارة لاستوديو النحاس، وفجأة وجد أمامه حسين كمال يقول له «أنت فين؟ أنا بادوّر عليك.. خُد السيناريو ده اعمل الأغانى بتاعته، بس أنا عايزه بصورة ملحمية مختلفة، ومعاك شادية ومعاك الكورال».
أمسك الأبنودى الورق وقرأ السيناريو والحوار الذى كتبه صبرى عزت، لكنه شعر بحاسة الشاعر أن الفيلم بهذه الصورة سيخرج عاديا، قد يكون جيدا لكنه ليس ملحميا كما يريد حسين كمال، فقرر أن يعيد كتابته دون أن يأخذ رأى أحد أو يستشير أحدا، فقد كان يدرك أنه لو طلب ذلك من حسين كمال لقابله بالرفض، لأن كل شىء كان جاهزا لبدء التصوير خلال أيام قلائل.
لكن الأبنودى الصعيدى نفذ ما فى رأسه فقط، ولم ينَم أربعة أيام متتالية إلا قليلا، وظل يقظا بصحبة قهوته، وسجائره - التى هجرها فيما بعد إلى غير رجعة - وبدأ بالفعل يكتب مشاهد ويحذف أخرى حتى كتب الفيلم من بدايته حتى نهايته وفقا لرؤيته، ونقل الحوار من لهجته البحراوية إلى اللهجة الصعيدية، ومزج بين الأغانى والحوار، وذهب إلى حسين كمال.
لكن قبل أن يذهب إليه طلب منه أن يحضر له شريطا جديدا للتسجيل، وتعجب كمال من الطلب قائلا: «ليه انت مش هتقرا الأغانى؟!» لكنه رضخ لطلب الأبنودى حتى يرى ويفهم ما يريده.
وذهب عبدالرحمن الأبنودى إلى منزل حسين كمال فى شارع عماد الدين ووجد حسين كمال فى انتظاره، وقد أحضر له كل شىء لتسجيل الأغانى التى طلبها منه، لكن الأبنودى فاجأه وقرأ عليه السيناريو والحوار بدلا من الأغنيات، فصمت كمال ولم ينطق إلا بعد أن انتهى الأبنودى من القراءة، ثم صرخ - كعادته - قائلا: «يا لهوى»!!
كان حسين كمال يفكر هل سيغير كل الترتيبات التى قام بها، لكنه حسم أمره سريعا، واتصل بمدير الإنتاج صلاح ذو الفقار، وقال له: «تعالى يا صلاح الغى كل الورق اللى اديته للناس، ووزع شرايط على الناس مافيش وقت نعمل ورق».
كان الهدف من هذه الطريقة هو أن يحفظ كل الممثلين أدوارهم بنفس الطريقة التى ينطق بها الأبنودى الكلمات، بدلا من قراءة الورق التى لن تفيد فى ظل السرعة المطلوبة، وبالفعل طبع عددا من النسخ ووزعها على الممثلين الكبار محمود مرسى وشادية ويحيى شاهين ومحمد توفيق وغيرهم من نجوم هذا العمل الذى ظهر فيه الفنان محمود ياسين لأول مرة.
وبدأ العمل فى الفيلم بصورته الجديدة كما خطه الأبنودى على الورق، وجاء بليغ حمدى الذى أبدى اندهاشه الشديد مما فعله الأبنودى وقال له: «أنت عملت معجزة.. حد يكتب سيناريو وحوار فيلم فى يومين»، ثم جلسا معا لبدء العمل فى الأغانى البديعة التى شاهدناها فى الفيلم وحفظناها من كثرة ما رددناها «أهوه أهوه بالضحكة ده بالخلقة ده مالى البلد دى الخوف» لكن الأبنودى اشترط أن يُكتب اسم السيناريست صبرى عزت قبل اسمه حفظا لحقه ولجهده الذى بذله قبل أن يأتى الخال ويغير ملامح السيناريو والحوار، لكن رغم كل ذلك لم يحصل عبدالرحمن الأبنودى على مليم واحد مقابل هذا الفيلم، وحصل فقط على مقابل كتابة الأغانى!
