محافظ شمال سيناء يعلن عن طرح مدينة رفح الجديدة وقري الصيادين والتجمعات التنموية (صور)    فاتن عبد المعبود: سيناء أرض الفيروز وكنز لدينا في مصر    عزوف المواطنين عن شراء الأسماك يؤتي ثماره بالدقهلية.. انخفاض الأسعار للنصف    الصوامع والشون تواصل استقبال محصول القمح في المحافظات    بتوجيهات رئاسية.. سيناء تحظى بأولوية حكومية فى خطط التنمية الشاملة    رد عاجل من حركة حماس على طلب 17 دولة بالأفراج عن الرهائن    آلاف اليهود يؤدون الصلاة عند حائط البراق .. فيديو    "أون تايم سبورتس" تحصل على حقوق بث مباريات نصف نهائي الكؤوس الإفريقية لليد    بسبب إيقاف القيد.. أحمد حسن يفجر مفاجأة في أزمة بوطيب مع الزمالك    منافسة قوية لأبطال مصر في البطولة الأفريقية للجودو.. ورئيس الاتحاد: الدولة المصرية والشركة المتحدة لا يدخرون جهدا لدعم الرياضة    مصرع طفلين وإصابة بنت فى التجمع.. الأب: رجعت من شغلي وفوجئت بالحريق    دعاء الاستخارة بدون صلاة .. يجوز للمرأة الحائض في هذه الحالات    مدرب صن دوانز: الفشل في دوري الأبطال؟!.. جوارديولا فاز مرة في 12 عاما!    "حماس": حال قيام دولة فلسطينية عاصمتها القدس سنضم جناحنا العسكري للجيش الوطني    بشرى للسيدات.. استحداث وثيقة تأمين على الطلاق يتحمل الزوج رسومها كاملة    الدورة 15 لحوار بتسبيرج للمناخ بألمانيا.. وزيرة البيئة تعقب فى الجلسة الأفتتاحية عن مصداقية تمويل المناخ    ضمن الموجة ال22.. إزالة 5 حالات بناء مخالف في الإسكندرية    وزير التعليم العالي يهنئ رئيس الجمهورية والقوات المسلحة والشعب المصري بذكرى تحرير سيناء    تشافي يبرّر البقاء مدربًا في برشلونة ثقة لابورتا ودعم اللاعبين أقنعاني بالبقاء    غير مستقر.. سعر الدولار الآن بالبنوك بعد ارتفاعه المفاجئ    «الجيزة» تزيل تعديات وإشغالات الطريق العام بشوارع ربيع الجيزي والمحطة والميدان (صور)    مصادرة 569 كيلو لحوم ودواجن وأسماك مدخنة مجهولة المصدر بالغربية    التحقيق مع المتهم بالتحرش بابنته جنسيا في حدائق أكتوبر    إصابة سيدة وأبنائها في حادث انقلاب سيارة ملاكي بالدقهلية    جدول مواعيد امتحانات الصفين الأول والثانى الثانوى أخر العام 2024 في القليوبية    نقابة الموسيقيين تنعي مسعد رضوان وتشييع جثمانه من بلبيس    رد فعل غير متوقع من منة تيسير إذا تبدل ابنها مع أسرة آخرى.. فيديو    بلجيكا: استدعاء السفير الإسرائيلي لإدانة قصف المناطق السكنية في غزة    الصحة: فحص 6 ملايين و389 طفلًا ضمن مبادرة الكشف المبكر وعلاج ضعف وفقدان السمع    علماء يحذرون: الاحتباس الحراري السبب في انتشار مرضي الملاريا وحمى الضنك    كيفية الوقاية من ضربة الشمس في فصل الصيف    بنات ألفة لهند صبرى ورسائل الشيخ دراز يفوزان بجوائز لجان تحكيم مهرجان أسوان    خبيرة فلك: مواليد اليوم 25 إبريل رمز للصمود    عقب سحب «تنظيم الجنازات».. «إمام»: أدعم العمل الصحفي بعيداً عن إجراءات قد تُفهم على أنها تقييد للحريات    الكرملين يعلق على توريد صواريخ "أتاكمز" إلى أوكرانيا    وزارة العمل تنظم فعاليات «سلامتك تهمنا» بمنشآت السويس    محافظ كفر الشيخ يتابع أعمال تطوير منظومة الإنارة العامة في الرياض وبلطيم    أحدهما بيلينجهام.. إصابة ثنائي ريال مدريد قبل مواجهة بايرن ميونخ    حبس شاب لاستعراضه القوة وإطلاق أعيرة نارية بشبرا الخيمة    بيلاروسيا: في حال تعرّض بيلاروسيا لهجوم فإن مينسك وموسكو ستردّان بكل أنواع الأسلحة    أمين الفتوى لزوجة: اطلقى لو زوجك لم يبطل مخدرات    أبورجيلة: فوجئت بتكريم النادي الأهلي.. ومتفائل بقدرة الزمالك على تخطي عقبة دريمز    محافظ شمال سيناء: كل المرافق في رفح الجديدة مجانًا وغير مضافة على تكلفة الوحدة السكنية    انعقاد النسخة الخامسة لمؤتمر المصريين بالخارج 4 أغسطس المقبل    7 مشروبات تساعد على التخلص من آلام القولون العصبي.. بينها الشمر والكمون    «التعليم» تستعرض تجربة تطوير التعليم بالمؤتمر الإقليمي للإنتاج المعرفي    آخرهم وائل فرج ومروة الأزلي.. نجوم انفصلوا قبل أيام من الزفاف    منها طلب أجرة أكثر من المقررة.. 14 مخالفة مرورية لا يجوز فيها التصالح بالقانون (تفاصيل)    موعد مباراة الزمالك وشبيبة أمل سكيكدة الجزائري في نصف نهائي كأس الكؤوس لليد    فن التهنئة: استقبال شم النسيم 2024 بعبارات تمزج بين الفرح والتواصل    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الخميس25-4-2024    عادل الغضبان يهنئ أبناء محافظة بورسعيد بالذكرى ال 42 لعيد تحرير سيناء    افتتاح وتشغيل 21 سرير عناية جديد بمستشفي الكرنك في الأقصر تزامنا ذكرى تحرير سيناء    حدث ليلا.. تزايد احتجاجات الجامعات الأمريكية دعما لفلسطين    الفندق عاوز يقولكم حاجة.. أبرز لقطات الحلقة الثانية من مسلسل البيت بيتي الجزء الثاني    هل يجوز قضاء صلاة الفجر مع الظهر؟.. «الإفتاء» تحسم الجدل    أحمد موسى: مطار العريش أصبح قبلة للعالم وجاهز لاستقبال جميع الوفود    الزكاة على أموال وثائق التأمين.. الإفتاء توضح أحكامها ومتى تجب    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الشيطي والثورة وما بينهما من خطوات
