الاستقرار على مساحة من الرصيف أمر ليس سهلا.. والعمل على هذه المساحة ليس آمنا... لكن قسوة الظروف دفعت بائعات الأرصفة إلى تكييف يومهن على حياة الشارع فى الشارع المزدحم بالباعة والمشترين، خرجت إحدى السيدات من «البلكونة» تلوم بائعة الخضروات بعنف على وجود بعض ثمار بضاعتها داخل البناية التى تقيم بها وتفترش البائعة رصيفها، يتحول اللوم إلى مشادة تتوعد فيها «سيدة البلكونة» بإبلاغ الحى «عشان يلموكم من ع الأرصفة» ترد عليها باختصار :«احمدى ربنا إنك فى بيت... أنا طول الليل والنهار ع الرصيف»! 9 ملايين شخص يعملون على أرصفة مصر، بحسب تقرير اتحاد الغرف التجارية للعام الماضى، يقضى هؤلاء يومهم فى محاولة ترويج سلع ومنتجات من الدرجتين الثانية والثالثة، بوصف هذ العمل هو المصدر الوحيد لدخلهم. ومن إجمالى الأسر المصرية، تعول السيدات أكثر من 25 بالمائة، وفقا لما أوردته دراسة للمجلس القومى للمرأة. تصنع هذه الإحصائيات تصورا للرصيف فى شوارع مصر، المزدحم بباعة، غالبا هم من السيدات، مضطرات لقضاء يومهن فى الشارع. قد لا نملك وقتا للتساؤل : بائعة الخضروات التى نشترى منها أو لا نشترى.. كيف تقضى ساعاتها الطوال على الرصيف؟ هل لديها أسرة تطبخ لها خضارها؟! «إذا كانت من تمشى فى الشارع تتعرض لمعاكسات ومضايقات من هذا وذاك، فما ظنك بمن تقضى يومها فى الشارع؟» تقول خيرية ذلك من أمام أقفاص خضروات تبيعها على الرصيف، مضيفة: «وجودك فى الشارع معناه لدى كثيرين أنك مستعدة لاستقبال معاكساتهم»، ولحسم هذا الأمر كانت الفتاة تتعامل بغلظة مع من يحدثها، وادعى أحد وجهاء المنطقة التى تفترشها أنها قريبته، قال ذلك بعد مشاجرة كبيرة مع شاب «غير محترم». لا يتجاوز عمر خيرية عشرين عاما، قضت منها على الرصيف أقل من عام تبيع صنفين من الخضروات يوميا، يتغيران بحسب المواسم والطلب، وخلال هذه الفترة كانت حماية نفسها هى أولويتها الأهم من بيع البضاعة، حماية نفسها وسط الشارع وحماية مكانها. « أنا بنت ناس مثل أى امرأة تشترى منى ولى بيت وأهل» تقول خيرية ذلك، قبل أن تؤكد أن أقفاص الطماطم والبطاطس أمامها هى مصدر دخل شريف «لا يعنى أننى بنت شوارع». لكن الاحتمال المستمر فى التعرض لتحرشات ليس السمة الوحيدة للعمل فى الشارع، حيث تشرح بائعة الخضروات: «إنت هنا أمام بضاعتك، لا يجوز أن تتركيها أو تغفلى عنها، حتى فى الدقائق التى تحتاجين فيها للحمام مثلا، عليك مسئولية تأمينها لحين عودتك». تستخدم خيرية الحمام الملحق بأحد المساجد لقضاء حاجتها، وفى نهاية يومها تعود خيرية إلى منزلها غير البعيد عن الرصيف مقر العمل!«أسكن مع زوجى، فأنا متزوجة، وبعد أشهر إن شاء الله سأكون أما». ولم تحسم خيرية ما إذا كانت ستستمر فى عملها أم ستغيب عن الرصيف عندما تزيد أسرتها فردا. تكوين أسرة هو الدافع وراء وجود سمر على الرصيف لبيع الإيشاربات والجوارب الحريمى، فالفتاة جاءت من إحدى قرى الجيزة إلى الحضر، للعمل إلى جوار والدها بائع الفاكهة «أبى هنا فى هذه السوق من حوالى 7 سنوات، وأنا هنا (فرشتى) بجواره». بدأت سمر عملها بهدف جمع الأموال اللازمة لتجهيز نفسها للزواج كما تروى ببساطة: «أنا مخطوبة وعلىّ شراء ما أريده بنفسى، هذا حدث مع إخوتى الكبار، كل شخص يدّخر من عمله». وتظل الفتاة