ارتفاع حصيلة ضحايا الأمطار الغزيرة في ولاية "هيماشال براديش" الهندية إلى 78 قتيلا    جرافات الاحتلال تهدم منزلا من ثلاثة طوابق غرب رام الله    اليوم.. طقس شديد الحرارة والعظمى بالقاهرة 37 درجة    المستشار حامد شعبان سليم يكتب عن : الفساد صناعة ?!    "الهيئة الوطنية": قبول طلبات 13 منظمة مجتمع مدنى مصرية لمتابعة الانتخابات    رئيس البرازيل يقترح إنشاء عملة تجارية بديلة للدولار خلال قمة بريكس    غارات جوية للجيش الإسرائيلى على جنوب لبنان والبقاع تسفر عن إصابات بين المدنيين    استشهاد 3 فلسطينيين في قصف إسرائيلى لخان يونس    بحضور 4 وزراء ورئيس الهيئة .. وزير الصحة يشهد اجتماع مجلس الإدارة ال 22 للهيئة المصرية للشراء الموحد    حملات مرورية لرصد المخالفات بمحاور القاهرة والجيزة    الطرق البديلة قبل غلق الطريق الإقليمى لتنفيذ أعمال إصلاحات لمدة 7 أيام    تنسيق الثانوية العامة 2025.. تعرف علي الحد الأدنى لدرجات القبول فى 15 محافظة    عيار 21 الآن صباحًا.. سعر الذهب اليوم الاثنين 7-7-2025 بعد صعود 40 جنيهًا في الجرام    ارتفاع التفاح.. أسعار الخضروات والفاكهة في سوق العبور اليوم    محافظ الدقهلية يتفقد سير العمل بمخابز جمصة (صور)    مصدر ليلا كورة: الزمالك يحسم صفقة عمرو ناصر خلال ساعات    بوكيتينو يتهم التحكيم بالتسبب في خسارة أمريكا نهائي الكأس الذهبية    كل ما تريد معرفته عن بطولة السوبر السعودي    وكيله يكشف.. حقيقة رغبة مالكوم في الرحيل عن الهلال السعودي    "قصص متفوتكش".. زوجة النني الثانية تثير الجدل.. وأسباب حبس إبراهيم سعيد    ارتفاع البلدي.. أسعار البيض اليوم بالأسواق (موقع رسمي)    البترول تبدأ العمل في حفر 11 بئرا جديدا لإضافة نحو 160 مليار قدم مكعب من الغاز الطبيعي    القضاء الإداري يلزم المحامين بصرف الزيادة السنوية لمستحقي المعاش    غرق سيارة نقل بداخلها شخصين ومواشى بنهر النيل.. وتواصل جهود الإنقاذ النهري لانتشالهم بقنا    نتيجة الدبلومات الفنية 2025 برقم الجلوس.. 7 خطوات للاستعلام عبر بوابة التعليم الفني    النائب فريدي البياضي: تعديل قانون التعليم في أسبوع عبث تشريعي    إدوارد يعلن إصابته بالسرطان وشفائه بعد خضوعه لعملية جراحية    تنسيق الكليات 2025.. خطوات التسجيل لاختبارات القدرات عبر موقع التنسيق الإلكتروني    فات الميعاد الحلقة 18.. حبس أحمد مجدي وتوتر علاقة أسماء أبواليزيد وزوجها    ماذا يناقش الرئيس السيسي ونظيره الصومالي في العلمين اليوم؟    إيه اللي حصل بعد قبلة الزعيم عادل إمام ليكي؟.. الفنانة دنيا ماهر تجيب    وفاة الكاتب والسيناريست براء الخطيب    لافروف: استخدام صندوق النقد والبنك الدولي للحفاظ على الممارسات الاستعمارية الجديدة أمر غير مقبول    «أنا مبحبش الدلع».. خالد الغندور يفتح النار على لاعب الزمالك بعد التصرف الأخير    إدوارد يكشف عن ذكرياته مع أولى أفلامه "بحب السيما"    بلوجر وتمتلك ماركة تجارية.. 