نشر في أخبار الأدب يوم 09 - 07 - 2011

لا صوت يعلو فوق صوت الثورة، هذا هو الشعار الذي ترفعه كثير من دور النشر المصرية حالياً. كتب عديدة صدرت عن الحدث وأخري في طور الكتابة. ناشر يؤجل نشر مجموعة قصصية لكاتب معروف طالباً منه أن يضيف نصوصاً عن 25 يناير، وآخر يرفض نشر أي عمل لا علاقة له بما يجري حالياً. الكتاب بدورهم، يرغبون في ملاحقة التطورات بالرصد غالبا،ً وبالتحليل أحياناً، وبالتأمل واستقراء الخفي والكامن نادراً. نقرأ النصوص والكتب التي تتناول الثورة، فنجد تشابهات كبيرة، كأن الكلمات تتحول إلي شاشة تنقل لنا ما سبق أن رأيناه علي أرض الواقع، نعرف طبعاً أهمية التدوين والرصد كي لا يتم نسيان تفاصيل الثورة وخفاياها، خاصة في ظل العمل المنهجي علي تزييف كثير من حقائقها وخلط الأوراق ببعضها البعض من جانب قوي الثورة المضادة. الرصد والتدوين واليوميات لهم دور مهم بطبيعة الحال، وكذلك المقالات التي كان هدفها توصيل صوت الثوّار إلي العالم. لكن الأمر يصبح أكثر تعقيداً في ما يخص الإبداع. فالمسألة هنا أبعد من حسابات الناشرين الخاصة بالربح والخسارة، وأبعد من النيات الطيبة لانتاج أدب يشتبك مع الواقع.
كثير من الإبداعات التي كُتبت عن الثورة حتي الآن تتسم بالمباشرة والدعائية ولا ترقي إلي مستوي الحدث الذي كان عملاً فنياً وإبداعياً خالصاً في حد ذاته، غير أن الجيد في الأمر أن الثورة سواءً كفعل إبداعي أو فعل سياسي نجحت في إعادة طرح عدد من الأسئلة والإشكاليات حول علاقة المثقف بمجتمعه، وعلاقته بمادته الإبداعية، وحول دور الأدب والثقافة، بعد أن أثبت الواقع أنه تجاوز الخيال بخطوات واسعة.
حظ المبتدئين هو الذي دفعني لأكتب عن حرب أكتوبر، وهو الذي جعل هذه القصة تفوز في مسابقة وتشتهر إعلاميا ، وهو الذي دفع الكاتبة حسن شاه أن تضعها أمام نجيب محفوظ وتسأله: لماذا لم تكتب عن حرب أكتوبر رغم مرور أربع سنوات؟
أذكر أنه تحدث عن الشباب والتجربة الحية،لكنه، وضع بين قوسين، أهمية أن تختمر الأحداث الكبري قبل أن نكتبها، الأمر يحتاج وقتا ليتفاعل الحدث الكبير من مئات التفاصيل الصغيرة، لينتج أدبا خالدا مثل الحرب والسلام ( تولستوي). الأمر يحتاج وقتا ليصبح مثل الخمر المعتق. نصيحة محفوظ هي التي جعلتني لا أكتب حرفا واحدا عن حرب أكتوبر، وهي التي جعلتني قليل الكتابة عموما، وفيما بعد أدركت أن الروائي العظيم عاش ومات ولم يكتب عن حرب أكتوبر، لكن ثورة 19، ظلت تمور في كتاباته، حتي سمعنا صخبها في أحلامه.هكذا.. احتاج الأمر ثلاثين عاما لإدراك، أن الكتابة عن الأحداث في حينها شيء مختلف، ليس له طعم الخمر المعتق، ولا أثرها العميق، فقط له طعم الطزاجة والدهشة وحرارة الشباب، احتاج الأمر ثلاثين عاما لإدراك أن المسافة التي يحتاجها الكاتب ليكتب عن حدث كبير ليست مسافة زمنية، وإنما هي مسافة وجدانية أولا وأخيرا.. علي أيه حال، لم أخسر شيئا، ثلاين عاما كانت خاوية من الأحداث الكبري.
كانت السنوات الأخيرة تحمل تغيرات كبيرة ليس في طرائق الكتابة وحسب، بل في مفاهيمها ودواعيها، ربما مللنا انتظار الأحداث الاستثنائية، كنا ندرك أنها دائما تقع بعيدا عنا، كأنما الحياة في مكان آخر، وكان علينا أن ننهمك في تفاصيل العادي واليومي، بدعوي كتابة الحياة اليومية، هكذا استهلكنا عقد التسعينيات، وكأن الكتابة لعبة كريات زجاجية، لزوم مايلزم من الانتظار والملل، شيئا فشيئا تعلمنا، أن نجعل من مصائبنا أحداثا تشعل كتاباتنا بالغضب، عن الموت غرقا في عبارة، أو حرقا في قطار أو تحت أنقاض هضبة المقطم. كثير من الغضب والعنف والسخرية المريرة، لونت الكتابة في السنوات الأخيرة. هكذا لا غرابة أن الثورة خرجت من قلب الروايات وأفلام السينما والمدونات وصفحات الفيس بوك علي نحو ماتقول ( شهلا العجيلي) في شهادتها عن الثورة المصرية.
هنا الفارق المهم بين جيلين، جيل جعل الكتابة وسيلة للخلود، وجيل حول الكتابة إلي نوع من التفاعل التلقائي وربما العشوائي، كالرقص علي صفيح ساخن. هكذا كان جيل محفوظ جديرا بالخلود، وكان الجيل الأخير جديرا بصناعة الأحداث الكبري.
