هذه الرواية تستحق أن تبحث عنها وتقرأها، ولن تندم عنوانها «رمال ناعمة» وكاتبتها هى درية الكردانى وستعرف فى آخر هذا الحديث، لماذا جعلت عنوانها «رمال ناعمة»ولعل هذه الرواية هى عملها الأدبى الأول والوحيد، الذى تتقدم به للحياة الأدبية والعامة فى سن ليست صغيرة.
هو عملها الأول ولكنه يأتى ناضجا ممتلئا بالحيوية معبرا عن مسئولية الإنسان عن اختياره وبحثه الباسل عن الحب والسعادة والمشاركة. وإذا كان هذا العمل هو رواية بكل المعانى المتعارف عليها لأركان العمل الروائى فإن جوهره ومنبعه الرئيس، تجربة شخصية ولا يخفى هذا على اللبيب وغير اللبيب، ولا تهتم هى بإخفائه.
ولست ناقدا محترفا أو غير محترف حين أشير عليك بقراءة هذه الرواية حتى لا تطالبنى بتقديم تحليل لبنيتها وتقييم يضىء جوانبها. فإنى سأتوقف عند التجربة الشخصية، التى جعلتها تمسك بالقلم وتكتب بكل هذه الحرارة والانفعال. سأفتش عن ملامح التجربة الشخصية، وسط تضاعيف الرواية وأدير حولها هذا الحديث.
إذن فهو حديث من وحى الرواية وأصداء تجربتها وليس عرضا لها كعمل أدبى..ولابد أن المؤلفة لا تحب لأحد أن يقرأ عملها كتجربة شخصية أو قريبة من السيرة الذاتية، لأنها بذلت جهدا حقيقيا، لتقدم رواية ترتكز على أصول هذا الفن الجميل. ولكننى رأيت التجربة الشخصية التى ألهمتها مهمة فى حد ذاتها وتستحق أن تشغل القارئ بذاتها وتدفعه إلى تأملها على ضوء واقعنا الثقافى والنفسى. فهى تكشف عن جانب مشترك نعايشه جميعا.
ولا أرى بأسا أو ثقل ظل فى الإشارة إلى عناوين صاحبيها واسميهما، صاحبى التجربة، فالتجربة قصة زوجين، جمع بينهما طائر الحب، وسارت سفينة حياتهما فى بدايات الأيام، فى بحر بدا كأنه بحر من بحور الجنة، واكتشفت بل وتأكدت فى آخر الأمر أن البحر كان مليئا بالدوامات والعفاريت، منذ اللحظة الأولى وتحطمت السفينة وأعطى كل منهما ظهره للآخر. وهى تروى هذه المسيرة الطويلة التى دامت عشرين عاما بلا ضغينة ولا يشوب حديثها مرارة أو انتقاص من قدر الآخر. كأنها تفضى لنفسها وهى تستعيد وقائع تلك السنين، وهى لا تقصد غير الإفضاء ولا تهتم حتى باستخلاص الدروس. فى نهاية عمر زواجهما رأت بداياته فى ضوءجديد، وكيف أن البدايات كانت تفضى إلى مثل هذه النهاية. وأنها هى التى كانت تتعامى وترى الحلم كما آمنت به وسارت إلى عشه كأنه حقيقة واقعة.
كيف خلطت بين ما كانت تتمناه وبين الواقع الذى عاشته كل هذا الوقت «ثم أنك أنكرت حتى لنفسك أنك متألمة» كما يجىء بين سطور الرواية. قوة الرواية فى التعبير الصادق عن هذا التناقض والتحكم فى النفس لقبول هذا الوهم والثقة فى إمكان تعديل مساره وإعادة البداية. تجربة زواج بين فتاة ذكية جميلة متينة الخلق، بنت ناس، من الشريحة الأكثر احتراما فى الطبقة المتوسطة وتحمل كل بذور طموح ومواهب تلك الطبقة وبين فنان كبير من النخبة، على رأسه هالة مضيئة من التحقق والإنجاز وامتلاك ناصية كل ما يمكن تملكه من مهارات التفوق فيه.