على الرصيف إلى أن ينتهى والدها من عمله. «كنت أمل من وجودى على الرصيف، خاصة أننا نقضى اليوم كله وجزءا من الليل هنا، ولا أحب أن أختلط بالبائعات!» السبب فى ابتعاد سمر عن زميلاتها على الرصيف هو خوفها من أشياء كثيرة قد يجرها عليها هذا الاختلاط : «البائعات هنا ليست تسليتهن الوحيدة هى الكلام، وحديثى معهن يجعلهن يتحدثن عنى، يتناقلن أخبارى أو يحسدوننى إذا عرفوا عنى شيئا، وربما يطلقون علىّ شائعة إذا كنت وسطهن». استبدلت سمر إذن هذه الصحبة باستعارة جهاز راديو صغير يضعه والدها على عربة الفاكهة التى يبيعها. ولا يزال الخوف من حسد زملائها أو ظهور شائعة عليها هو الهاجس الوحيد للفتاة التى تعلمت البيع والشراء على الرصيف، وتؤكد سمر أن وجود والدها فى السوق وكونه إلى جوارها ويحميها سبب أساسى لاستمرار عملها على الرصيف الذى ستتركه عندما تتزوج. «مناديل بربع» سيدة.. هى بائعة المناديل التى لم يتغير وجهها طوال 6 سنوات قضتها على رصيف إحدى محطات المترو. تغيّر لون وجهها فازداد إسمرارا، لكن لم يتغير تعبيره المرتبك! بدأت سيدة بيع المناديل على الرصيف بعد وفاة زوجها، فوجدت فى البيع عملا أفضل من «الخدمة فى البيوت» حسب رأيها الذى تبرره قائلة: «على الرصيف أقصى ما يحدث هو المعاكسة بالكلام، وإذا فكر أحدهم فى أكثر من ذلك فسأجد من المارة من يغيثنى، لكن كل ذلك أهون ما يمكن أن يحدث فى بيوت لها أبواب!!» ولهذا السبب، استبدلت سيدة فى السنة الأولى لجلوسها على الرصيف إيشاربها بإسدال كبير! لم تكن لسيدة أى خبرة فى البيع أو العمل «أول ما جئت للرصيف كنت لا أعرف كيف أبيع ما معى من مناديل، وكنت أخجل من المناداة عليها بصوت عال»، وتستدرك قائلة:« كانت هناك سيدة عجوز جاءت بعدى بأسبوع أو أكثر تبيع مناديل أيضا على نفس الرصيف وكانت تنادى، فحاولت تقليدها... كان ذلك مخجلا جدا خاصة أننى لم أعتد رفع صوتى». وتسترجع سيدة المزيد من ذكريات مجيئها إلى الرصيف: «كنت لا أعرف ماذا آكل وماذا أفعل إذا جاءت البلدية مثلا، كنت حتى إذا عطشت لا أعرف كيف أشرب!» لكنها اليوم وجدت إجابات لكل ذلك، سيدة التى تجلس على الرصيف من الثامنة صباحا للعاشرة مساء تأكل من أحد محال الكشرى الذى اعتاد أحد صبيانه المرور على الرصيف لمعرفة من يريد «علبة» يسد بها رمقه، وتحضر معها زجاجة مياه تشرب منها، وتملؤها من «كولدير» بجوارأحد الجوامع. وأحيانا تأخذ بضاعتها وتنام فى الجامع ساعة إذا اشتد الحر! أما رفع صوتها، فتقول سيدة إن ذلك مقصور على الباعة الجائلين أما من يجلس ببضاعة أمامه فالناس ترى ما يبيعه، فلا حاجة للإعلان عنها. وما يضايق سيدة اليوم هو ازدحام الرصيف خاصة بباعة المناديل: «معظمهم متسولون! كل من تريد التسوّل تضع أمامها كام باكو مناديل وتجلس على الرصيف» قدامى البائعون على الرصيف نفسه، تجلس نصرة على كرسى خشبى وأمامها منضدة تمتلىء بالجرائد والمجلات. وتبدو نصرة مختلفة عن غيرها من الجالسات على نفس الرصيف، فهى لا تنادى على بضاعتها وتكاد لا تتحدث لإحداهن، بالإضافة إلى كونها تقرأ كثيرا مما تبيعه من جرائد، وهو ما يظهر بوضوح فى حديثها الذى بدأته بتعريف اسمها: «أنا نصرة وينادينى الناس بأم ميرفت، وأنا أول من باع على هذا الرصيف... لقد جئت هنا من 11 سنة تقريبا». وتروى