كيف نفسر هذا الزخم المدهش من الكتابة علي صفحات الأنترنت والجرائد اليومية والصحف السيارة والمطبوعات العاجلة في الميدان؟ حيث لم تعد الكتابة حرفة الكبار، ليست انعكاسا لتراكم الخبرات التي لها طعم الخمر المعتق، حيث يستطيع كل من يريد أن يكتب ما يريد، ويا للمفاجأة، ثمة قراء في المقابل لاينشغلون بتواريخ صناعة الخمور، فقط ، يستهلكونها في عجالة، في محطات المترو، والباصات وعلي المقاهي. يفعلون ذلك بلهفة يومية، وكأنما ينتظرون شيئا مهما.
هكذا .. لا القاريء ولا الكاتب الجديد، يمكنهما الانتظار.انهم ابناء اللحظة الراهنة، والواقع المعيش، هكذا يخلقون مفهوما جديدا للزمن، إنه ليس ذلك الخط الممتد من الخلف إلي الأمام كشعاع ليزر يمتد إلي ما لانهاية، إنه ذلك الوهج العشوائي المتشظي المسكون بالظلال والتقاطعات، لمصباح صغير معلق علي باب البيت، حتي يلعب تحته أبناء الجيران. فمن هذا الواقع، ومن هذا المفهوم المتقاطع والمتشظي للزمن، ومن مفردات الصخب والعنف، وملل الانتظار الطويل، ومن نثريات الحياة اليومية، ومن مشاجرات أبناء الجيران تحت مصابيح البيوت. خرجت كتابة الميدان.
ميدان الكتابة
ليس لدينا تصور واضح لما يمكن أن تكون عليه كتابة الميدان، ولا أحد يجرؤ. ليشعر المنظرون بالخجل، لأن هذا الدفق الهائل لكتابة الميدان استثناء، خارج السياق، حتي ليتجاوز منطلقات الأدبية نفسها: النوع واللغة والمعني. فثمة شعراء وقصاصون وروائيون ومدونون وناشطون في منظمات المجتمع المدني وعلي صفحات الفيس بوك، جميعهم تفاعلوا مع الحدث العظيم، متجاوزين تقسيمات النخب والأجيال وطبقات فحول الشعراء التي صارت قدرا في ثقافتنا. فلا معيار هنا ، إلا بقدر عنف الرقص علي الصفيح الساخن، وصخب اللعب تحت مصابيح البيوت، وفرح التحرر من ملل الانتظار.
هكذا تصبح كتابة الميدان إسقاطا لأقنعة السلطة الأدبية والنقدية، كما كان الميدان إسقاطا لأقنعة السلطة السياسية، كأن الكتابة ثورة ، تنفجر علي الورق والانترنت، انفجارا هينا ومحسوبا، وتنفجر في الميدان بلا حساب. وسنجد في جميع الأحوال قدرا من الخفة اللازمة للرقص، وقدرا من الارتباك الملازم للانفعال، وقدرا من المباشرة اللازمة ليفهم الرئيس أن ( ارحل يعني امشي)، وقدرا من الوهج اللازم للفن.
علي الورق سيكتب ماهر مراد عنوانا مباشرا ( ثورة الغضب) هكذا بلا حسابات أدبية أو جمالية. وبكثير من الارتجال،إنه الإبداع اللحظي، ذلك الذي يستدعي القريب علي الذهن، في صياغات استعارية بسيطة، من وحي القنابل المسيلة للدموع، التي حملت علي أجسادها الصلبة ( صنع في الولايات المتحدة الأمريكية)، لتفجر دموع المصريين. يكتب تحت عنوان فرعي ( إعلان مدفوع الأجر ):
" شجع صناعة بلدك
أرقي وأجود أنواع الدموع العالمية..
لدينا خبراء متخصصون في إنتاج الدموع
دموعنا تبقي لمدة طويلة دون جفاف
دموعنا تتجدد تلقائيا
خصم خاص لحاملي الجنسية."
ليس الشاهد هنا هو القيمة الأدبية، ولا قوانين النوع، إنه الارتجال، والاستجابة السريعة لدخان القنابل المسيلة للدموع، من أجل هذا هو لايصنف كتابه، ويكتفي بالتأكيد علي أنه من وحي الثورة، ومن أجل هذا هو لايتردد أن يضع نصا كاملا من أصداء السيرة المحفوظية، في مفتتح الكتاب كأنه تعويذة، أو صلاة ظلت عالقة في سنة 1919، إنها تحويشة العمر،
كتاب جديد يضم يومياته الأخيرة:
جيفارا والثورات العربية
تواكبت ثورة 25 يناير مع الإعداد لكتاب يضم القصاصات الأخيرة التي خطها تشي جيفارا قبل أن يودع العالم بأيام. وأخيراً ظهر الكتاب تحت عنوان "يوميات محارب" وحرره الصحفي الأمريكي جون لي أندرسون، ويأتي نشر الكتاب متوافقاً أيضاً مع ذكري ميلاد جيفارا الثالثة والثمانين.
كان جيفارا وحيداً ومختبئاً عن أعين حرس الديكتاتور باتيستا. وفي نفس تلك الليلة، حكي المحارب الأحداث الواقعة في كراسة صغيرة. يكتب في إحدي القصاصات: "أشعر بشيء لم أشعر به من قبل: الحاجة إلي الحياة. يجب أن أصحح ما أكتبه هذا في المرة القادمة". هكذا تعكس اليوميات حياة ثورية، وتعتبر أفضل سيرة ذاتية عن القائد الثوري الأسطوري، كما تعكس هاجسه بأن يكون رجلاً لا يخشي الموت، متخطياً بذلك طبيعته البشرية. في قصاصة أخري يحكي كيف نفّذ
حكم الإعدام بنفسه في الخائن الأول، في الشهر الثاني من الثورة، وهو الأمر الذي لم يُعرف إلا من خلال ما خطه. المحارب يشرح كيف فعل ذلك بجفاء ويسجل كلمات المتوفي الأخيرة. يقول أندرسون: "في تلك الليلة لم يشعر بالربو".
قصاصات جيفارا خشنة جداً، يقول أندرسون، وخالية تماماً من أية صبغة أدبية أو تاريخية، غير أنها فاتنة.