15 صورة وأبرز المعلومات عن زوجة محمد النني    نجم الأهلي السابق: ما يحدث داخل نادي الزمالك "تهريج"    إعلام عبري: ذباب مصري يغزو حيفا ويثير الذعر في الأحياء الراقية (تفاصيل)    شقق الإسكان الاجتماعي 2025.. الموعد والشروط الكاملة ل حجز سكن لكل المصريين 7    تردد قناة MBC Action hd الناقلة لمباريات نصف نهائي كأس العالم للأندية 2025    خبير اقتصادي: سيناريو يوم القيامة ووصول الدولار إلى 70 جنيهًا لن يحدث (فيديو)    نشرة التوك شو| الحكومة تعلق على نظام البكالوريا وخبير يكشف أسباب الأمطار المفاجئة صيفًا    عليك تقدير ما تملك.. حظ برج الدلو اليوم 7 يوليو    إدوارد ينهار من البكاء: «حقن التخسيس دمرتني« (فيديو)    يفاقم حالات مرضية بعضها مزمنة.. خبراء تغذية يحذرون من «غمس البسكويت في الشاي»    تعرف على طريقة إبلاغ الأجهزة الأمنية بوزارة الداخلية عن الجرائم المرورية والجنائية    عاجل| «أديس» تواصل البحث عن المفقودين الثلاثة في حادث غرق البارجة «أدمارين 12»    طريقة عمل الآيس كوفي منعش ولذيذ في الطقس الحار    مواقيت الصلاة اليوم الإثنين 7 يوليو 2025 في القاهرة والمحافظات    المكتب الحكومي في غزة ينفي ضلوع «حماس» في الهجوم على موقع إغاثة    اليوم .. «حماة الوطن» يعقد الاجتماع التنسيقي الثاني للأحزاب ضمن القائمة الوطنية    حريق يلتهم شقة سكنية في عزبة النخل    تراجع مفاجئ لنقابة المحامين عن الإضراب الشامل.. ضغوط سياسية أم مناورة تكتيكية؟    مي عمر جريئة و سارة سلامة داخل سيارتها.. 10 لقطات لنجوم الفن خلال 24 ساعة    اختراق وآلام شديدة.. أطباء يستخرجون «ثعبانا» من بطن مريض (صورة)    أمين الفتوى: يجوز التبرع بنفقات العمرة لشخص.. وهذا من أبواب البر والإعانة على الخير    «لها حدود وضوابط».. أمين الفتوى: لا يجوز الوصية بكل المال إذا كان للموصي ورثة    أمين الفتوى: 6 حالات توجب الغُسل على المرأة.. 3 منها مشتركة مع الرجل و3 تختص بها النساء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قصتان لأسامة أنور عگاشة
الزيارة
نشر في أخبار الأدب يوم 04 - 06 - 2010

للفنانة : جاذبية سرى أتي علي الست أم فتحي حين من الدهر لم تكن تتمني فيه علي الله غير أن تري ابنها فتحي... قبل أن يوافيها الأجل، فمنذ أن تخرج فتحي من كلية الطب وأصبح دكتورا لم تره أمه مرة واحدة... فقد بقي في القاهرة لايبرحها دون أن يفكر في العودة يوما إلي كفر الشيخ ليري أمه أو يزور مرتع طفولته القديم في شارع المكاوي...
ولم تغضب أم فتحي يوما من ابنها بل كانت تلتمس له الأعذار دائما وتعلل النفس بأن مشاغله تحول بينه وبين زيارتها فليس من المعقول - كما يحدثها قلبها - أن ينسي فتحي كل ما فعلته من أجله... ولقد فعلت الكثير.. وضحت بالكثير... كانت أم فتحي - كما نعرفها جميعا - تتاجر في السمن والجبن وتخرج إلي الأسواق بقفص مليء بالدجاج والأرانب توزعه علي زبائنها الذين لم يخرجوا يوما علي نطاق شارع المكاوي إلا في حدود ضئيلة... فعلت ذلك وتعودت أن تفعله منذ عهد بعيد لا ندركه نحن الشباب وتقول هي إنه بدأ منذ مات زوجها وترك لها صفية... وفتحي... طفلين صغيرين لاحول لهما ولا قوة... ولامورد... وكان عليها أن تشق لهما طريقا في الحياة لا يتعرضان فيه لذل الحاجة أو مهانة الفقر... وقد كان... خرجت أم فتحي للأسواق دون أن تخجل بل ودون أن تفقد ذرة من كبريائها القديم فمازالت إلي اليوم تتباهي أن جدها الأول كان أحد »الباشوات« الكبار في عهد الخديو اسماعيل أو »أفندينا« كما تصر دائما علي تسميته....