لكن المدهش أن فيلم «شىء من الخوف» الذى ننتظره ونشاهده إلى الآن لم ينجح حين تم عرضه فى السينما للمرة الأولى، وذلك بعد عامين فقط من النكسة، فقد كان حزن الناس وقتها يطغى على المشهد، بل إن أغلب الناس كانت تنصرف إلى الأفلام الكوميدية التى كان يتم إنتاجها بكثافة فى هذا التوقيت.
رغم ارتباط الناس بفيلم «شىء من الخوف» وانتشاره الجماهيرى الواسع فيما بعد، فإن عبدالرحمن الأبنودى كان يرى أن كتابة السيناريو والحوار ليست مهنته وأنه «مجرد ضيف» لكنه فى الوقت ذاته لم يَغِبْ عن المشهد.
فبعد فترة كانت فاتن حمامة قد قررت أن تصنع ثلاثة أفلام تستغرق وقت فيلم واحد، ووقع اختيارها على كتاب «المسرح والمجتمع» لتوفيق الحكيم، وبالتحديد على مسرحية «أغنية الموت» وقررت تحويلها إلى فيلم تليفزيونى، واتفقت مع المخرج سعيد مرزوق على أن يكتب الأبنودى السيناريو والحوار.
وفى اليوم التالى اتصل مرزوق بالأبنودى وقال له: «فاتن حمامة تريد أن تراك»، واندهش الخال، فلم تكن تربطه أى علاقة بها قبل ذلك، وبالتالى لم يكن يتخيل أنها تعرفه وتطلبه بالاسم، خصوصا أن شهرته كشاعر أكبر وأعمق بكثير من شهرته ككاتب سيناريو وحوار، ولكنه أدرك فيما بعد أنها اختارته بعد أن شاهدت «شىء من الخوف».
والتقى الأبنودى مع فاتن حمامة فى شقتها بعمارة ليبون على شاطئ النيل بالجزيرة، وجلسا معا لساعات طويلة، فى حجرة ذات طراز عربى يشبه بيته فى المهندسين، وقالت له: اقرأ مسرحية أغنية الموت، واكتب السيناريو والحوار والأغنية، أريد نصا كاملا، وأنا سأقوم بدور «عساكر».
وبعد ثلاثة أيام فقط كان الأبنودى قد انتهى من كتابة نص سينمائى كامل!
وقد رسم الخال صورة سينمائية لمكان يشبه بيت جدته «ست أبوها» فى أبنود، الغرفة، السلم الطينى، السور المبنى بأزيار الماء المقلوبة، والملابس والوشم على الوجوه، وباب البيت ذو الضلفة الواحدة الذى يُصدر عند فتحه وإغلاقه أنينا يشبه أنين السواقى، وكانت المرة الأولى التى تخرج فيها مشاهد سينمائية تتطابق مع الواقع.
أُخِذت فاتن حمامة بهذا العالم الذى استحضره الأبنودى على الورق، وبقدرته على تحويل المسرحية إلى واقع من لحم ودم، وأصرت على أن يذهب معها إلى بيتها لتدريبها على طريقة النطق، ولتعرف منه طبيعة هذا العالم الذى لم تسمع عنه من قبل، بل إنها كانت ترفض بدء التصوير فى الاستوديو إلا إذا حضر عبدالرحمن الأبنودى، حتى أطلقوا عليه لقب «الخبير الأجنبى»!
كان من الممكن لهذه التحفة الفنية الفريدة أن يكون حظها أفضل، لولا أنه تقرر عرضها فى صباح أول أيام العيد، ففزع أهل المرح من قيادات التليفزيون - على حد تعبير الخال - وكتبت رئيسة التليفزيون آنذاك تأشيرة عجيبة نصها «كفانا كآبة»!
ولم تلتفت إلى أهمية هذا العمل الفنى الذى جمع بين العمالقة توفيق الحكيم وفاتن حمامة والأبنودى، ومنذ ذلك اليوم لا يذاع هذا العمل، ولو على سبيل الخطأ!