أم ميرفت عن مجيئها لهذا الجزء من الشارع: «أنا من أسرة محترمة وزوجى رجل محترم وشهم، لكنه دخل السجن خلال إحدى المشاجرات التى تدخل لفضها، وقتها وجدتنى مضطرة للعمل كى أربى ابنتي». وتتذكر نصرة أيامها الأولى على الرصيف: «هنا من 11 عاما لم تكن المنطقة بهذا الازدحام، ولم تكن محطة المترو قد ظهرت، والدنيا لم تكن مضاءة... لكنها كانت بخير مقارنة بالوضع الآن!» ولا تحب بائعة الجرائد استدعاء ذكريات حول تمكنها من الوجود على هذه المساحة من الرصيف، وتختزل التفاصيل بالقول إنها خاضت «معركة» للحصول على هذا المكان. لكن أم ميرفت أحسن حالا من هؤلاء، فهى تقضى نحو 7 ساعات فقط على الرصيف، وتعود مع الظهر إلى بيتها، وكانت فى الماضى تعود ليلا لبيع الجرائد فور صدورها، لكن زوجها صار يفعل ذلك بدلا منها، مع ذلك تظل الساعات التى تقضيها فى مقر عملها على الرصيف مزعجة. «الجلوس هنا ساعة يصيب الواحد بالصداع!» حيث تجلس نصرة وعلى يسارها موقف سيارات الميكروباص وأمامها عشرات السيارات المارة وسيارات الأجرة والتوك توك، وعن يمينها كثير من باعة الفاكهة والجبن القديم والمخلل والمناديل والإيشاربات، فضلا عن سيارة إسعاف تطلب من المارة عبر الميكروفون التبرع بدمائهم. على باب الجامع الجلوس أمام أحد الجوامع يعنى أن تنحصرالبضاعة المعروضة على المناديل الورقية أو السبحات أوالسواك أو الجوارب الحريمى الغامقة وأحيانا علب التمر! وعدد من المساجد يمنع هؤلاء السيدات من الافتراش ببضاعتهن أمامه باعتبارها طريقة «مقنّعة» للتسول، فيما تكون حجة المسئولين عن المساجد التى يوجد أمامها هؤلاء، أنهن يمارسن عملا مشروعا، ولا يجوز سد باب الرزق عليهن وأن وجودهن فى محيط المسجد أفضل من وجودهن بالأسواق. جميع من حاولت التحدث إليهن من «مفترشات» رصيف المسجد، رفضن الخوض فى أى حوارات، ماعدا أم مريم التى ركزت عيونها تجاهى من فتحتى النقاب الأسود الذى ترتديه قائلة «أنا هنا أعمل عملا شريفا، تماما كالعمل الذى تعملينه!» تبيع السيدة أعوادا من السواك وأمشاطا بلاستيكية صغيرة وبعض الكتيبات لأذكار وأدعية «أنا على الرصيف صحيح لكننى أمام أحد بيوت الله ولا أتجاوز حدودى!»، أنزلت أم مريم ابنتها النائمة على رجليها، ووضعتها إلى جوارها على ملاءة مطوية، قبل أن ترد على سؤالى عما إذا كان النقاب ضروريا لها باعتبار أن عملها مرتبط بالجامع: «أنا أجلس فى مكان يمر عليه كثير من الرجال، كلهم (يعرفون ربنا)، فهل يصح أن تكون أمامهم فى دخولهم وخروجهم من بيت الله امرأة بدون نقاب؟! وأنت تعرفين طبعا أن المرأة فتنة!» ولم تسمح أم مريم لنفسها بالحديث عن عملها أكثر من هذا القدر، إلا أنها شرحت بعبارة بسيطة العلاقة بين بيع السواك والأمشاط الصغيرة: «الإخوة السنية بيحتاجوها لدقونهم!» الرصيف لبعض الوقت على إحدى النواصى بميدان الجيزة تجلس أم مسعد بوجه بشوش وإلى جوارها فتاة صغيرة وأخرى أصغر، وأمامها أقراص الفطير المستدير الكبيرة و«المرحرح» وطبق «بيض بلدى». توضح السيدة الخمسينية أنها لا تأتى إلى هنا سوى يوم واحد فى الأسبوع، وأحيانا تذهب لسوق آخر فى مكان آخر، وأحيانا لا تذهب لهذا أو ذاك بالمرة. «بضاعتى أصنعها بنفسى، أخصص يوما للخبيز أصنع فيه المرحرح والفطير وآخذ معى البيض الذى تنتجه