كبرت صفية حتي أدركها »خراط البنات«... ولم تلبث أن تزوجت فتفرغت الأم لابنها الكبير... فتحي، وامتدت بها أحلامها شوطا بعيدا فأصرت علي أن تهييء له كل فرصة ليتم تعليمه حتي لايصير أقل في شيء من رجب... أو مسعد أو لطفي... رفاقه في المدرسة وجيرانه في الشارع... الذين استقرت آمالهم في المستقبل بفضل الحالة الطيبة التي تعيش فيها أسرهم، ولم ترض أم فتحي أن تحرم ابنها من مشاركتهم في الأمل رغم أنها كانت تحس بدبيب الوهن في جسدها يتزايد كلما مرت الأيام...
وحين دخل فتحي كلية الطب وزعت الأم »الشربات« علي الشارع كله... وأقامت »ليلة لأهل الله«... ظلت حديث الشارع لأيام طويلة وودعت ابنها في موكب حافل وهو يغادر البلدة في طريقه للمستقبل...
ومن يومها أصبحنا لا نري فتحي إلا في شهور الصيف القليلة التي تعقب الدراسة كل عام... وخلال هذه الشهور كنا نضطر أن نبحث عن مورد آخر للسمن والجبن والدجاج غير أم فتحي، إذ كانت ترفض دائما أن تواصل عملها خلال الفترة التي يقضيها فتحي بجوارها...
يكفيها أن تتفرغ لخدمته وتوفير كل السبل لإسعاده في إجازته...
ولكن السنوات مضت سريعة حتي تخرج فتحي وأصبح دكتورا »قد الدنيا« كما كانت تتمني أمه دائما... ومن يومها لم نر فتحي.. ولم تره أمه..! وأصبح كل ما يربطها به خطابا يرسله بين الحين والحين... يعتذر بمشاغله ويطلبا: منها أن تطمئن عليه.. حتي إذا مرت سنوات أخر انقطعت الخطابات وبدأت أم فتحي تستسلم للألم بعد أن قهرته عهدا طويلا...
ولكنها أبدا لم تغضب من فتحي... ولم توجه إليه اللوم... فقط كانت تتمني أن تراه:
- ياما نفسي أشوفه يا ولاد والسماعة في إيديه...
لم يكن يعنيها غير أن تراه، ولم تأبه لشيء سوي أن تبحث عن أخباره، ولم تتوسل لإنسان كما توسلت للشيخ محيي »في كل مرة طلبت منه خلالها أن يكتب: رسالة لفتحي... يسأل عن صحته.... ويشير في البداية إلي رغبة أمه في رؤيته ثم يلح بعد ذلك مع مرور الزمن«.
إلي أن جاء يوم سمعنا فيه الزغاريد تنطلق من منزل الست أم فتحي... وعلمنا بعد حين أن الله قد عوض صبرها خيرا... فقد جاءتها رسالة من مصر... رسالة من فتحي... يخبرها فيها أنه سيتمكن أخيرا من الحضور لزيارتها... وحدد لذلك موعدا قريبا...
وفي يوم وليلة لم يعد يشغل أم فتحي إلا الزيارة المرتقبة... لم نعد نسمع منها حديثا غير حديث الدكتور... وزيارة الدكتور... وبدأت آمالها تتجمع حول محور بعيد... لم تتكلم عنه صراحة ولكنه يبدو من حديثها كظلال تتعثر فيها آمال يقيدها الترقب والخوف:
- عايزة ارتاح بقي ياولاد... كفاية جري وتعب... يالله حسن الختام وكنا جميعا نحس بالأمل الذي يداعب خيال أم فتحي من بعيد ويمنعها من الجهز به خوفها من ألا يتحقق، وربما كنا نعتبره من حق أم فتحي... فلا شك في أنه من واجب فتحي اليوم وبعد أن أفنت الأم عمرها من أجله أن يهييء لها راحة الشيخوخة بطريق أو بآخر... إن له بلاشك بيتا في القاهرة.. فماذا يمنعه من أن ينتقل بأمه إليه؟ لتحس ولو لأيام قلائل - بما حرمت منه طوال أيام الكفاح والتردد علي الأسواق...
والأمل جميل رائع ونحن نتمني أن تناله أم فتحي... ولكن كل شيء متوقف علي الدكتور... وزيارة الدكتور... وزيارة الدكتور تقترب... وأم فتحي تدور كحجر الطاحون... لاتهدأ ولاتستقر... وتفعل ما لم تفعله يوم تزوجت صفية ابنتها... فتعيد طلاء حجرات المنزل جميعا وتستدعي الأسطي جابر ليعيد تنجيد »الفراش« وتذهب لتشتري مجموعة من الملابس الجديدة... وتعد كل شيء ليكون لائقا باستقبال الدكتور... بل لقد اشترت الست أم فتحي... »وزة«...