لكن لم تتوقف تجارب الأبنودى التى تظهر على استحياء رغم أهميتها، فقد طلب منه المخرج خيرى بشارة تحويل رواية صديق عمره الأديب يحيى الطاهر عبدالله إلى فيلم سينمائى، وكانت هذه الرواية هى «الطوق والإسورة» لكن الأبنودى لم يُعجب بهذه التجربة رغم جمالها، وثناء النقاد عليها.
فقد كان يرى أن خيرى بشارة وقع فى خطأ كبير حين استعان ببعض فرق التمثيل بالأقصر لتحفيظ الممثلين، ولهجة الأقصر تختلف تماما عن تلك اللهجة التى كتبها الخال، بل إن الأبنودى يصر على أنه لم يفهم بعض الكلمات التى قيلت على لسان بعض الشخصيات رغم أنه كاتب الحوار! مرت سنوات طويلة، وبعدها وافق الأبنودى على كتابة حوار مسلسل «وادى الملوك» المأخوذ عن قصة «يوم غائم فى البر الغربى» للأديب محمد المنسى قنديل، وكانت هذه هى التجربة الأولى للخال فى الأعمال الدرامية، بعد أن كتب السيناريو محمد الحفناوى، ورغم إشادة الجمهور والنقاد بالمسلسل، لكن الأبنودى قرر أن تكون التجربة الأولى والأخيرة!
فقد اكتشف أن كتابة سيناريو وحوار لمسلسل مكوّن من ثلاثين حلقة عمل شاق ويحتاج إلى جهد جبار وتفرُّغ تام، بل إنه يقول: «أعتقد أنه لولا قلة حظوظ المبدع أسامة أنور عكاشة فى الرواية، وعدم شهرته فى هذا المجال، ما كان اتجه إلى كتابة المسلسلات، ولخسرنا أجمل وأهم أعمال فى تاريخ الدراما العربية».
سيرة الخال.. الحلقة الثامنة.. الأبنودى:قابلت "دنقل" أول مرة فى خناقة وانضم إلينا "يحيى الطاهر".. كنت "كاتب جلسة" فى محكمة قنا لكنى استقلت وقلت للقاضى: "ودين أبويا ما أنا كاتب وراك كلمة"
نقلا عن اليومى..
«أنت هتبقى أشهر وأغنى منى، بس أرجو لما ييجى اليوم ده نكون أصدقاء»!
هكذا قال أمل دنقل لعبدالرحمن عندما كانا تلميذين فى مدرسة قنا الثانوية، يومها ضحك الخال، واعتبرها نكتة، لكنه بكى حين تذكرها فى أثناء زيارته الأخيرة لأمل فى الغرفة رقم 8 بمعهد الأورام، حينها قال له الخال: «أمل.. أنت قلت لى جملة زمان»، فقاطعه أمل دنقل قائلا: «فاكرها»!، فعلق الأبنودى: «أدينا لسه أصدقاء».
رأى عبدالرحمن أمل لأول مرة فى خناقة! وتدخل عبدالرحمن لإنقاذ زميله فى المدرسة، ومرت الواقعة على خير، وتعرَّف عبدالرحمن على أمل وصارا صديقين لا يفترقان، بل صارا أشهر صديقين فى المدرسة الثانوية، واشتركا معا فى فريق التمثيل.
ويضحك الأبنودى حين يتذكر صديقه أمل وهو يؤدى دورا فى إحدى المسرحيات ويقول: «كان يؤدى دوره بحماس شديد، ويندمج وينفعل بشدة لدرجة كانت تجعلنا نموت من الضحك»!
وفى عام 1956 تدرب أمل دنقل وعبدالرحمن الأبنودى على حمل السلاح!
وقتها أعلنت المدرسة أنها ستقوم بالتعاون مع الجيش بتدريب الطلاب على السلاح حتى يستطيعوا الاشتراك فى المعركة ضد العدوان الثلاثى على بورسعيد الباسلة.
فسارع عبدالرحمن ومعه أمل دنقل بالاشتراك فى التدريب فى «حوش المدرسة»، وبالفعل ظل التدريب قائما عدة أيام حتى أجاد الاثنان التعامل مع السلاح، لكن بعد انتهاء فترة التدريب تم إبلاغهما بأنهما سيعملان فى الدفاع المدنى!