يوميات جيفارا لا تخصه وحده، وشهادته ليست محض وثيقة تاريخية، فالأمر يتعلّق أكثر بثوري لم تغب صورته عن ميدان التحرير. رغم ذلك، أثار أندرسون قضية تخص الثورات العربية، وأدلي برأي يخالف تماماً مباديء جيفارا الثورية التي تؤيد أي ثورة في العالم وتنحاز إلي الشعوب المقهورة في مواجهة الديكتاتوريات. يقول أندرسون لجريدة الباييس الإسبانية : "لم يعد العالم أبيض أو أسود كما كان في أيام تشي، لذلك لو كان حياً لكان موقفه معقداً. مثلاً، لن قنينة الخمر المعتق التي احتفظ بها نجيب محفوظ، في قبو بيت القاضي، يكتبها خلافا لماهر مراد، بعد أن أخذ مسافة زمنية مأمونة،فجاءت الثورة مثل وعد مستحيل بالحرية:
( دعوت للثورة وأنا دون السابعة، ذهبت ذات صباح إلي مدرستي الاولية، محروسا بالخادمة، سرت كمن يساق إلي سجن، بيدي كراسة وفي عيني كآبة. وفي قلبي حنين للفوضي، والهواء البارد يلسع ساقي شبه العاريتين، تحت بنطلوني القصير، وجدنا المدرسة مغلقة، والفراش يقول بصوت جهير: بسبب المظاهرات لا دراسة اليوم، غمرتني موجة من الفرح، طارت بي إلي شاطيء السعادة، ومن صميم قلبي دعوت الله أن تدوم الثورة إلي الأبد).
لامجال للمقارنات الفنية هنا، فماهر كان يرقص علي سطح صفيح ساخن، رقصا يشبه القفز الملتهب بدخان القنابل المسيلة للدموع، تلك التي خنقت كريم عبد السلام فجعلها عنوانا لديوانه وهو يصرخ أيضا:
عندما صرخنا "يسقط الديكتاتور"
اكتشفنا أن سجونا رهيبة مصنوعة من الرمل
وأن مدناً كاملة مبنية من الرمل
وأن القادة المرعبين،
والطغاة القساة،
والعساكر ذوي العربات المصفحة،
والسياسيين المفوهين،
والحزبيين التجار،
مجبولون من الرمل
وأن الرمل لم يكن يحتاج حتي ينهار
إلا إلي موجة صاخبة من البحر
الذي غافل الجميع واستقر في ميدان التحرير".
لماذا تتخلي قصيدة النثر عن سموقها، عن مشهديتها، عن دوالها الكثيفة المتشابكة؟ لتسلم نفسها لنا علي هذا القدر من الوضوح والعري المجازي حتي ليشبه زفيف الجماهير موجة صاخبة من البحر. لابأس.. إنه انكشاف المواجهة، وسقوط الأقنعة فكل مقومات الأدبية الآن تتواري خجلا من عظمة الحدث. إنها كتابة الميدان. منغمسة فيه، مختنقة بدخانه، مهتاجة بهاتفاته. قريب من هذا يكتب ( أحمد سراج) مقتفيا أثر الميدان وتداعياته ومفرداته، قافزا فوق التفاعيل والأوزان والأبنية التاريخية للقصيد العربي،
يكتب ( الحكم للميدان) بمسافة من الوهج الجمالي، تسمح له باستعارة كثير من الأصوات والصور، بعضها يأتي من واقع معرفي، من التاريخ ويستعير لغته مثل: أشلاء هامان وموقعة الجمل:
" إن العدي فوق الثغور
إن الإمام مخادع وجنوده
أرتال ُفرس قلبها روم فميمنة من الترك العلوج وعمقها حبش وصقلاب وصهيون.."
وبعضها يأتي من واقع المشاهدات المتداولة، علي نحو ما توحي له صورة الثوري التونسي( لقد هرمنا )، يقول في قصيدة وصية :
"كبرنا، وشاخت خيول الأماني
ضياعا وجوعا
كبرنا وضاقت خطانا، وطالت لحانا
قليلا..كثيرا.. كبرنا."
شاعر العامية ابن الغنا والمواويل والوجع والليل الطويل، كان مدربا طوال الوقت علي البساطة الجميلة، فرصيد شعر العامية الثوري يمتد لسابع جد، منذ عبد الله النديم وبيرم وحجاج وجاهين اللعوب والنهار الذي عدي بالغضب والأنين علي الأبنودي. ليصل خالصا ومصقولا إلي الأحفاد. هكذا يكتب محمود الحلواني "سد الذرائع أمام فلول النظام":
كان لازم أوقف النزيف ، بأي شكل
حتي ولو هاحرق الجثه
ومش أقل من ميدان كبير ، بحجم الشعر ، هيساع الحطب
ويستوعب أزيز النار ، وألسنة اللهب ، وصوت الكمان اللي
غصبن عن التخين هيفرض وجوده
ويرفض يسيب الهلُمّه دي من غير ما يزرعها بالحنان
بُكاه هيستدعي المطر يعمل مظله
ويستدعي الشجر بالبلاطي البيضا
وسماعات النبض والمراهم .
مش أقل من ميدان كبير ، بحجم الشعر ، هيساع الشهود :
من المعزيين والمهنئين
القارئين للذكر والمطربين
ومن فلول النظام القديم.
هنا.. ذات تعرف كيف تدير معركتها الشعرية مع الميدان، حيث يصبح الشعر نفسه ميدانا، هنا ذات رائية واعية، باشتباك الدلالة، وتعدد مستويات اللغة، وكثافة الرمز بأزيز النار والحطب وسماعات النبض والبلاطي البيضا، هنا لايكون الميدان استدعاء لغويا للحدث، بقدر ماهو حضرة للذاكرين، وفضاء يسع الشهود، وبكاء كصلاة استسقاء، وتناغم وجداني، بحيث يفرض الكمان صوته غصبن عن التخين.
