كانت قمرا يطلع مساء كل خميس من أول شهر، صوتها كان رسائل حب بين العشاق، ورسائل حماس للثوريين، آهاتها جمعت الوطن العربي من المحيط إلى الخليج، أدائها كان السهل الممتنع، فتربعت على عرش الأغنية العربية لأكثر من نصف قرن من الزمان، واليوم هو الذكرى ال114 لميلاد كوكب الشرق "أم كلثوم". "فاطمة إبراهيم البلتاجي"، انشق صوتها يعلن وصولها للدنيا يوم 31 ديسمبر 1898، الأب هو المنشد الشيخ "ابراهيم البلتاجي"، ذائع الصيت في قرية "السنبلاوين" والقرى المجاورة بمحافظة الدقهلية، تربت أم كلثوم في أسرة تقدس الإنشاد الديني، وكان أبوها يسعى لإعداد أخاها الأكبر "خالد" ليكون مساندا له في الإنشاد، فاستطاعت الطفلة الصغيرة حفظ بعض الأدوار والأناشيد ورددتها على مسامع أبيها في سن صغيرة، فقرر أن يلحقها ببطانته لعلها تكون "عنصر جذب" للمستمعين. بالفعل، كانت الفتاة الصغيرة "وش السعد، حتى أن "السمّيعة" كانوا يطلبون الاستماع لإنشاد الفتاة الصغيرة خصيصا، ودعمها أبوها بمزيد من أدوار مدح الرسول وغيرها من الأناشيد الدينية، وفي نفس الوقت أرسلها لكتاب القرية لتحفظ القرآن وتتعلم مبادئ القراءة والكتابة، وفي نفس الوقت كانت تجوب بصحبة "الشيخ ابراهيم" وأخيها "خالد" لإحياء الليالي والأفراح بالقرى والمحافظات القريبة. عام 1916، جاء ذائع الصيت "الشيخ أبو العلا محمد" بصحبة الشيخ "زكريا أحمد" إلى قرية أم كلثوم "طماي الزهايرة"، لإحياء ليالي رمضان بمنزل أحد أعيان البلدة هناك، وكانت "أم كلثوم" بصحبة "بطانة والدها" هناك ضمن المدعوين لإحياء الحفل، استمعوا لها ونصحوا والدها بالذهاب بها إلى "مصر المحروسة"، ففرصة الشهرة والارتقاء هناك أكبر. كانت أول الحفلات في "مصر المحروسة" لإحياء احتفال ديني بقصر أحد الباشاوات، وأعطتها سيدة القصر "خاتما ذهبيا" تكريما لها على أدائها المتميز، وبلغ أجرها في هذا الوقت "جنيها مصريا كاملا"، إلا أنها كانت تعود بعد نهاية الحفل بالقطار إلى قريتها، حتى قررت الأسرة الاستقرار نهائيا في القاهرة مع عام 1923. حتى هذا الوقت، لم تتخلى "أم كلثوم" عن "الشال والقفطان"، فوالدها أراد ألا يطمع الناس في "فتاته الصغيرة"، وأراد أن تتنكر في ملابس "الولد" حفاظا عليها، لكنها بعد قدومها للقاهرة استطاعت تغيير ملابسها إلى الفستان الطويل المقفول، كما دعمها "الشيخ أبو العلا" بالوقوف في بطانتها، وأدخل أيضا "تخت شرقي" للعزف ورائها، وغنت أدوارا غنائية بجانب الإنشاد الديني، كان أولها قصيدة "الصبو تفضحه عيونه 1924" لأحمد رامي، العائد توه من "باريس". "صحبة العمر" كانت بين أم كلثوم و أحمد رامي، وثالثهما مجدد الموسيقى العملاق "محمد القصبجي"، وقدموا معا أبدع أدوارها الغنائية نهاية العشرينات و طوال ثلاثينيات القرن الماضي، واستطاعت في وقت قصير مزاحمة كبار المغنيين حتى وصلت إلى منافسة "سلطانة الطرب - منيرة المهدية". كانت السينما وقتها في بدايتها الذهبية، و استطاع الاقتصادي الكبير "طلعت