كانت نزهة أنيقة يقصدها مختلف شرائح المجتمع على كورنيش النيل بحي الزمالك الراقي، ولم يكن يعلم الخديوي إسماعيل قبل نحو 150 عامًا، وتحديدًا 1867 حين طلب من مدير متنزهات باريس تصميم حديقة على شكل جبلاية لتكون معمارية عالمية، أنَّ الإهمال سيطولها وتكون وكرًا لارتكاب أعمال منافية للآداب. - فلاش باك: هنا الجبلاية.. تحفة معمارية جنينة الأسماك كما يُطلق عليها، والتي كتب عنها أنيس منصور، وتردد عليها فنانون كثيرون مثل شادية وأحمد رمزي وفاتن حمامة وأحمد مظهر وغيرهم، كانت مكانًا جاذبًا للمخرجين السينمائيين لتصوير العديد من المشاهد المختلفة بها. وكانت الجنينة تضم 49 حوضًا من الأسماك المتنوعة والنادرة، مثل الأسماك النيلية والبحرية وأسماك الزينة، بجانب بانوراما لعرض الأسماك المحنطة، وبها أقسام أخرى تضم أنواعًا من السلاحف والزواحف البحرية التي تعيش في المستنقعات والأنهار. إضافة إلى أنه في واجهة الحديقة كان حوض كبير به أسماك مفترسة مثل القرش والخنزير. وبين ليلة وضحاها؛ طال الحديقة الإهمال وشابها انعدام الخدمات المقدمة لزائريها، وأصبحت شبه خاوية على عروشها من الأسماك، ويفوح منها الروائح الكريهة، بعد أن كانت مقصد العشاق والأحبة والمشاهير. - جولة في أرجاء الحديقة وما إن تطأ قدماك الحديقة بعد أن تقطع تذكرة دخول ثمنها 5 جنيهات، و20 جنيها لغير المصريين، وتدخل من الباب الرئيسي للحديقة.. وتبدأ التمشي قليلًا فتجد ثلاثة طرق يتوسطها خريطة توضيحية تسهل عليك جولتك، ويلفت نظرك للوهلة الأولى الأشجار النادرة التي تم جلبها خصيصًا من مدغشقر وأستراليا وتايلاند من الغابات النادرة، غير أنها شُوّهت بعبارات الحب والغرام حتى الأسوار المحيطة بها لم تسلم. عند اتجاهك نحو اليمين تجد حوضين يحيطهما الأسلاك، ويغطيهما البلاستك، بطول نحو 15 مترًا، وبرغم وجود أشكال وأنواع مختلفة من الأسماك، مثل بلطي نيلي من عائلة سيكليد إفريقي، وسمك الكوي، إلا أن ارتفاع نسبة الرطوبة وسوء التهوية يجعلك لا تستطيع البقاء في المكان سوى دقائق معدود، ولا يمكن لأصحاب الأمراض الصدرية والحساسية التواجد في المكان. وعلى بُعد خطوات بسيطة من الحوضيين يوجد المعمل البحثي والتنظيمي، الذي خالطته الأتربة والأوساخ، ويبدو مهجورًا، وبه أحواضًا تحتوي على سمكة أو اثنين على الأكثر في مياه لونها متغير، وتشم رائحة كريهة قد تُصيبك بالغثيان، وإلى جانب الأحواض الفارغة تجد أدوات البناء المبعثرة بالمكان ووصلات الكهرباء فوق أحواض السمك. - خفافيش "نباتية" عندما تقترب من "الجبلاية" تسمع أصواتًا مخيفة، وبالاقتراب من مصدر الصوت ستكتشف كمًا هائلًا وضخمًا من الخفافيش التي تسكن سقف الجبلاية، وكأنك دخلت وكرًا لطيور الظلام التي تطيرون في أرجاء مكان إضاءته خافتة: "متخافيش يا بنتي دي خفافيش نباتية" يقولها أحد العمال في الحديقة، محاولًا طمأنتي حين سألناه عن مخاطر وجودها، وكثرتها. - "هتدخلي لواحدك إزاي؟" أثار وجود محررة "مصراوي" داخل الجبلاية بمفردها، دهشة واستغراب أحد العمال: "أنتي إزاي تدخلي هنا لوحدك.. مفروض يكون معاكي أخوكي أو حد"، يقولها بتأثر موضحًا أن المكان شهد حالات تحرش عديدة خاصة في المناسبات والأعياد، غير أنه استكمل حديثه: "هو المكان مؤمن بس ولاد الحرام في كل مكان". العامل كان حريصًا على سرد طريقة بناء الجبلاية وطريقة تصميمها الرائع، موضحًا أنه تم استخدام مواد بسيطة لبناء التصاميم المبنية من الطين الأسواني المخلوط بمادة الأسروميل والرمل الأحمر، بالإضافة للطوب المصنوع من خليط من الطين الأسواني والمواد الداعمة الصلبة لإنشاء تكوينات معمارية على هيئة الخياشيم، فأصبح تصميم الجبلاية يشبه السمكة. - أحواض سمكية بلا سمك عند التوغل أكثر بداخل الممرات بالجبلاية التي تتخذ شكل شعاب مرجانية، تضم جدرانها أحواض سمكية فارغة، بلا أسماك حية وبعضها أسماك محنطة، حتى دون وجود أي بيانات تخص هذه الأسماك المحنطة سواء اسمها ووزنها وصفاتها. تمثالان مجهولان.. أمام الجبلاية تمثالين لشخصين منقوش عليها عبارات فرعونية، دون أي بيانات أيضًا تخص هذين الشخصين، غير أنهما مشوهين تمامًا