فطغى الحزن على أمل وعبدالرحمن، وشعر كلاهما بأنه يريد أن يعبِّر عن انفعالاته، وأن لديه ما يقوله، فوجد كل واحد منهما نفسه يكتب قصيدة، وكانت أول مرة يكتشف فيها كلاهما أنه يمكن أن يكون شاعرا، وقرأ كل واحد منهما قصيدته للآخر، وكانت القصيدتان باللغة العربية الفصحى، وبعد أن انتهيا من القراءة قالا معا: «طالما شالوا مننا السلاح يبقى هنحارب بالقصيدة».
وفى هذه الأثناء نظمت مدرسة قنا الثانوية حفلا لعيد الأم لأول مرة، فقرر أمل وعبدالرحمن الاشتراك فى الحفلة بقصائد شعر من تأليفهما، وألقى دنقل قصيدته بالفصحى، بينما ألقى الأبنودى شعرا حلمنتيشيا فقال مازحًا:
أهدى إليك تحية بنشاطا
يا من بها فرح الفؤاد وظاطا
أعلنتِ حربكِ على الطبيخ هَزَمْتِه
وغدا الحديد بساحتيك بطاطا
نسخت ثوب الخبز حتى
لم يعد يقوى على إصلاحه خياطا!!
فضجَّت المدرسة كلها بالضحك، لكن بعدها قرر الأبنودى ألا يكتب إلا بالفصحى، ولكن حين ذهب عبدالرحمن إلى قريته أبنود وقرأ شِعره على رفاق المرعى، شعر أنه غريب بينهم، وهم شعروا أنه قد تغيَّر، فكأن جدارا قد أُقيم بينهم.
فى هذه الأثناء التى كان فيها عبدالرحمن ما زال طالبا فى المدرسة الثانوية دخل إلى فصله مدرس قادما من القاهرة، وقال: «أنا اسمى توفيق حنا، وهادرِّس لكم فرنساوى».
كان توفيق حنا بمثابة نقطة التحول الأهم فى حياة دنقل والأبنودى، فقد كان يحكى لهما دائما عن القاهرة، وعن كبار الأدباء والمثقفين، وكان ذلك عالما مجهولا للتلميذين أمل وعبدالرحمن فى هذه التوقيت.
يقول الخال: وفى إحدى المرات كان الأستاذ توفيق عند جامع سيدى عبدالرحيم، ووجد العمال يعملون فى الترعة فقال لى: «يعنى أنت لما تهرج وأنت راجل موهوب وتترك دول ما تعبرش عنهم مش دى تبقى جريمة!»، قلت له: «دول ولاد عمى»، وكان من بينهم «أحمد سماعين»، فقال لى: «يعنى أنت من الناس دى وسايبهم، أمال مين اللى هيتكلم عنهم».
لحظتها قرر الأبنودى ألا يكتب إلا باللهجة التى يفهمها أبناء قريته، وكانت أول قصيدة كتبها بالعامية من أجلهم هى «النَّعش طار».
وترك الأبنودى ودنقل المدرسة، وذهبا إلى جامعة القاهرة، وكان ذلك فى مطلع الستينيات، وحينذاك كانت القاهرة حافلة بكل الأنشطة السياسية والثقافية، وكان الاثنان يذهبان إلى نادى القصة، ورابطة الأدب الحديث، وجمعية الأدباء، ونسيا فى صخب القاهرة أنهما طالبين فى الجامعة، فقد شغلتهما الثقافة عن الدراسة، لدرجة أن الأبنودى حين أرسل إليه والده أربعين جنيها قيمة مصاريف الجامعة، قرر ألا يدفع المصاريف، واشترى بهذه الأموال صندوقا خشبيا ضخما وكتبا من «سور الأزبكية»، وكان ثمن الكتاب قرشا أو قرشين، وأغلى كتاب كان ثمنه خمسة قروش، وحمل الكتب فى الصندوق ووضعها على عربة «كارو»، وأرسلها إلى قطار البضائع، وعاد إلى الصعيد!