و»الوزة« في الواقع هي أهم ما أعدته أم فتحي للدكتور...
فقد ذهبت إلي سوق »الثلاث« في قرية مجاورة وعادت مع الغروب وهي تحتضن »الوزة«... وضحكت طويلا حين طلبت منها الحاجة عطيات أن تبيعها الوزة:
- لاياختي... يفتح الله... دي وزة الدكتور...
وكانت »وزة« الدكتور في الواقع أجمل وزة رأيناها مع أم فتحي... أنيقة سمينة... في ريشها الأبيض الناصع ريشة سوداء عند النيل وأخري مثلها في الجناح الأيمن... وهي إلي جانب ذلك تمشي في خيلاء وترفع وتنقل خطواتها بثقة وكبرياء شديدين، وكأنها تعرف مكانها عند أم فتحي ولاتنسي مطلقا أنها وزة الدكتور...
ولم تمض أيام قلائل حتي صارت الوزة حديث الشارع كله.. وراحت ألسنة الجميع تتناقل أخبارها ونوادر أم فتحي معها... وطاب لبعض الخبثاء أن يأخذوا الأمر من وجهة ساخرة فراحوا يلاحقون أم فتحي بتعليقاتهم وقفشاتهم وآثر الآخرون أن يبتسموا في هدوء... ورفق... وانتظار...
وأم فتحي لاتعبأ بهؤلاء أو أولئك... فهي تبتسم في كل الأحوال ابتسامتها الصغيرة الوادعة... وتنظر للجميع في ثقة وعدم اكتراث وأحيانا تعلق بكلمات قليلة هادئة:
- مالكم ومال الوزة؟... عايزين إيه م الوزة؟... تعالوا ازغطكوا انتوكمان.... وتمضي في »تزغيط« الوزة... وهي تخاطبها بصوت عال يسمعه الجميع:
- كلي ياحلوة... ياوزة الغالي...
... وهكذا كان لا يحلو لها دائما أن تطعم الوزة إلا أمام الجميع... علي عتبة الدار... مرتين يوميا... في الضحي وقبل الغروب، ثم تمضي بها بعد ذلك إلي مقرها الليلي وتعود لتجلس علي عتبة الدار مع الحاجة »بخاطرها« الداية... تتجاذبان الحديث عن ذكريات الماضي البعيد يوم كان فتحي طفلا صغيرا... كلتاهما تفخر بفتحي وتشعر بالحنين لرؤيته... هذه أمه... وتلك التي أخرجته إلي الدنيا علي يديها...
ويطول الحديث... ويهبط الظلام... حتي إذا وجبت العشاء... سارعت أم فتحي تصليها وتنتهي منها علي عجل لتنطلق بعد ذلك إلي حيث نعرف جميعا...
وحيث تذهب كل يوم... إلي المحطة... تبقي هناك حتي يأتي قطار الليل في العاشرة والنصف ثم تعود... ويسمعها من ظل ساهرا منا تنادي الحاجة بخاطرها:
- ياحاجة... الدكتور ما جاش ياختي... موش عارفه إيه اللي أخره كده؟...
وتصمت للحظات قصيرة... ثم تقول وكأنها تطمئن نفسها:
- تلاقيه مش فاضي... ربنا معاه... علي كل حال لازم حاييجي بكره..
ويأتي الغد بصباحه ومسائه... ويمر... وتأتي بعده أيام أخري... تمر بدورها... وأم فتحي مازالت تنتظر... رغم أن الموعد الذي حدده فتحي في خطابه قد مر وانقضي ومرت بعده أيام كثيرة...
وبدأنا نشعر بالانقباض... وأدركنا أن زيارة الدكتور قد شقت علي الأمل... ولكن أحدا لم يجرؤ علي الهمس بشيء من هواجسه أمام أم فتحي فقد كانت لاتزال تأمل... وتنتظر... وتطعم الوزة مرتين في اليوم... وتذهب للقاء قطار الليل... وهي وان كان يبدو علي وجهها أحيانا ظل من القلق إلا أنها تبدده دائما في إشراقة أمل عريض لاتتصور هي أن يخبو يوما...