لم يأخذ الحلواني أي مسافة بينه وبين الميدان، توحد فيه وجدانيا، فرأي رأي العين، وشاهد الحضور فأنشد مع المنشدين الذاكرين المطربين المهنئين المعزين في شهداء العشق الثوري. فيما كان أحمد زغلول الشيطي ( علي بعد مائة خطوة من الثورة ) يرصد الميدان من البالكونة، أو علي شاشة التلفزيون بدار ميريت، أحسب أن المسافة الوجدانية بينه والميدان أكبر من مائة خطوة، ربما لهذا يشعر بالندم أنه لم يسجل يومياته منذ بداية الثورة، هكذا بدأ التسجيل في اليوم الثامن، حيث نزل الميدان وما الثورة إلا جمعة الغضب الأولي وصدق أو لاتصدق، أن تلك المسافة، تمكنه من كتابة مئات التفاصيل التي قد لايراها الميدانيون، غير أنه ظل طوال الوقت يشعر بأن ثمة ما ينقصه، هكذا يكتب في اليوم الثاني عشر من عمر الثورة : " أنزل الميدان وداخلي شعور أنني أرغب في عمل شيء ما، شيء كبير بحجم الثورة، أزرع الميدان جيئة وذهابا بحثا عن شيء ما، كأن شيئا ينتظرني لأفعله فأصبح جزءا من هذا الشيء..) فأي هؤلاء، كتب الميدان؟ وغيرهم كثر.
سيد الوكيل
يعتبر التمردات السائدة في العالم العربي ثورات". وأضاف: " لأنه كان سيراها خالية من الأيديولوجية. ومن جانب آخر، كان سيجد نفسه، علانيةً، مضطراً لانتقاد الإمبريالية الأمريكية بشكل رسمي وكذلك التدخل في شؤون ليبيا، لكن من داخله كان سيشعر بعدم الراحة أمام الفساد وطريقة قيادة هذه الحكومات".
هكذا يبدو رأي أندرسون خاصاً به لا بمناضل دفع حياته ثمناً لقضية. فجيفارا الذي جاب العالم شرقاً وغرباً دفاعاً عن الحريات ما كان ليقف موقف الصامت أمام ثورات شعبية قامت لإسقاط ديكتاتوريات هو نفسه حاربها (كان جيفارا أرجنتينياً يحارب الديكتاتور باتيستا في كوبا) كما أن الثورة المصرية علي وجه الخصوص تعد أول ثورة شعبية في التاريخ، ومما لا شك فيه، لو كان التشي حياً فما كان ليكتفي بتأييدها بل كان سيشارك فيها.
تعكس كراسات جيفارا جزءاً من صورته، كما أنها تقدّم تسجيلاً لكيفية نجاح ثورة خلال عامين. فالفترة التي قضاها في سييرا مايسترا، حيث قضي شهوره الأخيرة، كانت مميتة. لكن الثوار أسسوا خلالها أيديولوجيتهم التي اتجهت نحو اليسار. وهو الحدث الذي سجّلته اليوميات من خلال التعليقات المكتوبة يوماً وراء يوم عن المعركة، كذلك حكايات المناوشات والملاحظات حول رفاق النضال بمن فيهم فيدل كاسترو. يقول محرر الكتاب: "بعض
هذه الملاحظات لم تكن صحيحة سياسياً وأثارت ضيق بعض الأشخاص في كوبا عندما ظهرت في كتابي". ربما لهذا ظلت مختبئة سنوات طويلة في أرشيف مركز تشي جيفارا للدراسات في هافانا، رغم أن الناشرين يقولون إن السبب أخطاء لغوية بالإضافة لغياب صفحات أخري مهمة.
أحمد عبد اللطيف
لن يكون من الصعب علي القاريء تمييز تلك الكتب التي صدرت عن الثورة حتي قبل أن يميّز عناوينها، فهو نفسه القاريء نجم غلافها، سيجد صورته مرفرفاً بالأعلام أو مواجهاً جحافل الأمن المركزي. تشترك جميع تلك الكتب في شبهها ببضاعة الثورة التي ظهرت مع الأيام الأولي، الأعلام والميداليات والتي شيرتات وصور الشهداء، وغيرها من المنتجات المادية التي اجتاحت الميدان قبل أن تمتد تدريجياً لجميع الميادين والشوارع، وكان متوقعاً أن تنتج الثورة كذلك عتادها المعنوي من إبداع. لا نتحدث هنا عن مبدعين حديثي الولادة، خرجوا بمفاهيم إبداع جديدة، وطوروها ليقدموا للمستهلك شيئاً جديداً، ولكن عن إسراع المنتجين المعروفين إلي تقديم السلعة الجديدة التي قد تبيع.
تُوحي ثورة 25 يناير بأنها دراما مكتملة العناصر: فهناك الهدف والصراع والأبطال الأخيار والخصوم الأشرار، والعواقب والتعقيدات والخيانات والمقاومة والاستبسال والنجاحات حتي لحظة الدورة يوم التنحي. خطورة هذا الإيهام باكتمال دراما الثورة في أننا قد ننصرف عنها إلي تأطيرها وتسجيلها وإعادة إنتاجها فنياً، منشغلين "بعجلة الإنتاج" الإبداعية عن التورط والتأمل والتحليل وطرح التساؤلات.
الكتب الثلاثة التي نتناولها هنا ما هي إلا عينة عشوائية مما تم إنتاجه حول ثورة يناير حتي هذه اللحظة، وهو سيل عارم ليس من المتوقع انتهاؤه قريباً. وكلٌ منها يستحق وقفة خاصة غير هذه القراءة السريعة والتي قد تكون مجحفة لخصوصية كل تجربة. ومن المصادفات أنها صادرة عن دار نشر واحدة وهي دار "اكتب"، وتتشابه أغلفتها بألوان العلم المصري وصور الثورة، لكنها اختلفت كثيراً من حيث المضامين بطبيعة الحال.
