الكتاب: »رمال ناعمة« المؤلف:درية الكردانى الناشر: دار الثقافة الجديدة فتحت باندورا الصندوق الذي أهداه لها زيوس وأمرها ألا تفتحه أبداً، فانطلقت منه كل شرور البشرية، فسارعت هي إلي إغلاقه ولم يتبق فيه سوي الأمل. و في روايتها الأولي »رمال ناعمة« الصادرة مؤخراً عن دار الثقافة الجديدة في أكثر من 300 صفحة، فتحت درية الكرداني هي أيضاً صندوق الكلام فتطايرت منها شظايا حكاياتها عما عانته في حياتها بصحبة الفنّان؛ حبيبةً وزوجةً ومساعدة له، واستبقتْ في صندوقها كذلك شيئاً من الأمل. كثيراً ما كانت العلاقة بين الفنان ونموذجه لها جاذبيتها الدرامية، ولانطوائها علي الكثير من تساؤلات وهواجس الفن وعلاقة الخلق وإعادة الخلق وبالطبع ذلك الخيط السحري الذي يربط ما بين الفن والحياة. لكن لم يعد حريم الفنان بالمكان الآمن، حسب الاقتباس من باتيستا ألبرتي في الصفحات الأولي من الرواية، لم تعد الموديل جمالاً صامتاً شأن أشياء الطبيعة الصامتة، وقد »أعاد الفنان خلقهن، عاريات وصامتات، وسيبقين كذلك«، فأحياناً ما تدفع الموديل إطار اللوحة وتخرج منها حية تفتش أنفاسها عن الهواء الطلق بعيداً عن جو المرسم الخانق. غير أن الموديل في رواية رمال ناعمة سرعان ما تتحوّل إلي حبيبة وزوجة، وهكذا يتحول سجنها من لوحة زيتية إلي بيت وعقد رسمي أشبه بعقد العبودية، وازدواج شخصية الفنان في الرواية مفارقة حادة إلي درجة مُضحكة، ازدواجه ما بين قيم التحرر والمساواة، ومعاملته لزوجته كخادمة ليس هناك من هدف لوجودها إلا رعايته والسهر عليه والقيام بكل ما يعزز مجده. يُذكرها الفنان بفيلم ألبرت لوين »باندورا والهولندي الطائر«، حيث البطل التائه في مركبه من شاطئ إلي شاطئ، وقد حرمته لعنة من الاستقرار والحياة إلا إذا أحبته امرأة وغامرت معه وضحت من أجله بكل شيء، مطالباً إياها أن تكون باندروا الخاصة به. إن صورة الفنان هنا بصرف النظر عن مدي اعتمادها علي شخصية حقيقية تبدو أقرب إلي طفلٍ ضخم أو وحش ساذج، قد يتهجم بالضرب علي زوجته إذا تأخر عصير البرتقال الذي طلبه، فهو مركز العالم وكل شيء يدور من حوله إما يخدم رغباته ويقف في صفه وإما العكس يعوقه ويغيظه ويعذبه. الرد بالكتابة كان هو طريقة الموديل الذي نطق أخيراً ليكشف الغطاء الخادع عن أسطورة الفنان العظيم، لتتحول الحكاية إلي علاقة زوجية فاسدة، تقوم علي تهميش الزوجة والانتقاص منها في كل فرصة، وانتقاء السرد لكل تلك اللحظات البغيضة والإساءات يجعلنا نعتقد أن صندوق الكلام لم يحوِ إلا أسوأ الذكريات. تنتقل الشابة الجميلة من إحدي قري دلتا مصر إلي العاصمة لتواصل تعليمها، مودعة أسرة تقليدية من موظفي الطبقة الوسطي، بكل ذكرياتها الطفولية الحميمة التي لا نجد وقتاً لها في غمار أسطورة الفنان، وكذلك سرعان ما تنتهي ذكريات الراوية عن فترة الجامعة وبيت المغتربات وزميلاتها مختلفات الجنسيات فيه، رغم ما في تلك المراحل من إمكانيات سردية، لنلحظ هنا شحوب حكاياتها وتواريها أمام حكايات الفنان التي كانت تبهرها في البداية فقط بالتأكيد فما إن تذكر له شيئاً حتي يجابهها بحكاية هائلة عاشها، ستعرف فيما بعد قدرته المذهلة علي تلفيق الحكايات. »كل هذه القصص الدرامية الملونة، حقيقة أم خيالاً، جعلتني أتعلق به أكثر واكثر، فلا مقارنة بين حياتي وحياة أسرتي ومحيطي الهادئ المنسجم بل ربما الممل أيضاً، وتلك الفرقعات، الألوان الصارخة، والأحداث التي تغير مسار الحياة«. وحين كان يروي عليها قصص حبه القديمة، تقول أمه ضاحكة بكل فخر: »لا بدّ لهاتيك النسوة أن يؤلفن كتاباً!