حرب" اقناعها بتمثيل أول أفلامها "وداد 1935" إنتاج "ستوديو مصر - أحد شركات بنك مصر الناجحة"، ومثلت للسينما أيضا "نشيد الأمل 1937، دنانير 1939، عايدة 1942، سلّامة 1944، فاطمة 1948". وصل صيتها "للقصر الملكي" وغنت أمام "الملك فاروق" و اعطاها "وسام الكمال"، وكان لا يعطى إلا للأميرات وصاحبات العصمة زوجات الوزراء، و أراد "شريف باشا صبري" خال الملك فاروق الزواج منها، إلا أنه مشروع باء بالفشل. تعرفت على "عبد الناصر وحكيم و السادات" وغيرهم من ضباط الجيش أثناء "حرب فلسطين"؛ حيث طلبوا منها ان تغني "غلبت أصالح في روحي" أثناء "حصار الفالوجة"، واستضافتهم في بيتها بعد رجوعهم من فلسطين، وبعد ثورة 1952، كانت أم كلثوم من أشد المتحمسين والمغنين لها وخاصة ل"جمال عبد الناصر"، إلا أن أغانيها مُنعت من الإذاعة باعتبارها "فلول العهد البائد" لغنائها للملكين "فؤاد و فاروق"، وتدخل الحاكم العسكري "عبد الناصر" لحل تلك الأزمة. فترة الخمسينات كانت أوج نشاط أم كلثوم، فبين تأسيس "نقابة الموسيقيين" وبين تسجيل أغاني المسلسل الإذاعي "رابعة العدوية"، تكلل نشاطها أيضا بالغناء لصالح "المجهود الحربي" في عدوان 56، إلا أن المرض داهمها في "الغدة الدرقية"، وألزمها ارتداء "النظارة السوداء" لإخفاء تأثير الغدة على عيونها، و سافرت "بجواز سفر دبلوماسي" للعلاج في مستشفى "البحرية الأمريكية" على نفقة الدولة. ستينات القرن كانت الأشهر في حياة أم كلثوم، و جاء "لقاء السحاب" بينها و بين موسيقار الاجيال "محمد عبد الوهاب" برائعة "أنت عمري 1964، و قدما معا أكثر من أغنية منها "أمل حياتي و دارت الأيام"، كما تعاونت أيضا مع الموهوب الصاعد "بليغ حمدي"، وقدما "حب إيه، هجرتك، أنساك، كل ليلة و كل يوم، بعيد عنك، فات المعاد، ألف ليلة و ليلة، الحب كله و حكم علينا الهوى" وكانت أخر أغانيها. جاءت النكسة و اصيب الشعب بالإحباط، إلا أنها برسالة الفن استطاعت إلهاب حماسة الجماهير من جديد، و قدمت "أصبح عندي الآن بندقية" و "دوس على كل الصعب و سير" وغيرها من الأغاني الوطنية، و سافرت لفرنسا للغناء على "الأوليمبيا" وغنت رائعتها "الأطلال"، كما زارت عدة عواصم عربية لنفس الغرض. تسمع خبر وفاة "عبد الناصر" وهي خارج مصر، و ترثيه ب"رسالة إلى زعيم 1970" ل"نزار قباني و رياض السنباطي"، وتأتي سبعينيات القرن، و تظل ام كلثوم متوجة على عرش الأغنية، حتى تسقط صريعة مرض "التهاب الكلى"، ويخبوا نشاطها الفني تأثرا بمرضها، وتخصص الصحف والإذاعة فقرات لبيان حالة أم كلثوم الصحية، وفي 22 يناير 1975، يظهر "يوسف السباعي – وزير الثقافة" يعلن نبأ وفاة أم كلثوم، ويرسل إليها ب"ماء زمزم" لتغسل به، ويعلن الحداد في البلاد لثلاثة أيام، وتخرج في موكب مهيب بين أمواج الشعب لتدفن في مقابر الأسرة بالسنبلاوين. أغانيها عاشت حتى اليوم، وصورتها "بالهلال الماسي" و "تسريحة الشعر"، و"المنديل الحريري" فوق خشبة المسرح لا تزال "أيقونة" في قلوب عشاقها دائما.