يأتون إليها بلباسهم الأسود، وبملامحهم الشاحبة المكتئبة، وبصمتهم القاتل، الذي يخبئ من وراء سكونه سلسلة من الذكريات، أصبحت من الماضي، ولن تتكرر أبدا مع أشخاص لن يتكرروا هم أيضا وأصبحت صورهم مجرد أجساد بلا روح. لا يهم مدة الزيارة هل ساعة، ساعتين، أو يوم كامل، المهم الجلوس بقرب قبرهم والدعاء لهم بالمغفرة، والتحدث إليهم والبوح لهم بما يختلج الصدر من هم وحزن قد يكفي لتخفيف أوجاع بكت عيونا، وأذابت أكبادا، وإن كانت لن تمحي جرحا غائرا في قلوبهم. لكن "حسناء" لا تأتي إلى هذا المكان الخاص، من أجل زيارة قريب لها،لأنها باختصار تجيئ إلى هنا من أجل غرض آخر هو العمل، نعم العمل ولا شيئ غيره. قد يستغرب البعض، لكن الظروف لها قلب قاس لا يرحم، ولا تعترف ببراءة الطفولة. رغم أن سنها لا يتجاوز العشر سنوات، إلا أن حسناء تتكبد مشاق هذه الحياة القاسية، وكأنها بلغت من العمر عتيا، عندما تتحدث إليها وكأن الواقفة أمامك سيدة يتجاوز سنها الستين عاما، كيف لا والحياة حجزت لها مبكرا مقعدا في دروبها الوعرة. تبدو على حسناء ملامح الجمال الآخاذ كأنها نجم لامع في سطوعه وإشراقه، شعرها الأصفر اللامع على كتفيها الصغير، كأنما قد نسج من خيوط الشمس. لكن جمال ملامحها ليس كجمال ثيابها الممزقة والمتسخة بتراب المقبرة، سروال فقد لونه من كثرة ما لبس وقميص لم يتضح لي لونه لكنه على الأغلب أسود كسواد ظروفها، ورغم كل هذا فإنها ترسم على شفتاها الصغيرتين ابتسامة عفوية غير مقيدة بالبرتوكولات الزائفة. تستيقظ حسناء كل يوم على الساعة السادسة صباحا تحاول جاهدة أن تسرق ساعات قليلة من العلم، وإن كانت غير كافية. تقضي معظم وقتها وسط القبور تنتظر أن يأتي مكلوم (ة) فقد شخصا عزيزا عليه، لكي تقوم بتنظيف قبره بحمل كميات كبيرة من الماء فوق ظهرها النحيف، وفي يديها التي فقدت معنى النعومة مكنسة صغيرة لكي تنظفه، مقابل ثمن زهيد لا يسمن ولا يغني من جوع. ثم تمضي إلى قبر آخر للقيام بنفس العملية. تتألم كثيرا لكنها تخفي علامات الألم وراء عبارة واحدة " يوما ما سأصبح صحفية، وسأنقل معاناة كل الأطفال الذين يشربون من نفس كأس مرارتي، أنا متأكدة من ذلك". لدى حسناء، أم مريضة مقعدة، فهي يتيمة الأب وليس لها إخوة، تحاول بشتى الطرق أن تدرس وتوفر لوالدتها مصروف البيت وثمن الدواء، رغم أنها كانت تحلم بأحلام وردية كباقي بنات سنها، أن تكون لديها دمية وملابس جميلة وأن تلعب في الملاهي لا وسط القبور. تدرس حسناء في الصف الثالث إبتدائي، ورغم كل الظروف القاسية إلا أنها تتمكن من الحصول على نتائج حسنة، خاصة في مادة اللغة العربية. تحكي لي وقد انتشرت على ملامحها غمامة رقيفة من الهم والإكتئاب، ثم تنهدت تنهيدة طويلة، اختلجت لها أعضاؤها الصغيرة. تنتظر حسناء بفارغ الصبر اليوم الذي ستصبح فيه خادمة للسلطة الرابعة، كما تقول وقتها ستحمل اللقب الذي تحلم به، تقولها ودمعة رقراقة تترجح في مقلتيها، كلما حاولت أن تسيل أمسكتها واستمرت في حديثها " يوما ما سأصبح صحفية مثلك، ولن أتخلى عن حلمي هذا حتى لو وقفت أمامي مئة عقبة وعقبة".