حسن سليمان
وعند هذه النقطة أفصح لك عن اسم الطرف الآخر فى التجربة هو الفنان التشكيلى الكبير الراحل حسن سليمان. فنان من الصف الأول فى جيله، واسم لامع فى قائمة الفن المصرى المعاصر.
فنان مثقف متمكن يتبنى موقفا تقدميا من الحياة والفن ويخلص لعمله كل الإخلاص، ولعلك توافقنى أن تجريد الرواية والتوقف عند عمودها الرئيسى بهذه المباشرة ليس أمرا قليل الأهمية. فلعله الكتاب الوحيد الذى تتناول فيه زوجة مصرية حياتها فى كنف فنان كبير معترف بأهمية إنجازه. وهى أيضا ليست بعيدة عن رؤاه وأفكاره وبالذات التى تتعلق بالتغيير الاجتماعى وحقوق المرأة. فهى تذكرك وأنت تقرأ الرواية بذلك الحزب من بناتنا اللائى يؤمن بدور مختلف للمرأة لا يحاصرها فى البيت وتربية الأولاد ويتطلعن للانفتاح على العالم الواسع والمشاركة فى صناعته.
وقد تشربت هذه الأفكار منذ وقت مبكر رغم أسرتها المحافظة ولكن الطيبة ،أسرة تتوق إلى الأفضل. وكما يجىء فى الرواية «أردت من صغرى أن أكون شاطرة بمقاييس يخضع لها الأولاد والبنات سواسية». وأنبهك أيها القارئ العزيز أن الاقتباسات التى أنقلها من الرواية منسوبة إلى أى من طرفى العلاقة تصلح أن تكون على لسانيهما فى الواقع، وربما منقولة من الواقع حرفيا.
وحين التقت بالفنان كما تسميه فى الرواية وهى فى الثامنة عشرة من عمرها وتسكن فى بيت الطالبات كانت تتلمس طريقها فى الدنيا بقلب وعقل متفتح. وبسبب هذا التفتح واللفحة التى مستها من التيار الداعى إلى التغيير منذ صغرها نمت علاقتها مع الفنان واستمرت وعمقت هذه العلاقة المفاهيم التقدمية التى تسربت إلى روحها وفتح لها الفنان عوالم أرحب وأعمق وكانت مسام نفسها متأهبة للتلقى. وتتوقف بامتنان عند تلمذتها على يديه «كل ما يقوله يعجبنى ويبهرنى كل ما يحكيه أحفظه» والرواية لا تقول شيئا عن أعماق وما يدور فى داخل الطرف الآخر.إنما تتحدث عنه من الخارج وتركز على ما ينعكس فى أعماقها هى. فهى تستطرد فى الحديث عن نفسها وما ينعكس فى مرآتها وطعم رحيق الحب فى فجره الجميل.والذى توج بالزواج بعد الانتهاء من دراستها الجامعية.ولم تكن تتوقع غير أيام مليئة بالتحقق والسعادة وكل ما يفجر ينابيع الهناء إلى جانب السند القوى. ولم تسمع أبدا اعتراضات أسرتها وأصدقائها ودعوتهم إياها بالتأنى أمام فارق السن الكبير.ولم تناقش شروط بيت الزوجية وقواعد العلاقة التى وضعها هو من البداية. وملخص هذه الشروط أن تجعل نفسها فى خدمته وخدمة مشروعه الفنى بكل طاقاتها.وتذكر عبارة كان يكررها «حافظى على كفنان فيصبح مجدى وما أحققه لنا نحن الاثنين معا.والقاعدة الثانية ألا تمس حريته بأى درجة من الدرجات. الحلم والواقع ولم تتردد فى قبول الشروط، فهى واثقة أن هذا يصب فى تحقيق الحلم الجميل الذى تصبو إليه وأنه عمل رائع أن تساعده على أداء رسالته فى الإبداع والريادة والخير والجمال ولو على حساب نفسها. وانغماسها الصادق ولهفة الشباب جعلها لا تتصور المدى الذى يعنيه بمعنى السهر عليه، ولا حدود حرية الفنان التى يقصدها. كان كل منهما فى واد، هى تغزل خيوط حلم رائع ممكن التحقق، وكان هو يريد عاشقا يدور فى فلكه، ويسبح