كتاب مراد ماهر: "ثورة الغضب- صُنع في مصر" غير مُحدد بنوعٍ بعينه، سوي عبارة: من وحي الثورة، غير أن النصوص جاءت أقرب إلي فن القصة، فنحن أمام مشاهد شاحبة مشغولة من مادة الأحلام ومنسوجة بلغة أقرب إلي لغة الشعر والخواطر العاطفية. مشاهد لا تتناول أحداث ثورة يناير مباشرةً بقدر ما تتعامل معها كخلفية كبيرة للتحدث عن الخوف والقهر واغتصاب الأوطان، والقدرة علي الحلم والتحرر والانعتاق. مع ميلٍ واضح إلي غنائية أسيانة، وإلي تقنية تكرار فقرات سردية بعينها مع التنويع في كل فقرة علي نغمة مختلفة، وتتخذ أغلب النصوص شكل الأمثولة المجازية، التي قد تنتهي بعبارة تلخص المستفاد منها. رغم ما يعدنا به الغلاف والعنوان، فمن غير الممكن العثور علي ملامح وتفاصيل وحكايات من ثورة يناير في هذا الكتاب، بقدر ما سنجد صداها الشعري أو أحلامها الشاحبة وقد تجردت من اللحم والدم، حتي تُحلق في أفق بلاغي يحكمه خطاب وطني تقليدي قد لا يبتعد كثيراً عن أي خطاب وطني في إحدي الخُطب أو البيانات، حتي أن النص الأخير في المجموعة كان عنوانه: بيان، وهو رسالة إلي مصر من أبنائها، وينتهي بدعاء أو شعار: عاشت مصر حرة.
صدر لكرم صابر عدد محترم من المجموعات القصصية في السنوات القليلة الأخيرة، وهو محامٍ وناشط حقوقي، وتتسم كتاباته بتوجه سياسي علي رومانسيتها. ربما لذلك استجاب علي وجه السرعة لأحداث الثورة، ولفكرة اقترحتها عليه إحدي الصديقات كما يذكر في التنويه المتصدر للكتاب، بأن يتناول أحداث ميدان التحرير بعيداً عن التحليلات المألوفة والمنتشرة إعلامياً.
في أكثر من 20 قصة وأكثر من 150 صفحة، نتابع مشاهد متناثرة من أحداث الثمانية عشر يوماً التي عاشتها مصر، ولكن دون الاكتفاء بصورة قلب الأحداث في ميدان التحرير، ولكن تحريك الكاميرا إلي الأطراف، مع سائقي التاكسي والشوارع والمقاهي المحيطة بالميدان، واللجان الشعبية في المناطق البعيدة، وأحوال الناس في البيوت خلال تلك الفترة. أبطال أغلب القصص ليسوا شباباً، وهنا إحدي المفارقات الأخري لهذه المجموعة، بل أغلبهم ثوار سابقون أو بعض من باعوا القضية أو عشاق باحثون عن بقايا قصص حبهم في زحام الميدان، والأهم أنهم آباء وأمهات مترددون بين رعاية العيال وهموم الأكل والعمل والدراسة وتأمين البيت وبين الاستجابة لنداء التحرير.
علي خلفية الأخبار المرعبة والتصريحات ومشاهد مخيفة وذعر في الشوارع، نري نغمات حزينة لراوٍ تكاد تتكرر ملامحه الأساسية، يتساءل عما وراء الستار، أو يحاول الاغتسال من الكراهية والباطل، أو يبحث عن رفاقه القدامي،.... لا حكايات مكتملة ولا شخصيات ذات ملامح واضحة، نشعر في قصص كرم صابر أننا أمام مدينة أشباح، تحول كل شخص فيها إلي عنصر تهديد حتي الزوجة بالنسبة لزوجها أو الشاب تجاه أبيه. يتم تقديم كل في جو رومانسي، تعززه لغة ناعمة، تضع الفصحي بجانب العامية علي ألسنة أبطالها بلا مشاكل، حيث تتكلم الشخصيات بلغة مفارقة للواقع تتحدث عن الخلاص والتطهير والانعتاق!
لا تنجرف هذه القصص وراء مشاهد التهليل والهتاف والأعلام، بقدر ما يستهويها صمت الليل والعلاقات الأسرية المرتبكة، والهزيمة الروحية المتمكنة من جيل خلّف وراءه أهم أيامه وربما أجمل أحلامه.
جاء مقصد محمد فتحي في كتابه: كان فيه مرة ثورة، واضحاً ونبيلاً، فهو لا يريد سوي أن يُسجل تجربته بالثورة، ليقرأها طفلاه عندما يستطيعان ذلك ذات يوم، وكأنه لا يضمن أن يتم تزوير التاريخ مرة أخري فيسرع إلي تسجيل نسخته أو روايته عن الثورة، قبل أن يطمسها أي سلطة مستقبلية، وكأنه وهو يفخر بمنجزات الثمانية عشر يوماً يشعر بالحذر والقلق حيال المستقبل وما قد يُسفر عنه. لذلك كله ينهمك محمد فتحي، بلغة الحواديت الأقرب إلي العامية، في سرد وقائع أيام الثورة، من طأطأ لسلامه عليكو، باحثاً عن جذورها أو إرهاصاتها رجوعاً إلي عام 2005، وغير غافل عن واقعة خالد سعيد وأصدائها، وصولاً إلي لحظة الفرح الأقصي عند التنحي. يحكي فتحي التجربة من موقعه، وبضمير المشارك في الأحداث والمعلق عليها معاً، وقد نعتبر كتابه هذا وثيقة أو شهادة لن تختلف كثيراً عن شهادة ملايين الشباب ممن شاركوا في الثورة، إلا ربما في خفة الروح والدعابة غير المفتعلة والتي تتسرب بين سطور الكتاب كله. الجزء الأعظم من الكتاب هو تلك الحدوتة التي يحكيها الأب محمد فتحي لابنيه، ثم تلا ذلك بعض المقالات التي كُتبت بالتزامن مع الأحداث، مقالات اشتغلت بالأساس علي الثورة من خلال نافذة الفيس بوك، فتقرأ عن أسطورة الراجل اللي واقف ورا عمر سيلمان، وأهم الاستاتيوسات والتعليقات حول ذلك، ولم ينس أيضاً فتحي أن يورد أهم 100 هتاف انطلقت خلال الثورة.
هذا سجل تدوين مهم وصادق في مشاعره، لا يدعي تحليلا عميقاً ولا يفرض أطروحات ضخمة. حكاية رجل بسيط، وإن امتلك أدوات الكتابة، فهو لا يميز نفسه عن أي شخص آخر، لديه الجرأة للإقرار بأنه سخر من الثورة في بدايتها قبل أن يتورط بكل جوارحه، ولديه الشجاعة لكي يُحيي الفريق طيّار مبارك بطل الضربة الجوية، قبل أن يعلن أسفه علي ما آل إليه حال البلد في عهده رئيساً.