وعندما رآه والده الشيخ الأبنودى لم يسأله عن شىء، لكن والدته هى التى تدخلت وقالت لوالده: «عبدالرحمن رجع مش هتشوف له شغل؟» فرد عليها باقتضاب وحسم: «بكرة يغور يروح المحكمة يقابل الأستاذ أحمد مساعد وهو هيشغله».
وذهب الخال إلى الأستاذ أحمد، الذى عيَّنه «كاتب جلسة» فى المحكمة الجزئية فى قنا وعمل بدائرة تختص بنظر دعاوى غير المسلمين، ثم انتقل بعدها إلى دائرة الأحوال الشخصية للمسلمين، ومعظم القضايا كانت لنساء تركهن أزواجهن - على حد تعبير الخال - وكانت النساء يتجمعن أمام مكتب الخال فى المحكمة، وصارت له شعبية كبيرة بين النساء اللاتى يحملن المشكلات، وكان يكتب الشعر على ورق القضايا!
وفى بداية تعيينه ظل لفترة يتنقل بين المحاكم فى الأقصر، ونجع حمادى، وقوص، وكان رؤساؤه يتعنتون معه؛ لأنه «مش موظف كويس»، لذلك عانى كثيرا من الترحال بين مراكز محافظات قنا، وتألم كثيرا مما يحدث له ومعه، خصوصا أنه كان يهرب من المفتشين فى القطارات، ويجلس فوق سطح القطار ذهابا وإيابا، حتى نصحه أحد الركاب الهاربين مثله أن يصطحب معه جلبابا عند الصعود لسطح القطار، ولكنه لم يسمع النصيحة التى أدرك قيمتها حين اعتلى سطح القطار للمرة الأولى.
فقد وجد أكواما من الأتربة غطت قميصه، وبنطلونه حتى أنه وصل إلى المحكمة وملابسه البيضاء صارت سوداء تماما، لكن بمجرد دخوله قاعة المحكمة التقطه رجل يعرف والده، فاصطحبه إلى بيته، ومنحه ملابسه ليرتديها حتى لا يتعرض للوم أو سخرية من القاضى.
كل هذا لم يؤثر على الخال ويجعله يقرر عدم الذهاب إلى المحكمة، لكن حدث ما جعله يستقيل من منصبه!
ففى إحدى المرات جاءت امرأة تشكو زوجها، وقالت للقاضى: «جوزى بيشتغل فى البحر الأحمر فى البترول وتركنى أنا وولدى فحكم لها القاضى ب180 قرشا»، فهمس الأبنودى فى أذن القاضى، وقال له: «أعرف واحد بيشتغل هناك وبياخد أربعين جنيها فى الشهر».
فتعجب القاضى وكان ودودا - على حد وصف الخال - لكنه صاح فجأة، وقال: «أنت بتقول إيه يا موظف.. أنت هنا قلم»، فرد عليه الخال محتدا: «طيب ودين أبويا ما أنا كاتب وراك كلمة.. دى ست غلبانة وصغيرة عايز تديلها 180 قرش وجوزها بياخد أربعين جنيه.. تروح فين وتعمل إيه؟»!
فصفق الحاضرون للخال إعجابا وتقديرا لشهامته وجرأته فى مواجهة القاضى الذى هدده بالحبس إذا أصر على الحديث دون إذن، هنا قرر الأبنودى أن يستقيل من فوق منصة القضاء - رغم أنه كان مجرد كاتب جلسة - احتجاجا على عدم إنصاف القاضى للمظلومين.
وفى النهاية قدم عبدالرحمن الأبنودى استقالته من وظيفة كاتب الجلسة فى الأول من مارس عام 1962، وكانت الاستقالة مكونة من 16 ورقة، كشف فيها فساد النظام الإدارى داخل المحكمة، ورغم ذلك توسط كثيرون لدى القاضى ليعود الأبنودى إلى عمله، لكن المفاجأة أن الخال هو الذى رفض العودة نهائيا.
