كان المنشدون والوشاحون الأوائل في مصر يعتمدون علي ما اقتبسوه وتعلموه من قراءة القرآن الكريم والسير النبوية للإنشاد الديني تقاليد متعارف عليها أهمها : أن يكون لكل مؤد بطانته (مجموعة الكورس) يجلسون في صفين متقابلين يتوسطهم المنشد أو الشيخ بدأت أنماط الإنشاد الديني التقليدية في مصر تتطور منذ عام 1926م، عندما قدمت أم كلثوم أول أغنياتها الدينية من دون بطانتها (الكورس)، وبمصاحبة آلات التخت الموسيقي العربي، واستبدلت لقب المنشدة بالآنسة. يتسم شعب مصر بأنه شعب في أغلبه متعبد بالفطرة، يؤمن بإلهه عبر تاريخه مهما اختلفت عقائده، وكان الغناء الديني شيئا أساسيا في عباداته عبر تاريخه إلي أن أصبح الإسلام هو ديانة الأغلبية من أبناء هذا الوطن. وفي شهر رمضان الكريم تنتشر أنواع الغناء الديني، وربما الكثير منا يستمع اليه ويستمتع به دون أن يعرف إلي أي من الصيغ الغنائية تنتمي هذه الأغنية أو تلك، وهذا ما سنكشف عنه في السطور التالية. عرف المصريون القدامي الغناء الديني حيث أطلق عليه الابتهالات في الحضارة الفرعونية، و كلمة ابتهال تعني الاخلاص في الدعاء، وكان الكهنة يقدمونه للاحتفال بالآلهة رع وآمون. وفي بعض البرديات والنقوش الفرعونية ظهرت ايزيس وحولها حاملوا الأعلام والعازفون والمنشدون بمصاحبة مجموعات موسيقية في صورة قريبة جدا من مواكب الصوفيين في الاحتفالات الدينية الحديثة. إختلفت أهداف الغناء الديني في الحضارة الإسلامية ليكون وظيفته تهذيبية أخلاقية دعوية إلي جانب التطهير، وفي جميع دول الخلافة الإسلامية في مصر كان هناك اهتمام بالغناء الديني ففي الدولة الفاطمية ظهر مايعرف بالتواشيح الدينية منها ماكان يغني في المناسبات الدينية المختلفة وما كان ُيرتل قبل آذان الفجر. ومع دخول الطرق الصوفية إلي مصرانتشرت أنواع من الغناء الديني، وأول من غرس بذور التصوف في مصر هو"ذوالنون" المصري المتوفي عام 245هجرية، وقد بلغ عدد الطرق الصوفية في مصر الآن إحدي عشرة طريقة، وكان لحكم ولاية العثمانيين في مصر فضل في نشر الطرق الصوفية بإنشاداتها المتنوعة بين جماهير الشعب حيث كانت موسيقي وغناء التصوف جزءا أصيلا من الثقافة التركية الإسلامية. وقد اعتمد الإنشاد الديني في بداية عهده علي الارتجال الغنائي التلقائي، إلي أن إهتم به رجال الطرق الصوفية فوضعوا له تقاليد محددة لغنائه. وقد حدد المجتمع الاسلامي واجبات المنشد تفصيلا فيقول الصوفي تاج الدين عبد الوهاب بن علي السبكي أحد علماء الاسلام "أنه ينبغي علي المنشد أن يذكر من الأشعار ماهو واضح اللفظ، صحيح المعني، مشتملا علي مدائح سيدنا ومولانا وحبيبنا محمد(ص)، وعلي ذكر الله تعالي وآلائه وعظمته، وخشية مقته وذكر الموت وما بعده"، ولا يقر السبكي استعانة المنشد ذكر أبيات َغزَلية أو حماسية وخاصة في مجامع العلم،والجدير بالذكر أنه كان يطلق علي المنشد في الحضارة الاسلامية الأولي ابن الليالي .ويعتمد المنشد في الغناء الديني علي موسيقي الشعر والألفاظ كأساس لغنائه، خاصة في الإنشاد المُرتجل، وغير المصاحب بالآلات الموسيقية. وتختلف نبرات وتعبيرات المنشد بصوته حسب اختلاف المعاني الواردة في الشعرلضمان وصول المعني الشعري والتأثير علي المتلقي بهدف إشعاره بالصفاء الروحي. مدارس المشايخ : كان المنشدون والوشاحون الأوائل في مصر يعتمدون علي ما اقتبسوه وتعلموه من قراءة القرآن الكريم والسير النبوية، ومع انتشار مدارس الكتاتيب أثناء القرن التاسع عشر التي كان يرتادها معظم أبناء القري والنجوع في مصر، ظهرمجموعة