محمد عبد النبي
الشيطي والثورة
وما بينهما من خطوات
تقتضي القراءة المثمرة لكتاب أحمد زغلول الشيطي، وغيره من الكتب المماثلة، أن يسلم القاريء في البداية بأمرين، أولهما هو أن هذا الكتاب لاينبغي النظر إليه بوصفه كتابا في التاريخ، يسجل فيه المؤلف أحداثا معينة مستندا إلي وثائق معتمدة ومراجع رصينة، فهذا إجراء يضطلع به المؤرخون والباحثون الحريصون علي توثيق عملهم وهو »التأريخ«. والأمر الثاني هو أن طبيعة الكتاب والظروف المحيطة بإعداده تسمح، بالضرورة، بالتداخل والاختلاط بين رصد المشاهد والاشتراك فيها وتسجيلها، والتعبير عن مشاعر وهواجس شخصية وتمنيات وتوقعات وأحاسيس بالبهجة أو الخوف أو الصدمة.
مع التسليم بهذين الأمرين، كان يمكن أن نقرأ الكتاب بوصفه مجموعة خواطر حول ثورة 52 يناير 1102، لولا أن المؤلف يوجهنا إلي قراءة النص باعتباره »يوميات من ميدان التحرير«، وهو العنوان الفرعي للكتاب الذي يرد تحت العنوان الرئيسي علي الغلاف، وهو: مائة خطوة من الثورة. والمائة خطوة هي المسافة ما بين البناية التي يسكن فيها المؤلف، وميدان التحرير الذي كان الساحة التي شهدت الحشود الجماهيرية الضخمة المعتصمة في المكان، والخارجة منه، والداخلة إليه في حركة احتجاجية ثورية لم تشهدها مصر طوال تاريخها، بل لم يشهد مثلها أي مجتمع آخر. وشرفة المسكن (البلكونة) هي المرصد الذي يشاهد منه الكاتب حركة الناس، كما يشاهد جانبا من ميدان التحرير الذي تأتيه منه أصوات طلقات الرصاص أحيانا، ودخان القنابل المسيلة للدموع التي كانت قوات الأمن في الأيام الأولي للثورة تستخدمها لقمع المتظاهرين، أحيانا أخري.
في المقطع الثاني من الكتاب، وتحت عنوان »الأيام الأولي: 52 يناير: 1 فبراير »يكتب الشيطي قائلا: »لم أكتب عن هذه الفترة أي يوميات، أنا أصلا لا أكتب يوميات، فكتابة اليوميات تتضمن التعامل مع مادة ملتهبة في طور التشكل، وأنا أفضل الانتظار، لظني أن الانتظار مدعاة لصفاء المادة من الشوائب، وللمزيد من التأني والفهم.
وهنا يحق للقاريء أن يتساءل: إذا كان الشيطي لم يكتب عن الأسبوع الأول للثورة يوميات، وأنه لايكتب يوميات أصلا، فلماذا كتب هذا النص تحت عنوان »يوميات«؟
علي أية حال، ف »يوميات« الشيطي لاتبدأ من يوم 52 يناير، بل من قبل ذلك بعدة أيام، وتحديدا يوم الاثنين 3 يناير، حين شارك في وقفة صامتة في وسط القاهرة مع عدد من المثقفين للتعبير عن احتجاجهم علي تفجير كنيسة القديسين في الاسكندرية، والذي وقع مع فجر اليوم الأول من العام الجديد. ولعل هذه الوقفة الاحتجاجية كانت الارهاصة التي سبقت اندلاع المظاهرات يوم 52 من الشهر نفسه وتصاعد الأحداث دراماتيكيا، حتي تنحي رأس الدولة يوم 11 فبراير، وهو التاريخ الذي تقف عنده اليوميات.
يذكر الشيطي أنه رغم كونه محاميا، فهو لم يسبق له أن شارك في أي من الوقفات الاحتجاجية أو المظاهرات التي كانت تقوم بها نقابة المحامين التي لاتبعد كثيراً عن مسكنه، وكان يوم 13 يناير هو اليوم الذي يشارك فيه في أول مظاهرة في حياته، حاملا لوحة رسمها الفنان أحمد اللباد تحمل العلامة المرورية التي تعني عدم إمكانية الرجوع إلي الخلف، إشارة إلي أن الحركة الثورية لايمكن أن تعود القهقري. فالتراجع ممنوع. وكان انخراط الكاتب في المظاهرات ودوي الهتافات الأولي في الميدان تمثل تقاطعا مع نوعية الحياة اليومية التي لطالما أصابت الكاتب بالملل. فالأحوال والمنظومة اليومية الرتيبة التي كان يطل عليها يوميا من شرفته تغيرت الآن وسقطت، وصارت الأيام الأولي للثورة تمثل بالنسبة له عطلة سعيدة غابت فيها مشاهد السيارات الفارهة التي تنزل منها كل مساء نساء ذوات جوبات ساخنة ليدلفن إلي الديسكو أو الريستوران الملاصق للبناية التي يسكن فيها، كان تحرك الآليات العسكرية علي الأرض يوم 13 يناير، ودوران الطائرات فوق الميدان، والهتافات الصاعدة لعنان السماء، واللوحات المعبرة التي رسمت لكي تحمل في اليوم التالي وتدخل في خضم حشود الميدان، بمثابة النبوءة بأن الحياة لم تعد، ولن تعود، كما كانت.