وفى نفس التوقيت اتخذ أمل دنقل قراره بالاستقالة من عمله كمحضر لدى المحكمة، وكان من مهام وظيفته أن يقوم بتنفيذ أمر المحكمة بالحجز على ممتلكات الناس، وقد تحمل كما هائلا من السخافات طوال فترة عمله فى هذه الوظيفة ثقيلة الظل.
وعاد الاثنان إلى رشدهما وعادا إلى القاهرة، وظل يناضلان فيها حتى صارا بمثابة معجزة شعرية كبرى، وصار لهما مدرسة ولها مريدون من المحيط إلى الخليج، أحدهما صار من علامات الشعر العامى، والآخر صار يُدرَّس شعره فى أقسام اللغة العربية لطلاب الجامعات.
لكن الأهم أنهما ظلا صديقين حتى الأنفاس الأخيرة فى حياة أمل دنقل، ففى آخر لقاء جمع بينهما فى المستشفى أوصى أمل أخاه عبدالرحمن بأن يدفنه بجوار أبيه، وألا يرضح لضغوط أحد.
لكن المدهش أن أمل دنقل فى هذا اللقاء قبل الأخير قال للخال: «أنا سمعت لك غنوة كنت عاملها لمحمد قنديل فى عيد الربيع وماسمعتهاش تانى، أنا عايز الغنوة دى دلوقتى».
فتعجب الخال وسأله: «اسمها إيه؟»، فقال: «ناعسة».
الغريب أن الأبنودى لم يتذكر الأغنية مطلقا، وسأل عنها كل الملحنين الذين تعاون معهم، حتى وجدها لدى حلمى أمين الموجى، وكانت تائهة وسط الشرائط، وظل يبحث عنها حتى وجدها.
وذهب الأبنودى لأمل، ليسمع الأغنية التى طلبها، وكانت تقول:
ويا ناعسة لا لا.. لا لا
خِلْصِت معايا القِوَالة
والسهم اللى رمانى
قاتلنى لا محالة!!
وكأن أمل كان يقرأ نفسه فى هذه الغنوة، فالسهم قد أصابه، ولا محالة.
ورحل أمل دنقل فى اليوم التالى، وحمله الأبنودى على كتفه إلى قبره، ودُفن كما أوصاه، دون أن يلتفت إلى أحد، وظل الخال كلما ذهب إلى أبنود مرّ على قبر أمل ليقرأ له الفاتحة.
كان الصديقان أمل دنقل وعبدالرحمن الأبنودى لا يفترقان، وفجأة نزل إلى قنا شاب فى رُفع بوصة الذرة، كأنه خيط حاد شُدّ بالشمع ليستعصى على القطع.
لا يغيِّر لغته حسبًا لنوعية الناس، وإنما يظلون ينظرون إليه فى دهشة كأنه كائن فضائى غريب حطَّ بينهم فجأة بلغة فضائية لا يفهمونها ويتحدث عن مخلوقات أخرى مشابهة له، بينما أهالينا البسطاء يظلون أمامه فاغرى الأفواه يتعجبون من معجزات الله التى أودعها خلقه.
إنسان رقيق مهذب، وكأنه منسوج من حرير، وفى نفس الوقت بركان ثائر يقذف بالحمم دون توقُّف، فهو طفولى لكن تمتزج عبقريته بحب شديد للملاعبات والمداعبات.
عيناه حمراوان كأنه شرب لتوه برميل روم، سبابة يمناه طويلة، ومستعدة لتنغرس فى عين كل من يقول كلمة ضد الأستاذ عباس محمود العقاد.
إنه يحيى الطاهر عبدالله كما يراه ويصفه ويتحدث عنه الخال عبدالرحمن الأبنودى، وللعقاد قصة مع يحيى الطاهر.
فقد كان ليحيى خال شاعر وأديب وأحد حراس ثروة العقاد اسمه الحسانى حسن عبدالله، من هؤلاء الذين إذا انتقدت أو ناقشت فكرة ما للأستاذ العقاد تجده انتفض وتبدلت ملامحه فى الحال ليصير الوجه عصابيا يختلف تماما عن وجه صاحبه.