بعبارات الحب والغرام وبهما بعض الكسور في الوجه. وتضم الحديقة التي تفتح أبوابها للزائدين يوميًا من التاسعة صباحًا حتى الخامسة مساءً، عدا يوم الثلاثاء، بحيرة صناعية صغيرة فارغة تمامًا من المياه، غطت أرضيتها المهملات والأتربة، وعند سؤال عامل "كافتيريا الحديقة". - "فقط فسحة على قد الإيد" "فسحة كلفتها بسيطة وعلى قد الإيد وبنتفسح ونشم هوا نضيف وسط الخضرة"، تقول "الحاجة زينت" إحدى الزائرات التي تترد على الحديقة منذ كانت طفلة صغيرة مع شقيقاتها. "الحاجة زينت" لا يهمها الأسماك أو منطقة الجبلاية في الحديقة، سوى أنها تأتي للحديقة لكلفتها المنخفضة والجلوس في استراحة الحديقة: "بنيجي بالأكل بتاعنا، نقعد و العيال يلعبوا وينبسطوا", ويأخذ أطراف الحديث الحج إسماعيل (45 عامًا)، كان يسير بخطوات هادئة مع أحفاده متكأ على عصى، موضحًا أنه اعتاد التردد على الحديقة: "بنغير جو ودا مكان تجمع العيلة"، متمنيًا أنها تكون الحديقة على حال أفضل من ذلك مطالبا بإعادتها إلى الحياة من جديد عن طريق إعادة الأسماك النادرة إليها، وتطوير البنية التحتية للأحواض التي تضم هذه الأسماك. مدير الحديقة: الإمكانيات المادية ضئيلة.. وقدمنا مقترحات لتطويرها ومن جانبها؛ تواصلت مصراوي، مع الدكتور آياتي رجب محمد، مدير حديقة الأسماك، للرد على ما تشهده من إهمال؛ قائلًا في تصريحات خاصة: الحديقة شهدت خلال الفترة الماضية بعض أعمال التطوير منها تشغيل وتفعيل صوب الأسماك "أحواض السمك الكبيرة"، وتم تجديد حوائط وأرضيات البحيرة وتحويلها إلى سيراميك وإجراء أعمال عزل، ومن المقرر تفعيلها قريبًا". وكشف مدير الحديقة، أن معظم الأسماك النادرة التي كانت متوفرة سابقاً بالحديقة تم تحنيطها بالفورمالين، معربًا عن أمله في أن يكون هناك إمكانية لعودة الأسماك مرة أخرى إلى الحديقة: "لكن دا بيرجع للإمكانيات المادية، بجانب عدم توافر عناصر بشرية تشتغل زي فنيين الأسماك والمتخصصين"، على حد قوله. وردا على مظاهر التحرش، نفى آياتي أي وقائع تحرش بالحديقة مشيرًا إلى أنه يوجد بها شركة أمن، وأنه يسعى إلى زيادة عدد أفرادها لنشر الأمن في أرجائها، وتجنب أي مضايقات لزوارها. كما أكد أن الحديقة ليس بها زحام ملحوظ يدعو لوجود متحرشين: "التحرش وارد ظهوره في الحدائق العامة والشعبية، على عكس حديقة الأسماك التي تتسم بطابع الحب والرومانسية من أيام عبد الحليم". وبالنسة لتدهور حالة المعمل البحثي؛ أكد مدير حديقة الأسماك؛ أن ذلك يرتبط بالدعم الفني والمادي للمعمل لأنه يحتاج موظفين أصحاب خبرات عالية، ومتخصصين في مجال الأسماك، مضيفًا: "نسعى للوصول إلى حل مع الجهات البحثية، لأن عدم وجود تعيينات حكومية جديدة سبب لنا أزمة كبيرة للحديقة التي بدأت تعمل في حدود الإمكانيات المتاحة لتجنب قرار غلق المعمل". ويأمل آياتي، في استعادة الحديقة لرونقها سريعًا بسبب موقعها المتميز وعمرها الذي يتجاوز القرن والنصف، إذ تعتبر من أقدم المسطحات الخضراء في العاصمة على مساحة تسعة أفدنة والنصف، وكانت تستقبال الأمراء وملوك أوروبا قديما. وناشد منظمات المجتمع المدني وجمعيات الزمالك بضرورة التعاون مع مسؤولي الحديقة بالدعم الفني والاستثمار في الحديقة لتحويلها في المناسبات والأعياد إلى مزار سياحي: "بالإمكانيات المتاحة لي حالياً محتاجين 20 سنة علشان تستعيد الحديقة رونقها من جديد". - مقترحات تطوير الحديقة لا تلقى استجابة "أنا حزين علي حال الحديقة".. بهذه العبارات أوضح مدير الحديقة، التي تبلغ قيمتها المادية الحالية 3 مليارات جنيه، سعيه على مدار حوالي عامين للنهوض بها وتطويرها اكن دون استجالة من المسؤولين. ومن أبرز نقاط الرؤية المقترحة للتطوير: - تشغيل المعمل ودعمه باحتياجاته المادية والفنية - إنشاء مطاعم وكافيهات عالمية بداخل الحديقة، وتحويل منطقة الجبلاية لمتحف للأحياء المائية طالما من الصعب إدخال المياه به، وتوفير أحواض للأسماك بالشكل المطلوب. - عمل تنسيق زراعي متكامل خاصة الحديقة تضم عدد من الأشجار النادرة. - توفير منطقة ملاهي حديثة ومتطورة للأطفال. ويمكن استغلالها في الأحداث كالأفراح وجلسات التصوير.