كبيرة من المطربين والمطربات ممن يطلق عليهم المشايخ، كان لهم طابع خاص في الغناء حتي عندما احترفوا الغناء الدنيوي مثل خليل محرم، أبو خليل القباني، عبد الرحيم المسلوب، أحمد ندا، عبده الحامولي، سلامة حجازي، سيد درويش، أبو العلا محمد، اسماعيل سكر، علي القصبجي، درويش الحريري.... وغيرهم. ومن السيدات كُن فتحية أحمد، وأم كلثوم، فكلتاهما نالتا قسطا من تعليم المشايخ في كتاتيب قراهن . وكان الهدف الأساسي لمدرسة الكتاب هي تخريج مقرئين للقرآن الكريم ومنشدين للقصائد والتواشيح والابتهالات الدينية والمدائح النبوية، ومن أهم السمات الصوتية لهذه الفئة من المغنيين أو المنشدين كما كان يطلق عليهم آنذاك :الأصوات الجهيرة، المساحة الصوتية الواسعة التي لا تقل عن ديوانين(أوكتافين)، النفس الطويل، علمهم بعلوم التجويد مثل المد والتفخيم والترقيق---وما إليها، وإلمامهم بقواعد اللغة العربية التي تمكنهم من النطق العربي الصحيح. وقد كان للإنشاد الديني تقاليد متعارف عليها أهمها : أن يكون لكل مؤد بطانته (مجموعة الكورس) يجلسون في صفين متقابلين يتوسطهم المنشد أو الشيخ، ويبدأ قبل بداية غناء كل أغنية دينية في ضبط الطبقة الصوتية والمقام لهم بصوته فقط، ثم يبدأ مساعد الشيخ وهو أقدم أفراد البطانة بغناء درجة القرار للمقام بصوته بقوله (لا اله الا الله) وضبط الوحدة الزمنية بالضرب علي إحدي يديه باليد الأخري، ويبدأ المنشدون معه بترديد ماقاله مسبقا من طبقة صوتية أحد منه، وأخيرا يبدأ المنشد المنفرد بالغناء من طبقة صوتية أحدّ من تلك التي بدأت منها بطانته، مستهلا غناءه بالصلوات علي النبي وآله وأصحابه الكرام وأولياء الله الصالحين، ودائما ماتكون مناطق الاستعراض الغنائي في الإنشاد الديني للمنشد المنفرد ويقتصر دور البطانة (الكورس) علي ترديد أجزاء محددة فقط. تغيرت هذه التقاليد قليلا الآن من ناحية عدد أفراد البطانة، فبعد أن كانت مجموعتين، نجد بعض المنشدين الآن يستخدمون مجموعة واحدة، تغني وقوفا أو جلوسا. أنواع الغناء الديني التقليدي: ظهر الغناء الديني في مصر بعدة أشكال وطرق، فقد ذكرَ المستشرق الإنجليزي (ادوارد وليم لين) أن هناك الإنشاد الذي كان يؤدي في الجنازات، حيث يتقدم الجنازة عدد من الفقهاء وينشدون الشهادتين بصوت حزين ويتبعهم عدد من تلاميذهم يحمل أحدهم مصحفا وينشدون بصوت أحدّ وأعلي من أصوات الفقهاء بعض عبارات قصيدة (الحشرية) التي تصف أحداث يوم الحساب والتي تبدأ بمقطع "سبحان من أنشأ الصور وعلي العباد بالموت قهر"، وعادة ماكان لحن الإنشاد الجنائزي محدود النغمات حيث لا تزيد عن الأربع أو الخمس نغمات فقط. وقد اتفق معظم المنشدين الدينيين بشتي طوائفهم في مصر علي تقسيم أنواع الغناء الديني التقليدي المعروف بالإنشاد إلي خمسة أقسام كالتالي: أولا/ الإنشاد الصوفي، وتكون معظم نصوصه من أشعار الفصحي مثل : يامن يراني ولا أراه/ أنظر بعين الرضي لحالي/ والطف بعبادك في كل هول/ فضلا ومن?يا ذا الجلال/ وارحم بعفوك ضعفي وذلي/ وكن لي عوناً عند السؤال. ثانيا/الابتهالات، وهذا النوع من الإنشاد يعتمد علي ارتجال المنشد الفوري أثناء إلقاء الشعر، ويؤدي دون أية مصاحبة آلية أوتقيد بإيقاع محدد للغناء. ثالثا/ التواشيح، ويؤديها من يؤدون الابتهالات ومعظمهم من المشايخ ممن يلمون بقواعد قراءة القرآن الكريم وأحكامه، وتؤدي أيضا أداءً حرا مسترسلاً ولكن بمصاحبة بطانة المنشد. رابعا/ المدائح النبوية الشعبية، ولايخرج هذا النوع من الإنشاد عن مدح الرسول(ص) والثناء