ولكن الأيام كانت تلهث بسرعة وكانت أنفاسنا أقصر من أن تتابع جريها... فكدنا بعد حين ننسي موضوع الزيارة... كدنا ولم نفعل لأن أم فتحي كانت تذكرنا دائما...
وهي تغالب القلق الذي بدأ يتحول في عينها بالرغم منها إلي فزع حقيقي... فزع كانت تترجمه في البداية كلماتها إلي عبارات يسودها الخوف علي الابن البعيد:
- ياتري جدالك إيه يافتحي؟ ياخوفي ياولاد ليكون عيان ولافيش حد معاه يخدمه... تقولها وتنظر في انعطاف حزين نحو الوزة... لتناجيها:
- شايفة فتحي غاب علينا ازاي؟...
وحين أحست بأن الفزع في طريقه لأن يمحو كل بقايا الأمل في نفسها هرعت إلي الشيخ محيي تتوسل إليه أن يكتب خطابا للدكتور... وفعل الرجل رغم أنه يؤمن - كما قال لنا بأن لافائدة في الأمر... وأن فتحي لايريد أن يبقي علي صلة تربط بينه - وهو الدكتور المتعلم - وبين بائعة دواجن...
وكما توقع الشيخ محيي... مرت الأيام ولم تصل من الدكتور أية رسالة... وأدركنا جميعا الحقيقة التي أدركها الشيخ محيي من قبل... لقد ضاع فتحي...
وشعرنا بحزن عميق من أجل أم فتحي... وراحت نظرات الرثاء والحنو الحزين تلاحقها... وهي تحاول أن تهرب منها فهي تخشي أن تؤكد لها تلك النظرات شيئا مفزعا رهيبا كان يبرق أحيانا في ذهنها كاللمح فتقصيه بعنف خشية أن تأتي النهاية... والنهاية بالنسبة إليها.... أن تحرم من رؤية فتحي مرة أخري ولهذا راحت تتشبث بآمالها في استماتة غريبة - رأيناها تتجدد وتقوي في إصرار المرأة علي أن تطعم الوزة وتناجيها كما كانت تفعل دائما... علي عتبة الدار... ورأينا ذهابها كل ليلة لتنتظر قطار الليل... وغناءها لفتحي، ودعواتها له، وإيمانها العجيب بأنه لايمكن أن ينساها.... وبالرغم من ذلك كانت تبدو أحيانا ساهمة... شاردة... وتقول للحاجة بخاطرها في حزن دفين:
- بقي معقول أشوف فتحي تاني ياحاجة؟... متهيألي اني حاموت قبل ما اشوفه...
ولكنها لاتلبث لحظات حتي تعود إلي الأمل... وإلي الوزة تناجيها... وتلاعبها... حتي إذا جاء يوم... صباحه عادي كأي صباح... وأم فتحي تجلس إلي وزة الدكتور علي عتبة الدار تطعمها وتلاعبها... ظهر الشيخ محيي علي باب منزله... وتنحنح قليلا ثم بصق في منديله... واستعاذ بالله من الشيطان الرجيم وقال بعد أن ألقي تحية الصباح:
- أنا رايح مصر ياست ام فتحي عشان قضية الوقف... مش عايزة حاجة م الدكتور؟ وكأنما فتحت طاقة القدر أمام عيني أم فتحي... لقد وجدت أخيرا رسولا إلي فتحي بل وجدت علي الأقل إنسانا سيراه ويتحدث إليه... ويحكي له عنها...
- والنبي ياشيح محيي خليه ييجي... قوله أمك عايزة تشوفك قبل ما تموت وقول له كمان أمك شاريالك وزة مش حتدبحها إلا لما تيجي...
ووعدها الشيخ محيي... بل وأقسم أن يبحث عن الدكتور وينقل إليه كل كلمة من كلمات أمه وسافر الشيخ محيي، وترك الأم وقد انتعشت أحلامها... فلابد من أن يأتي الدكتور هذه المرة ولن تمضي أيام قلائل حتي تراه... ومن يدري؟... ربما عاد مع الشيخ محيي...
وانتظرنا جميعا عودة الشيخ محيي فقد كنا نحس أن عودته ستحدد كل شيء... وتوضح كل شيء وكنا نشفق علي أم فتحي، ونرجو أن تتحقق آمالها.