نقل الحسانى عدوى التحزب العقَّادى فى تلك البيئة الضيقة بقرية الكرنك إلى يحيى الطاهر الذى جاء محصنا بدرعه ممتشقا سيف «الحزب العقادى» وحين بلغنا وأقام معنا وتناقشنا، اتهمناه بالانغلاق وأنه يحفظ «صما» ما لقنه إياه العقاديون، وأن الواجب أن يقرأ الحكيم ومحفوظ وطه حسين كما يقرأ العقاد.
أما أمل دنقل فقد انطلق فى وجه يحيى الطاهر قائلا: «إذن.. ما دمت تعرف كل شىء، وما دام العقاد حشا فمك بكل ذلك الكلام الجاهز فلا أمل فيك، وعليك أن تعود الآن إلى الكرنك لتجد شابا صغيرا نقيا تلقِّنه ما لقنك إياه خالك الحسانى، لا تضيف إليه ولا تُنقِص، لتخرج إلى الحياة مثل والدك ووالدى ووالد عبدالرحمن مستريحا تماما إلى ما أجهد الآخرون أنفسهم فى تحصيله لتتلقفه أنت بعقل جامد وتسلمه إلى غيرك بنفس الجمود والبرود».
بينما قال له الأبنودى: «لقد قرأنا العقاد يا أخى قراءة جماعية واستفدنا من وعيه بالعلم والفلسفة وعلم النفس وحتى بالاقتصاد ناهيك عن التاريخ، لكننا فى الوقت نفسه قرأنا من طه حسين إلى أنيس منصور».
واحتار يحيى الطاهر حيرة شديدة بين ما سمعه من أمل وعبدالرحمن، وما حفظه وشبَّ عليه طوال حياته، لكنه حسم أمره، وهضم كل رأى، فصارت له ذائقة نادرة يرى مواضع الجمال الخفية ويكتشف مَواطن الضعف.
هكذا ظل يحيى الطاهر مذ أول مرة رآه فيها الخال عبدالرحمن الأبنودى.
حينذاك دَقَّ الباب.
قالت فاطمة قنديل: «عاوز إيه؟» قال: «عاوز عبدالرحمن»، سألته: «أنت مين؟» قال: «جوليله يحيى الطاهر عبدالله»، فشدَّت فاطمة قنديل «السُّقاطة» ليدخل!!
ومر يحيى الطاهر من الباب، واستقر فى إحدى الغرف، فدخل وقعد وولع سيجارة، وقرر ألا يغادر هذا البيت أبدا دون أن يدعوه أحد أو يستأذن من أحد.
وجلس يحيى الطاهر، وحصل على حقوق لم يحصل عليها عبدالرحمن ذاته، لدرجة أنه كان يدخل فى نقاشات عنيفة مع أبناء الشيخ الأبنودى الكبار، وينتقدهم علنا حتى ضاقوا به، لكنه لم يكن يحس ذلك، فقد كان يعتقد أنه يرى الحقيقة، وعلى الجميع أن يروا ما يراه وإلا كانوا متخاذلين لا يبغون تطوير أنفسهم، وذهبت محاولات الخال لإسكاته سُدى، بل إنه كان يتعجب حين يقول له الخال إنه يجب أن يتصرف باعتباره ضيفا سوف يرحل آجلًا أم عاجلًا.
وكان يردّ على الأبنودى بهدوء شديد قائلا: مَن قال إننى سوف أرحل؟ ثم إن إخوتك لا يملكون الحق فى الضيق بى لأننى فى هذا البيت أسلك فى إطار حقوقك أنت، إذ إننى أنت، وإذا لم يكن يعجب أبناء الشيخ وجودى بينهم فليرحلوا!
راقبه أبناء الشيخ الأبنودى أياما ثم قرروا أنه مجنون، وأنه ليس من الطبيعى لرجل لا نعرف عنه شيئا أن يصبح عضوا دائما فى البيت يعرف أسراره، ويحضر الشجارات ويتدخل فيها وينحاز إلى جانب ضد جانب، ويفعل ما يشاء وقتما يشاء.