عليه وعلي أصحابه، وُيغني إما بأدءٍ منفرد أو بمصاحبة بطانة المنشد. تصاغ كلماته بالعامية الدارجة وبلهجة محافظة كل منشد، وغالبا مايصاحب المدائح آلات موسيقية بسيطة كالدفوف أو الناي أو كلاهما، ولحن المدائح النبوية بسيط لا يتجاوز الثماني نغمات، يستخدم فيه إيقاعات شعبية في موازين بسيطة، ونذكر من هذه المدائح: النبي ياحاضرين/ جاله جبريل الأمين/ قال له رب العالمين/ طالبك تحظي بجلاله/ والبراق جاله ملجم/ جل من أنشاه وأنظم----- إلي آخره. والإنشاد الديني يتم تقديمه إما في المساجد مثل (ابتهالات شهر رمضان وتكبيرات العيدين وتواشيح ماقبل خطبة الجمعة). وخارج المساجد مثل إنشاد المدائح النبوية في المناسبات المختلفة، وفي حلقات الذكر، والتي يؤديها المسحراتي أحيانا في شهر رمضان، وفي السهرات الدينية. الأغنية الدينية الحديثة : بدأت أنماط الإنشاد الديني التقليدية في مصر تتطور منذ عام 1926م، عندما قدمت أم كلثوم - التي كانت تعمل كمنشدة دينية- أول أغنياتها الدينية من دون بطانتها (الكورس)، وبمصاحبة آلات التخت الموسيقي العربي، واستبدلت لقب المنشدة بالآنسة، ومنذ ذلك الحين بدأ انتاج مايعرف بالأغنية الدينية الحديثة. وضع ألحان الأغنية الدينية الحديثة العديد من ملحني وشيوخ الغناء آنذاك نذكر منهم : رياض السنباطي الذي له باع في ذلك، بدأها بأغنية امتي تعود يانبي، التي غناها أحمد عبد القادر، القلب يعشق كل جميل، سلوا قلبي، ولد الهدي،وجميعهم غنتها أم كلثوم، كذلك الهي ماأعظمك التي غنتها نجاة الصغيرة، اله الكون التي غناها السنباطي بنفسه.كما لحن فريد الأطرش عليك صلاة الله وسلامه،هلت ليالي حلوة وهنية. وفي السبعينات لحن محمد الموجي مجموعة من الابتهالات بالشكل الحديث هي : أنا من تراب، ياخالق الزهرة، خليني كلمة، التي غناها عبد الحليم حافظ . مع التطور التكنولوجي في تقنيات التسجيل الصوتي أصبح للأغنية الدينية الحديثة سمات جديدة نلخصها في الآتي: أن المصاحبة الآلية أصبحت شيئاً رئيسياً في الأغنية الدينية الا فيما ندر، والتي قد يكون ضمنها بعض الآلات الغربية مثل الباص جيتار، التشيللو، وغيرها. أصبح الغناء الديني متاحا للجميع لا يقتصر أداؤه علي فئة المشايخ فقط ممن درسوا أحكام قراءة القرآن وقواعد اللغة العربية، مما أوجد قصورا في الأداء اللغوي . اختلفت تصنيفات الغناء الديني، فبعد أن كانت ابتهالات وتواشيح ومدائح نبوية، أخذت تصنيفات الغناء الدنيوي مثل الطقطوقة، المونولوج،القصيدة. لم تعد الأصوات الجاهورية الصافية ضرورة في أداء الغناء الديني كما كانت من قبل، لأن التقنيات الحديثة بإستوديوهات التسجيل الصوتي منحت الجميع فرصة الغناء. أصبح التوزيع الموسيقي جزءا مهماً في معظم الأغنيات الدينية، بعد أن كان أقصي مايمكن تقديمه نوع بسيط من تعدد التصويت بين المنشد وبطانته. ومما سبق نجد أنه أصبح هناك فئتان متواجدتان لغناء الانشاد الديني، الفئة الأولي وهم المشايخ والمداحون المتواجدون غالبا في أقاليم مصر ونجوعها، وهم الفئة التي تؤدي الإنشاد الديني الموروث في اطاره التقليدي. والفئة الثانية هم فئة مطربي ومطربات الغناء الدنيوي المعاصر الذين أخذوا الشكل العام للإنشاد الديني الموروث وأحدثوا فيه تطورات تتناسب مع امكاناتهم الصوتية وموسيقي العصر الذي ينتمون اليه، مما أدي إلي نشوء ما يعرف بالأغنية الدينية الحديثة، والتي انبثق منها الغناء الديني المعاصر الذي أصبح بعضه يقدم بلغات أجنبية متعددة غير العربية، رغم أن العربية هي لغة القرآن الكريم.