ولم يطل الشيخ محيي انتظارنا... مر يومان... ومع غروب اليوم الثالث عاد الرجل... وكان وحيدا.. ونظرت إليه أم فتحي... بعينين بدا فيهما القلق ولكنه لم يستطع أن يطغي علي الأمل... وتركت الوزة وتقدمت نحوه... ونظر إليها الرجل برهة ثم خفض عينيه وتململ في مكانه... ولم يتكلم... فسألته:
- خير ان شاالله ياشيخ محيي؟...
- خير ياست أم فتحي...
- قابلت الدكتور...
وصمت قليلا... وتنهد... ثم اندفع قائلا وكأنه يلقي عبئا عن كاهله:
- الدكتور سافر ياست أم فتحي... سافر بلاد برة... وسألت عليه في المستشفي اللي بيشتغل فيها قالوا لي انه اتجوز من شهرين وسافر... ومش حايرجع إلا بعد خمس سنين...
ومازلت أذكر حتي الآن هذا الموقف... ومازلت أعجب كيف بدت الشيخوخة والهرم علي أم فتحي في لحظات قصيرة... وكيف انطفأ فجأة ذلك البريق الذي طالما أحببناه في عينيها... ولكني لا أذكر أن أم فتحي قد فاهت بكلمة واحدة ساعتها.... بل لقد بدت وكأن الشلل قد زحف علي كل خلجة في كيانها... ولا أذكر أنها بكت... رغم أن الكثير من النسوة حولها قد بكين... ورحن يتحسرن علي تعبها وعلي شبابها الذي ضاع من أجل ابن مارق تجرد من كل مشاعر الإنسانية...
وكل ما أذكره... أنها استدارت في صعوبة... وانحنت حتي أمسكت بالوزة ثم احتضنتها... وسارت نحو منزلها في خطوات ثقيلة راعشة بدت لنا وكأنها خطواتها الأخيرة علي أرض الشارع.
ومضت لحظات... وسمعنا صوت أم فتحي... كلا لم تكن تبكي...
كانت تضحك... هذا ما حدث... سمعناها تضحك... وأية ضحكات.
ونظر كل إلي صاحبه... وارتفعت همسات النسوة... وحاولت الحاجة بخاطرها أن تدخل... ولكن أم فتحي قابلتها علي الباب... وكان منظرا عجيبا...
أم فتحي تجر الوزة من رقبتها وتضحك في هستيريا غريبة... وتصيح في الحاجة بخاطرها:
- الوزة اللي دفعت فيها سبعين قرش.. بتعضني... بعد مازغطتها ثلاث أسابيع... شايفة ياحاجة... وكنت باقول عليها وزة الدكتور... مقصوفة الرقبة... بتعض بعد ما صرفت عليها دم قلبي...
وأمسكت الوزة من رقبتها... وراحت تطوح بها يمينا ويسارا صائحة:
- كلوا ياولاد وزة الدكتور اهه...
وبعد ثوان كفت الوزة عن الصراخ... وخمدت أنفاسها... وإذا بأم فتحي تنهار باكية وتندب الوزة بطريقة مثيرة ورهيبة.
وكان الذهول قد أحاط بالجميع فلم يحرك أحد ساكنا... حتي إذا أدركنا ما حدث.. غمرنا حزن عميق وكآبة دفعت بالدموع إلي أعين الكثيرين وبالكلمات إلي شفاه الآخرين...
وكان الشيخ محيي يضرب كفا بكف:
- لاحول ولاقوة إلا بالله... ياست ام فتحي.. الإيمان بالله...
واقترب منها... فنظرت إليه في باديء الأمر بشراسة غريبة ثم مالبثت أن انفجرت في ضحكها الهستيري من جديد... وصاحت به:
- بتضحك عليّ ياشيخ محيي؟... فاكرني عبيطة؟... قال سافر قال... فتحي جاي في قطر الليل وحايكيدكم كلكم... خليكوا بناركم... فتحي جاي في قطر عشرة... وأنا رايحة أقابله أهه.
... يافتحي... يافتحي...
.. وراحت تجري... وهي تنادي فتحي.. حتي اختفت...
ومرت الساعات... وجاء قطار الليل... ولم تعد أم فتحي...
بل لقد مر الليل... وجاء الصباح... ولم تعد أم فتحي...
وفي الواقع... لم تعد أم فتحي مطلقا...
وحتي اليوم... ورغم مرور السنين... مازال الجميع في شارع المكاوي بكفر الشيخ يذكرون أم فتحي ويتناقلون الأساطير عن اختفائها... وأحيانا يترحمون عليها وكأنها ماتت.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.