هكذا أقام يحيى الطاهر فى بيت الشيخ، كأنه نزل إليهم بالبراشوت لينزرع فى قلب أمل وعبدالرحمن دون سابق معرفة أو إنذار، كأنه يحيا بينهم منذ ولادتهم.
يحيى الطاهر شخصية بديعة ومبدعة لكنه أيضا - مثل أفذاذ كثيرين - به مَس من جنون، فذات يوم قرر أن يترك عمله، ويتفرغ للقراءة!
وذهب إلى أمل دنقل وعبدالرحمن الأبنودى ليبلغهما القرار، حينها ثار أمل فى وجهه ثورة عنيفة.
وإذا بيحيى يقول: «طب وفيها إيه يا أمل؟ فيها إيه يا خيّى؟ أنا جيت من الكرنك عشان أشوفكم أنتو ولا عشان الوظيفة؟ يجطع الوظيفة واللى يعوز الوظيفة».
قال أمل: «وكيف تأكل وتشرب وتدخن هذا الكم من السجائر التى لا ندخنها مجتمعين؟».
ويرد يحيى: «إهدا بس يا خيّى.. الأكل والشرب عند الحاجة أم عبدالرحمن، الأكل فى بيت الشيخ الأبنودى يكفى جَبيلة، أما عن الدخان فمتآخذنيش ده أنت أبو الكرم، مثلا علبة السجاير دى جابها لى مصطفى الشريف».
ويصرخ أمل قائلا: «وكمان عرفت مصطفى الشريف؟ إمتى وفين؟».
يقول يحيى الطاهر: «لقيته فى الندوة واتكلمت معاه، وكلمة من هنا وكلمة من هناك لقيت الراجل حبّنى وراح اشترالى علبتين سجاير».
المدهش أن يحيى الطاهر كان قد ترك عمله قبل أن يحزم حقائبه ويحملها إلى قنا، لكن كان يدرك أن هذا القرار سيتسبب فى ثورة ضده لذلك كتمه فى قلبه، ولم يبلغ به أحدا، بل ادَّعى أنه انتقل للعمل من وزارة الزراعة فى الأقصر إلى قنا حتى يقتنع الجميع بما فعله.
مذ ذلك الوقت صار عبدالرحمن وأمل وثالثهم يحيى الطاهر لا يفترقون أبدا يأكلون ويشربون ويسهرون معا إلى أن رحل يحيى فرثاه الاثنان.
قال عنه أمل:
ليت أسماء تعرف أن أباها صعد
لم يَمُتْ
هل يموت الذى كان يحيا
كأن الحياة أَبَدْ
وكأن الشراب نَفَدْ
وكأن البنات الجميلات يمشين فوق الزبد!!
بينما رثاه الأبنودى فى «عدُّودة تحت نعش يحيى الطاهر عبدالله» قال فيها:
يا يحيى يا عجبان يا مليح
يا رقصة يا زغروته
إتمكن الموت من الريح
وفِرْغِت الحدوتة
آخر حروف لابجديَّة
أول حروف اسم يحيى
للموت كمان عبقرية
تموت لو الاسم يحيى
المدهش أن عبدالرحمن الأبنودى ويحيى الطاهر وُلِدا معا فى شهر إبريل من عام 1938 ولكن الأبنودى أتى إلى الدنيا قبل يحيى الطاهر بتسعة عشر يوما فقط، أما أمل دنقل فقد جاء إلى الدنيا بعدهما بعامين، ولكن الثلاثة صاروا أعلاما شامخة وعلامات بارزة فى تاريخ الشعر والأدب.
لكنها صدفة عجيبة ومذهلة أيضا أن يمنح الجنوب ثلاثة على هذا القدر من العبقرية والتفرد فى زمن واحد، شاعران فذَّان، وأديب متفرد، إلا أنهم من كثرة «العِشرة» و«العيش والملح» صاروا ثلاثة شعراء حين لُقب يحيى الطاهر بشاعر القصة القصيرة، ورثاه يوسف إدريس قائلا عنه: «النجم الذى هوى».


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.