لاحظنا بعد 14 جانفي - يناير 2011 عودة الإسلام السياسي بقوة وفي توجهات مختلفة بعضها يحاول التوفيق ومقتضيات التمدن الحديث كما عبرت عنه التجربة الغربية وما تقدمه حركة النهضة من تطمينات حول المحافظة على مدنية الدولة ومكتسبات الحداثة على الأقل في الظاهر ,وبعضها الاخر يولي وجهه صوب الماضي ويفسر التاريخ الإسلامي تفسيرا أحادياً إقصائياً إلى حد العنف ضد كل المعارضين مقتفياً في ذلك مذهب غلاة الخوارج الذين يكفرون غيرهم ولا يتحرجون من تصفية من يخالفهم الرأي جسدياً وهو ما شهدناه في أحداث دوار هيشر الأخيرة أو على الأقل ما نقله الإعلام لنا. الحديث عن العلمانية وضرورة الفصل ما بين الدين والسياسة وما بينه وما بين الدولة كحل من الحماية والوقاية من العنف الأصولي هو شكل من أشكال الترف والنخبوية في ظل الارتداد الفكري وأيضا الحضاري الذي تعيشه تونس في الوقت الحالي بعد الغزو الوهابي وأقصد هنا بالسلفية الجهادية وأستثني بقية أنواع السلفية الأخرى والتي تتعايش في المجتمع بشكل سلمي دون أن تشكل خطراً على السلم الوطني. في زمن غير بعيد نتذكر زيارة الداعية "وجدي غنيم " صاحب فتوى ختان البنات وكيف أثيرت هذه القضية بعد ثورة أو ما سمي ثورة إنتفض فيها الثوريون على الإستبداد والحيف الإجتماعي رفعت فيها أرقى الشعارات التي تعكس الوعي النوعي للتونسي كما لا نستطيع أن ننسى الزخم الفكري والثوري الذي عشناه حول الدفاع عن مكانة المرأة في الدستور بعد تسريب أخبار عن تعويضها من شريك إلى مكمل وغيرها من القضايا الهامشية التي خلنا أننا تجاوزنا الحديث عنها في تونس ولكن سرعان ما إكتشفنا أننا كنا نعيش قشرة الحضارة في كل شيء تقريبا وأننا بصدد البناء لمجتمع آخر بعد هدم أغلب ميراث الخمسين السنة الفائتة ... ولكن أي مجتمع نبني ؟؟؟. ليس خطراً أو عيباً أن نكتشف أن عدداً من أبناء تونس لم يكن يرضيهم الوضع السابق من عزل الدين عن مظاهر الحياة العامة من السياسة وصولاً إلى السلوك الثقافي للتونسي ولكن الخطير هو أن نقصيهم من جديد وأن نعزلهم عن المشاركة في بناء المجتمع الجديد الذي يتسع لكل أبنائه مهما إختلفت الرؤيا وتباينت مع الرؤى العامة ومن بينهم السلفيين ومن المجازفة أن نلقي التهم بالإرهاب والتطرف لكل من لبس قميصاً وأطلق لحيته فهو من ممارسات العهد السابق الحكم على الشكل الخارجي دون التثبت من النوايا وهو ما عمق الأزمة وزاد من إغتراب السلفي في بلاده رغم سلميته وعمق شعوره بعدم الإنتماء لرفض بعض إخوته من أبناء الوطن الواحد في تواجده بينهم بزيّه ومعتقداته. لاحظنا في الفترة السابقة محاولة البعض إلى بث الرعب وإثارة الخوف في قلب المواطن التونسي من وجود السلفيين في الحياة أصلا وتحميلهم إنتكاسات تونس الأخيرة حول العنف السياسي دون أن يبينوا من هم هؤلاء السلفيين علماً وأن هناك فروقاً تصل إلى حد التناقض والتباين بين مجموعات السلفيين فكرياً وسياسياً وأصبح كل سلفي الماركة المسجلة للعنف والإرهاب. صحيح أن هناك عدد غير كبير من التونسيين إنساقوا وراء حلم بناء دولة الخلافة الإسلامية بقوة السلاح أو ما يعبرون عنه بالجهاد في سبيل الله وسعوا في تطبيق حد الله من غلق الحانات وحرقها في بعض المناطق وقطع أصابع بائع خمر وصولاً إلى إعلان الجهاد ورفع الكفن في وجه وزارة الداخلية التونسية من قبل قيادي سلفي جهادي تونسي أيضاً " ما حدث في قناة التونسية مؤخراً " ولكن محاولة تضخيم الصورة لخدمة أطراف وأجندات سياسية يضر بالسلم العام ولا يسعى إلى حل المشكل فعلياً بل يعمقها ويثير الفتنة ويسوق البلاد إلى أتون الفوضى والإستبداد من جديد تحت تعلة حماية المجتمع من العنف السلفي . أظن أن معالجة الأمر يتطلب إلى الكثير من الذكاء والحذر لحصر ظاهرة السلفية الجهادية في نطاق محدود وهو عن طريق الحوار المشترك بينهم وبين من يقربهم في التفكير والإنتماء كالسلفية العلمية وهي المعتدلة في هذا المجال وتكثيف خطب الجمعة لتوعية الشباب بأن الدين الإسلامي هو دين السلام والأمن وأن المسلم من سلم الناس من يده وليس المسلمون فقط من اذاه وعنفه المادي ومن لسانه وهو العنف اللفظي ربما توخي العقلانية لحل هذه الأزمة يمكن ان تساعد في الحد من موجة العنف الأصولي وغيره أيضاً تحت مراقبة ونشاط كثيف لقوات الأمن التونسية . فالعيب والخطر هو الإقتتال بين التونسي وأخيه التونسي وإراقة الدم التونسي أيضاً على الأرض التونسية تحت دوافع عديدة ومسميات عدة . فالتمسك بقيمة المواطنة لكل مواطن تونسي مهما كانت كمية الإختلاف الديني والسياسي والثقافي هو تمسك بعروة الدولة وبناء لتجربة ديمقراطية حقيقية تتسع لكل أبناء الوطن الواحد مهما تباينت الآراء وإختلفت.