''عارفة يا أبله؟ لما أكبر عايزة أشتغل في كلية الطب'' كانت هذه هي كلماتها عندما توقفت للحديث معها. هذه الطفلة ذات الاثني عشرة سنة. كنت أمر من أمامها كثيراً في طريقي. تجلس قريباً من محطة المترو، وتنظر للمارة بضحكة بريئة قائلة: ''مش عايزة مناديل؟'' في البداية كان يضايقني إلحاحها، إلي أن توقفت يوماً لأشتري منها، ووجدتها تبتسم لي ابتسامتها الطفولية، ووجدتني أرد إليها ابتسامتها. ومع الوقت، بدأت أبتسم لها كلما مررت من أمامها، وأسألها عن أحوالها. حتي مررت من أمامها ذات يوم ولكني لم أرها، فوجدت صوتاً يناديني: ''يا آنسة، يا آنسة'' كانت تناديني، وعندما نظرت إليها، لوحت لي بيديها. سألتها: ''غيرتِ مكانك ليه؟'' فأجابتني: ''أصل هنا ضلة، وأنا دايماً أقعد فيه.'' يالهذه الطفلة. تحرقها حرارة الشمس، ولكنها لا تستسلم. كنت أراقب نظراتها للأطفال أثناء عودتهم من المدرسة، تبتسم وكأنها تري نفسها في كل طفلة، بملابس المدرسة الخاصة بها، حاملة شنطة كتبها المدرسية. ووجدتها تتحدث معهم وتكسب صداقتهم، كأنها تشبع رغبتها في أن تكون واحدة منهم. كنت أنجذب إليها وإلي ضحكتها، وأتعمد المرور من أمامها لأراها، وأتعمد شراء المناديل منها. وفي يوم مررت من نفس الطريق، ولكني لم أجدها، وكذلك في اليوم الذي تلاه، ومرت فترة ولم أرها. حقيقة، شعرت بالقلق. أين يمكن أن تكون هذه الطفلة؟. أري أخري جالسة مكانها، أتركت المكان؟! أم أنها بحثت عن ضلة أخري؟! ومن هذه التي أخذت مكانها؟ وبعد فترة وجدتها جالسة. وياللعجب جريت نحوها ''كنت فين من مدة ؟'' قالت: ''كنت قاعدة في مكان ثان لأن أختي كانت قاعدة مكاني. لأنها محتاجة فلوس علشان تعمل عملية، أصل وشها معووج شوية فالدكتور قال لها :لازم تجيب فلوس علشان تعدله. فقعدت هي هنا وأنا قعدت في مكان ثان. وحضرتك إزيك؟ بتمتحني؟'' أجبتها بالإيجاب وسألتني عن أحوالي في الامتحان وقالت ''شدي حيلك علشان تنجحي. هو أنت لما تخلصي هتشتغلي وتبقي موظفة؟'' ضحكت وأجبتها بالإيجاب. وعندها قالت لي: ''عارفة يا أبله؟ لما أكبر عايزة أشتغل في كلية الطب.'' سألتها: ''أنت بتروحي مدرسة؟'' قالت: ''لا، بروح فصول محو الأمية، وشاطرة فيها وإن شاء الله أنجح وأشتغل.'' وقفت لتتحدث معي وتسألني عن صحتي وعن أحوالي حتي قالت :''يلا روحي بقي علشان ماتتأخريش.''ابتسمت لها وتمنيت أن آخذها معي، وتركتها، ولكنها لم تترك تفكيري. تري ماهي أحلامها ؟ وهل سيأتي اليوم الذي يتحقق فيه حلمها لتصبح طبيبة؟ من يعلم؟ أليس من الممكن أن أذهب بعد عمر طويل لطبيبة وأجدها هي ''بائعة المناديل''؟! كلمتنا – أغسطس 2003 اقرأ أيضا شُغل عيال الظرف وأخيرا..... عاد السيف