بحمده ليل نهار. تمسكت هى بالحلم، وعضت عليه بالنواجذ وحتى مع مرور الأعوام، لم تصدق أن الحلم قد أصبح ذكرى بعيدة، ولم تفقد الأمل فى إعادة بناء حياة مشتركة كتلك التى حلمت بها يوما، وسمعت ملامحها على لسانه وهو يتحدث عن التقدم الذى تصبو إليه البشرية وهى تحطم أغلال التخلف التى فرضتها الظروف الاجتماعية على الإنسان. يوما بعد يوم وعاما بعد عام، كانت ترى شخصا آخر «كان ممتلئا بذاته أعتقد أنه لم يرك أصلا». إذا تأخرت لحظة فى تلبية مطالبه المتعددة فعليها أن تحس بالذنب الذى اقترفته حتى لو كان هذا الطلب مجرد إحضار كوب العصير فى موعده اليومى: «أتجنب تعليقات قاسية يدهشنى فيها أنه لم يهتم بمراعاة مشاعرى». بل أنها كما تذكرت فيما بعد كان حريصا على اقتلاعها من ماضيها وذكرياتها وروابطها، بل وإفقادها كل ثقة بنفسها لتكون فى محرابه وحده. كان البناء حتى وإن كان وهما تتساقط حجارته فوق رأسها كل يوم وهى تمنى نفسها، وتحتفل بأى وميض وتعتز بتمسكه بفنه وترفعه على قيم السوق ولكن لمست بداية تنازل عن السقف العالى الذى وضعه لنفسه، ربما بحثا عن المال، مال وفير وعدته بتدفقه إحدى المتخصصات فى سوق الأعمال التشكيلية. ولم تطق صبرا. ومن الحق أنها صدقت الوهم إلا أن شيئا فى داخلها ظل مضيئا وبذرة كانت عصية على التحلل. وصرخت بتكتم. «أين هو الفنان، زوجى، حبيب العمر، الانتماء، الأستاذ». ورأت كل تاريخهما فى ضوء جديد، رأت فيه أطلال الماضى: «لا أستطيع أن أتذكر لحظة حب أو ألفة». «هل كان التحكم فى النفس هو الثمن الذى يجب أن أدفعه كى أعيش فى ظله». «هل أنا عبد لا يشعر بالأمان إلا فى إرضاء سيده». «بعد كل هذا الذل كل تلك السنين». بل أنها صرخت دون كتمان: «لقد اصطادك إلى فخ ماكر». الأقوال وال كلمات إلى مواطن أفعال ورواية درية الكردانى، بخصوبتها وصدقها تدفع إلى تأمل هادئ وعميق ى ثقافتنا العامة وسلوكنا. واختيار الحديث عن التجربة الشخصية فى الرواية وإلقاء الضوء عليه يجعل التقليب فى هذه الثقافة أوضح وأكثر تجسيدا. ولا يغيب عن أى متمعن فى هذه الثقافة أن التناقض بين الأقوال والأفعال فى قضية العلاقة بين المرأة والرجل فيها لايزال صارخا وجارحا. حتى وسط القوى التى ترفع راية التنوير والتقدم والحداثة. لابد أن يدهش قارئ الرواية عندما يأتى على لسان بطلها عبارة ينصح بها أحد تلاميذه: «لا تضيع وقتك مع المرأة، السرير مباشرة، لا قيمة لأى شىء آخر». وهى عبارة لها دلالة على التصور الكامن فى الأعماق رغم أن سطور الرواية تشير إلى التعقيد الذى يصنع هذه النظرة وتكشف عن هيام الفنان بالمرأة ككائن وأثرها فى تأجيج قواه، المرأة بالمعنى المطلق فجوانبه المعقدة لا تغيب عنها، وتفسح فى عملها الأدبى مكانا غير صغير لمناقشة التداخل الشائك بين الحب والجنس. يبدو أن أمامنا وقتا طويلا لنستقر على قواعد تعترف بحقوق المرأة حقا وصدقا. ولن يتم هذا إلا فى جو من الحريات العامة. ويتحمل الرجال والنساء الرواد معا، دورا أكبر فى دفع الإقرار بهذه الحقوق وتجسيدها واقعا حيا، تتمتع فيه المرأة بحقوق المواطنةكاملة، باقتناع وتراض وإيمان وليس فقط بالتشريعات.
