في طريقي للعودة لمدينتي المفضلة، كنت في مقعدي بعربة القطار المتجه للإسكندرية وكان في رفقتي هذه المرة كتاب أبتعد بين صفحاته عن إحساسي ببعد المسافة بيني وبين حبيبتي زوجتي والإسكندرية نفسها وانتبهت بعد فترة علي تواطؤ مشاعري مع ذكريات الكاتب حين عاد في الرواية لمدينته بعد غياب طال، اكتشفت هذا التواطؤ حين شعرت بدموع لم أنتظرها تصعد إلي عيني معلنة تعاطفها مع الكاتب الذي كان يقارن يوم عودته بيوم خروجه من مدينته، وكرد فعل طبيعي لحالة الضعف أو النقاء الإنساني التي مررت بها وجدتني أترك مقعدي وأخرج لأقف عند الباب الخارجي للعربة لأبتعد بدموعي عن العيون، أغلقت الباب الزجاجي خلفي، ثم التفت لألقي نظرة داخل العربة أتأكد بها أن أحداً لم يلاحظ دموعي وما أنا فيه، وحين التفت لم أستطع أن أمنع عيني أن تلتقي بها.. رقيقة بريئة كملاك، لها عيون واسعة مندهشة، فمها الصغير يلمع بابتسامة طاهرة تلغي المسافة التي تفصلني عنها وتلغي الحاجز الزجاجي الواقف بيننا، طفلة في شهورها الأولي لم تلوثها بعد حكايات السنين أتي وجهها الصغير في مواجهتي بكل نقائه وبراءته وبكل «خدودها» الحمراء المتوردة، كانت تنظر نحوي مباشرة وفي عيني أنا تحديداً دون غيري وكأنها كانت تنتظرني، وبعفوية رفعت كفها المنمنمة ملوحة لي في حركة رقيقة صغيرة وكأنها تداعب دميتها. وكما فاجأتني مشاعري منذ قليل، فاجأتني بالتواطؤ سريعاً مع تلك المدهشة الصغيرة، بل وساعدتها في إخراج ذلك الطفل الصغير القابع بداخلي لأجدني ألوح لها بحركات مسرحية كانت تظهر آثارها علي ابتسامتها الأخاذة التي بدأت في الاتساع لتصبح ضحكة صغيرة مبدعة جعلتني أستمر في التلويح لها وتحريك وجهي حركات مسرحية كانت تزداد كلما وجدت طفلتي تنتشي وهي تتحرك في الوقت ذاته بجذعها الصغير المرفوع بين يدي أمها حركات تعلن بها عن سعادة لم تعرف بعد كيف تترجمها لكلمات منطوقة. بقيت علي هذه الحال حتي تذكرت «أمير» أنقي أصدقائي علي الإطلاق ذلك الذي اتخذ الربو ذريعة ليبتعد عن عالمنا قبل أن يتم الثالثة عشرة، وهو ما مكنه من أن يبقي بمكانه المفضل في غرف ذاكرتي محتفظاً ببراءته وضحكاته ومشاغباته اللذيذة رغم أكثر من عشر سنوات مرت لم أره فيها إلا طيفاً، هذه المرة وفي القطار، وجدت أمير يقف أمامي ليداري علي نصفي الأسفل ويبدأ في مداعبة الصغيرة عبر زجاج الباب ويأتي بحركات أكثر نزقاً مما كنت أفعل، ووجدتها تلوح له في سعادة أكبر من سعادتها بي. ظللت في وقفتي هذه حتي وصل القطار إلي الحبيبة المدينة التي ارتميت في أحضانها بعدما ودعت الصغيرة بقبلة بعثتها لها في الهواء بعد أن تركني أمير وبقي ليداعبها، تركتهما خلفي وخرجت مسرعاً إلي الشارع الذي يفضي إلي أكبر وأحن أصدقائي وأصدقهم علي الإطلاق.. البحر.. وصلت إليه واحتوتني رحابته واحتويته بنظري. كعادته حين نلتقي بعد غياب ابتسم لي وهو يخبرني أن أميرة القطار كانت رسالته لي لأعرف أن ذلك الطفل بداخلي مازال حياً، وأن الحياة نفسها لاتزال تملك الكثير من الدهشة والجمال لتقدمهما لنا رغم كل قسوتها الظاهرة، ابتسمت له ولوحت مودعاً، بعدها التفت لألقي نظرة أخيرة عليه، فوجدت أميري وأميرتي يسبحان بطفولتهما وضحكهما البريء في مياهه.. دمعت عيناي فرحاً حين اجتمع الثلاثة.. أمير والملاك.. والبحر.. بحر الحياة.