طيورى. وأحيانا أكتفى بالفطير لأننى لا أستطيع حمل كل هذا وحدى!» تسكن أم مسعد فى إحدى قرى الفيوم، وفى يوم العمل فقط تسافر إلى الجيزة، ولم يصبح الرصيف مقر عملها إلا منذ عامين: «طوال عمرى أعمل فى الحقل، منذ كنت طفلة، وعندما كبرت توقفت عن العمل نهائيا، أولادى كانوا يساعدوننى وزوجى ماديا». لكن نزولها للعمل من جديد جاء بعد مرض زوجها الذى لايزال يعمل هو أيضا «زوجى ليس طريح الفراش، هو مريض ومرضه مكلف، لكنه يصر على العمل كمزارع كما كان طول عمره، أما أنا ففى هذه السن لا أستطيع القيام بهذا العمل». اختارت أم مسعد رصيف الميدان المزدحم لتبيع بضاعتها غير الرائجة فى القرية. ومن الساعات التى تقضيها أسبوعيا هناك تعلمت الخوف كما تقول: « فى الحياة لابد أن يخافك الناس أو يعرفون أنك تعرفين من يخيفهم، وإلا ستعيشين حياتك خائفة!» وما يخيف أم مسعد الآن هو المطر! ففى الشتاء إذا سقط المطر فسدت بضاعتها كما توضح: «المطر من عند الله، والله فقط هو من أخافه الآن، أى شىء آخر أقدر أخيفه بنفسى». وتروى بائعة الفطير أنه فى بداية وجودها على رصيف السوق كانت تتعرض لمضايقات من البائعات الأخريات ومن أصحاب عربات الكارو وكل الباعة الجدد الطامعين فى مكانها على الرصيف. لكنها كانت ترد عليهم بصوت عال: «كثيرا كنت أدعى أن لى قريبا يعرف أحد المسئولين فى المجلس المحلى». ثم تبتسم وهى تضيف ببساطة «طبعا هذا كذب!... وأحيانا أخرى كان أحد أولادى يأتى معى إلى هنا، ليشعروا أن لى ظهرا». على رصيف الحكومة أمل هى صاحبة الملاءة المفرودة على رصيف كبير مجاور لإحدى المصالح الحكومية بوسط القاهرة، تكومت على هذه الملاءة ملابس حريمى تنتظر زبائنها من العاملات فى هذه المصلحة وما يشترينه لأنفسهن وبناتهن وأصحابهن. تقول: «نزلت الشارع منذ 4 سنوات، كان قد مر عام وقتها على خروج زوجى للمعاش المبكر، فى نفس الوقت زادت مصاريف الأولاد. زوجى أيضا يعمل.. كان مشاركا فى محل لكن شريكه نصب عليه، وهو الآن خطّاط!» تبدأ أمل يومها بالقيام بأعمال المنزل ثم النزول إلى بائعى الجملة ممن تتعامل معهم، بعد ذلك تذهب إلى الرصيف الذى تجلس عليه بجوار المصلحة، قبل موعد خروج الموظفين بساعة، ثم ترجع المنزل تذاكر لأولادها وينتهى بها اليوم فى استقبال الجيران والمعارف الراغبين فى شراء ملابس. يأتى أحد باعة المجاورين، يطلب منها «فكّة»، تعطيه إياها ويعود لطاولة إكسسوارات وضعها على نفس الرصيف، تقول أمل: «زملائى بشكل عام يعاملوننى بشكل جيد، ومنهم من يساعدنى ومن يحمينى إذا حصل وضايقنى أحدهم». لكن الأمور لم تكن هكذا فى البداية، فالسيدة التى تقف تبيع الملابس وتحضر بعضها بالطلب تعرضت لمضايقات من المارة والبائعين «لكن زيارة زوجى أكثر من مرة لى هنا، وكونى أوقف كل شخص عند حده عرفهم أننى محترمة!» وتبرهن أمل على إدراك زملائها لاستقامة أخلاقها قائلة: «كلهم لا ينادوننى إلا يا أم إسلام! « وعموما تعتبر أم إسلام نفسها أفضل حالا من كثيرات مبررة: « أنا لا أقف فى سوق مثلا أو فى مكان ينتشر به البلطجية، المكان هنا زبائنه موظفين وناس محترمين». رغم ذلك، تقسم أمل أنه لو أقيم سوق دائم أو محال بإيجارات مخفضة ستستبدلها بمساحتها على الرصيف مؤكدة: «الشارع هو الشارع! حتى لو كان حولى عائلتى كلها».