وأمثال درية الكردانى يساهمون فى فتح هذا الطريق. وحين تمردت على واقعها فى مطلع الشباب وذهبت إلى مرسم وحدها وهى طالبة تحملت مسئولية اختيارها. وهذا واحد من أهم ملامح تجربتها. لم تحمل مسئولية الفشل لأحد إذا كان هناك فشل، حتى للشريك. وفى كل لحظة تتحاور مع نفسها وتأمل فى تحقيق الحلم. وظل هذا الأمل حيا وإلى اللحظات التى قررت أن تعود لنفسها وتترك العالم الذى أسهمت فى بنائه عشرين عاما. ولست أرى فيها ضحية على أى وجه وأعتقد أنها هى لا ترى نفسها كذلك، حتى وهى تقول «هل كان التحكم فى النفس هو الثمن الذى يجب أن أؤديه كى أعيش فى ظله». فنجاحها فى الفرار من هذه الجنة معناه أن روحها لم تنهزم. فهناك كثيرات ممن يملكن ثقافتها وقدرتها ولا يرين بأسا فى قبول هذا الوضع بمثل هذه الشروط وبالذات إذا كان يقابلها اعتراف بالجميل وتقدير للعطاء. ومن حقك أن تتساءل ألم يكن أكرم للبطلة، أن تغادر الساحة فى وقت أبكر. هذا رأيك، برأيك واللى على البر عوام. فخروجها فى النهاية من هذا القفص معناه أنها لم تستسلم وترض خانعة وسطور الرواية الأخيرة تضىء بالأمل والثقة. «توقفت عن ملاحقة الماضى ففى داخلى أنا نشب الخصام وفى داخلى أنا يجب أن يتلاشى لأبدأ من جديد، فهذا هو أول يوم فيما تبقى من العمر من بقية».
أما عنوان روايتها «رمال ناعمة» فهو نسبة إلى لوحة من إبداع الفنان أطلقت هى عليها هذا الاسم، اللوحة لشاطئ قريب من مدينتها ومسقط رأسها رآه معها مرة واحدة وحين رسمه كانت اللوحة الوحيدة من بين اللوحات التى رسمها لبحر الإسكندرية الذى تظهر فيه الرمال وأعجبت بالرمال التى نجح فى إبرازها دقيقة، ناعمة خطرة كأنها تتأهب لابتلاعك وأنت مخدر ورأت فيها نفسها وحياتها وحياته معا.
وقد دعوتك فى أول سطر أن تبحث عن هذه الرواية وأساعدك فى البحث عنها بالإشارة إلى أنها من مطبوعات دار الثقافة الجديدة.وكم أتمنى أن يقرأها أبناء وبنات العشرينيات والأكبر فقد تنقل لهم قبسا من الوعى بالمستقبل وتزودهم بطاقة يتابعون فيها رسالة التنوير والتحديث الحقيقى الذى مازالت جمرته متقدة رغم التراجع الذى لا يمكن إنكاره فى المشهد العام.