لم يعد الخطر الذي يواجه القضية الفلسطينية محصورًا في محاولات الفصل الجغرافي الصريح بين غزة والضفة الغربية، بل تطوّر إلى مسار أكثر تعقيدًا وهدوءًا: تفكيك تدريجي يسبق التصفية، ويُمهّد للانفصال دون إعلان. لا شعارات تُرفع، ولا خرائط تُكشف، لكن الوقائع على الأرض تُعاد صياغتها ببطء، حتى يتحول الانقسام من أزمة طارئة إلى وضع «طبيعي» يُنظر إليه باعتباره حلًا عمليًا. في هذا الإطار، يكتسب الرفض المصري الحاسم لأي محاولة لتكريس هذا المسار دلالته السياسية. فالقاهرة تدرك مبكرًا طبيعة اللعبة الجديدة، حيث تُدار غزة كملف إنساني منفصل، بينما تُختزل الضفة الغربية في ترتيبات أمنية واقتصادية معزولة عن بعدها السياسي. هنا لا نتحدث عن إدارة أزمة مؤقتة، بل عن عملية تفكيك ممنهجة لوحدة الأرض والقضية معًا. الأخطر في هذا النهج أنه لا يقوم على قرارات صدامية أو تحولات مفاجئة، بل على تآكل بطيء للمعنى. تُفصل غزة وظيفيًا في البداية، لا سياسيًا، تُدار أزماتها عبر المساعدات، وتُربط احتياجاتها بمعادلات التهدئة، بينما تُترك الضفة أسيرة حسابات مختلفة. ومع مرور الوقت، يتحول سؤال وحدة الجغرافيا من أولوية سياسية إلى ملف مؤجل، ثم إلى فكرة «غير واقعية» في الخطاب الدولي. تفكيك العلاقة بين الضفة وغزة لا يعني فقط شطر الأرض، بل إفراغ فكرة الدولة الفلسطينية من مضمونها. فالدولة لا تقوم على جزر معزولة، ولا تُدار بإرادتين سياسيتين متناقضتين، ولا يمكن أن تعيش بلا عمق جغرافي واحد. من هنا، ترى مصر أن القبول بهذا التفكيك، حتى تحت عناوين إنسانية أو أمنية، هو قبول ضمني بدولة منقوصة... أو بتغييب فكرة الدولة من الأساس. الانقسام الفلسطيني، الذي بدأ كأزمة داخلية، يجري اليوم إعادة توظيفه كأداة لإعادة هندسة الواقع السياسي. لم يعد الهدف إنهاء الانقسام، بل التعايش معه، ثم البناء عليه كأمر واقع. وهو مسار ترفضه القاهرة، انطلاقًا من قناعة راسخة بأن أي مشروع سياسي لا ينطلق من وحدة الأرض والقرار، يظل مشروعًا هشًا، قابلًا للانهيار، أو للتحول إلى غطاء ناعم لتصفية القضية. ولا ينفصل الموقف المصري عن اعتبارات الأمن القومي، لكنه يتجاوزها إلى رؤية أشمل تتعلق باستقرار الإقليم ومنع خلق كيانات هشة على حدوده. فغزة، في هذا السياق، ليست مجرد قطاع محاصر، بل جزء من معادلة إقليمية لا تحتمل العبث أو إعادة التعريف خارج إطارها الفلسطيني الوطني. من هنا، تبدو الرسالة المصرية واضحة: لا تهدئة مستدامة بلا وحدة، ولا إعادة إعمار حقيقية بلا أفق سياسي، ولا سلام يمكن الوثوق به إذا بدأ بتفكيك الأرض قبل إعلان الانفصال عنها. فالقضية الفلسطينية لا تُصفّى بقرار واحد، لكنها قد تُستنزف عبر مسارات تبدو عقلانية في ظاهرها، بينما تحمل في جوهرها أخطر أشكال التصفية. هكذا، يصبح رفض مصر ل«تكريس الانفصال» دفاعًا عن الفكرة قبل الجغرافيا، وعن المعنى قبل الخرائط، في مواجهة لعبة جديدة عنوانها التفكيك الصامت... قبل التصفية الكاملة.