« اختارت الراوية أن تكون هي صاحبة هذا الكتاب عن وعي أو بدونه، ولكنه ليس سرداً لعلاقة غرامية مع الفنان الأسطوري بقدر ما هو كشف حساب لسنوات طويلة معه نجح خلالها في محو ذاتها تدريجياً، مُسقطاً علي شخصها عقده ومشكلاته إلي درجة غيظه من طولها الفارع في مقابل قصر قامته. إلي أن تبدأ بالإمساك بزمام حياتها تدريجياً، ويكون الخلاص في الكتابة جانب سُبل أخري فتستيقظ كل صباح لتكتب بلا تفكير حوالي ثلاث صفحات، كما نصحها أحد الكتب، »كان الأمر صعباً في البداية. عندما تصمت مدة طويلة تنسي الكلام«، لكن يدها تتحرك بالكتابة وتنطلق تدريجياً، فتكتب وترمي في صندوق مغلق يومياً لسنوات طويلة، دون أن تعيد النظر لما كتبته، إلي أن يفيض الصندوق، أو كما تُعبر قرب نهاية الرواية: «أشعر أني فتحت صندوق الكلام وأنه لا يريد أن ينغلق مرة أخري.»، وبعد الانفصال الذي تأجل كثيراً، تشرع في استعادة إحساسها بذاتها وجسدها وحقها في الحب والحياة، فتعيش بعض العلاقات العاطفية العابرة، تمر مرور الكرام ربما لأنها لم تخلُ من ظلال سنواتها الطويلة بصحبة الفنان، حتي تصل لقناعة نهائية مع السطور الأخيرة للرواية بنفض الماضي عنها، والتوقف عن قص الأثر، وضرورة فض الاشتباك الخاص بها من داخل ذاتها، حيث بدأ في الأساس. علي المستوي الأدبي لا تعدنا الرواية بالكثير، فلا انشغال بالبنية أو التقنيات أو اللغة بأهون الدرجات، إنما هو استسلام كامل للفوضي الجميلة للذاكرة، والتداعي الحر الذي يجعل المواقف والمشاهد تجر بعضها بعضاً، وقد تظهر شخصية لتنصح نصيحة أو تقول جملة ثم تختفي، وقد نتعرف علي شخصية أخري لصفحات دون سبب واضح ثم تختفي هي الأخري. إنها كتابة بمادة الحياة نفسها، بعشوائيتها وانعدام منطقها، كتابة تتخفف من أحمال الماضي تدريجياً »كان شعوري بجسدي يشبه شعور حركة الذراعين بعد التمرين باستخدام الأثقال. بمجرد وضع الأثقال علي الأرض يصبح إحساسك خفيفاً، طائراً». الاعتماد علي عفوية التجربة وصدقها التام هو ما أنقذ هذا العمل من الركاكة التامة، خاصةً وأنه يترهل لصفحات طويلة متحركاً في المحل، دون تقدم زمني واضح بالحكاية. لكن القارئ لن يعدم الصور والتشبيهات المبتكرة حقاً، والحكايات التي تتلقي تغذيتها بحبل سري موصول مباشرة بقلب الحياة، وبالطبع ذلك الإحساس الأنثوي الذي يحيط السطور بهالة من الحسية وتعلق بالتفاصيل اليومية الصغيرة، كما في مشاهد استغراق الزوجة التام، إلي درجة الوجد الصوفي، في الأعمال المنزلية مثل غسل المواعين وتقطيع الخبز، وسيلتها المبدئية في الاسترخاء قبل أن تهتدي إلي صندوق الكلام. ولعلّ هذه الراوية وغيرها تجعلنا بحاجة إلي مراجعة مواقفنا من الدور الهام والضروري أحياناً للمحرر الأدبي، وهو ما يصعب علينا الاعتراف به، فقد ظللت أتساءل طوال قراءتي للرواية ماذا لو اشتغل علي هذه المادة السردية الساخنة الفتية محررٌ أدبي يجيد عمله، أكانت ستصبح رواية أكثر تماسكاً وأسهل في القراءة وأفضل من حيث البنية واللغة ورسم الشخصيات؟ ولكن أكان من الممكن أن تفقد أثناء عملية التحرير أجمل ما فيها؛ عفوية الوعي بالكتابة وبكارة التعبير، دون حذلقة أو مكر أو ألاعيب تقنية. في إحدي رسائله يشير أنطون تشيخوف إلي عبيد الأرض، قائلاً إنه كان عليه أن يعتصر العبد الذي بداخله شيئاً فشيئاً، أن يُصفي دمائه قطرةً بعد قطرة من بقايا العبودية، هكذا جلست درية الكرداني أمام أوراقها القديمة لتُحرر ذاتها من أثقال الماضي كلمة بعد كلمة، وفي قيامها بهذا صادف أن أهدتنا حكايات تسندها الخبرة وتجلوها مرارة الصدق.