بين أول فبراير والحادي عشر منه، كانت الأحداث تتصاعد في الميدان والشوارع المحيطة به في وسط القاهرة الخديوية، وهو المجال المكاني الذي يتحرك فيه صاحب اليوميات مشاركا ومراقبا، حاملا حس الأديب الذي يتأمل الشخصيات ويدخل معها في حوارات تكشف عن كم الأسي والكبت داخل النفوس، والتطلع إلي لحظة الخلاص من الطغمة الفاسدة التي ظلت عقودا تنهب خير البلاد وتقمع العباد. والكاتب يلوذ بمسكنه كل يوم مرة أو اكثر إما للراحة أو لتسجيل اليوميات. وفي خضم تصاعد الأحداث، من اجتياح راكبي الجمال والأحصنة لميدان ودهس المتظاهرين، إلي ظهور جماعات مسلمة تحركها القوي المضادة للثورة وفي لحظة من لحظات احتشاد الميدان بالمتظاهرين، وقدوم مؤيدي مبارك من ناحية شارع شامبليون وميدان عبدالمنعم رياض، يشعر الكاتب بالخوف من حدوث التحام بين الجانبين، فتقع الكارثة. ويزداد خوفه حين تمرق الطائرة المروحية علي ارتفاع متوسط فوق الميدان. يتخيل الكاتب أن المندسين من نظام مبارك قد يدخلون إلي الميدان بسلاحهم الأبيض، ويحولون الاحتجاج إلي فوضي، ويطعنون المتظاهرين لتقع دوائر الدم التي ربما تحولت إلي بحيرات.
في ثنايا اليوميات، يكتب المؤلف عبارات تعكس حالة القلق والتوجس التي عشناها جميعا، ومازلنا نعيشها حتي الآن.. ففي اليوم السادس عشر من الانفجار الشعبي يطل الكاتب من شرفة مسكنه، مشحونا بالخوف من أن يتحول ميدان التحرير إلي »مزار للنزهة والتقاط الصور التذكارية«، ويسأل نفسه عما اذا كانت الحشود التي تملأ الميدان سوف تتحول إلي »تظاهرة تشبه المولد الشعبي«.
هذا التداخل بين ما يحدث في الميدان وما يجتاح النفس من مشاعر هو ما يمنح نصوص هذا الكتاب الحيوية التي سيلحظها كل من سيهتم في المستقبل من الأجيال القادمة بالبحث في أحداث الثورة. فهذه اليوميات، رغم أنها ليست عملا تأريخيا، ولا تحقيقا صحفيا، وليست بحثا علميا، يمكن أن تمثل منبعا ثريا لاغني عن الرجوع إليه في قادم الأيام والسنين.
من أجمل يوميات الكتاب يومية الأربعاء 9 فبراير، اليوم 61 من عمر الثورة، حيث استقر الكاتب في مسكنه صباحا ليكتب مشاهدات ومشاعر. في هذه اليومية نقرأ عن نكات برزت تسخر من الرئيس والفاسدين، وهتافات تجسد عبقرية الشعب، وكلمات كتبت علي لافتات يحملها النساء والرجال والصغار، بعضها يعبر عن شعور عام، وبعضها عن حالات شخصيةوأغان وطنية استدعتها الحشود من أزمنة ماضية، شعوراً منها أنها تعبر عن اللحظة، ومطالب مسجلة علي لافتات متناثرة في أنحاء الميدان.
كل ذلك مسجل في يومية الأربعاء 9 فبراير، بالاضافة إلي وصف الحشود الثابتة في الميدان، وعناصر الجيش التابعة هناك، والتي بدأ البعض يشعر بغموض موقفها. ورغم ذلك فالمؤلف يذكر أنه لم يخرج من البيت طوال هذا اليوم. وقد نجد لذلك تبريراً هو أن ما يكتبه صاحب اليوميات في يوم معين لايعبر بالضرورة عن أحداث هذا اليوم بالذات، وإنما قد يكون محصلة لمشاعر ومشاهدات متراكمة من أيام سابقة، ووجد الكاتب نفسه يستحضرها في هذا اليوم المعين.
تصل مشاعر الكاتب إلي أوجها في يومية جمعة التحدي. فيذكر أنه في مساء ذلك اليوم، وعندما أطل عمر سليمان علي الناس عبر شاشات التليفزيون، وأعلن أن الرئيس مبارك قرر التخلي عن منصبه كرئيس للجمهورية، لم يسمع البيان كاملا علي ما يعتقد، وأن البيان تجمد عند كلمة »تخليه«، »لأنني ربما طرت أو قفزت أو تجمدت لأني في زمن لا أقدره، وأظنه غير قابل للتقدير، كنت أقف في البلكونة وأنا أصرخ بأقصي صوتي: تنحي، رافعا ذراعي بقوة منتشيا بالنصر«
فتحي أبوالعينين
الثورجية..
جيل الأحلام المجروحة!
لاتزال "الذكريات الصغيرة"... و" الشهادة علي التاريخ" مصدرا هاما للتأريخ، صحيح أن المؤرخين والأكاديميين يقللون من أهمية الاعتماد عليها. ولكن تكسب هذه الشهادات أهميتها من غياب الوثائق أو تغيبها بمعني أصح. ربما هذا ما جعل الأحداث الكبري في مصر " خارج التاريخ"، فقط التاريخ الرسمي الذي تريده السلطة ، أو تريدنا أن نعرفه. الحروب والثورات والمعاهدات ، والتمردات نماذج من تاريخنا المغيب، جميعها حتي الآن أحداث بلا وثائق، أو في خزانات الأسرار التي تملك السلطة وحدها مفاتيحها، لذا تكتب التاريخ كما تشاء ووقتما تشاء أيضا!
كتاب " الثورجية" الصادر مؤخرا في دار الشروق للكاتبة الصحفية هناء زكي من هذا النوع من الكتابات، هي تؤرخ لفترة هامة من تاريخ مصر، ليس تأريخا أكاديميا موثقا، بقدر ما هو سرد فني رائع لمجموعة الذكريات الصغيرة. تكتب عن كفاح جيل الثمانينيات في الجامعة المصرية، وهو الجيل المظلوم ثقافيا وسياسيا، إذ جاء بين مفرمتين: جيل الستينيات وامتداها( السبعينيات) وهو الجيل الذي صنعته هزيمة 67 وكافح لتخطي الهزيمة، حتي نصر أكتوبر المنقوص سياسيا ... وبين جيل التسعينيات حيث نهاية الأحلام الكبري وإعلان نهاية القومية العربية مع غزو العراق للكويت. جيل الثمانينيات كان يلملم جراحه بعد معاهد كامب ديفيد، وتغيير الخطاب السياسي والإعلامي تجاه العدو التاريخي الذي اصبح ضيفا دائما كسائح أو في المعارض الصناعية....
هذه الفترة القلقة، فترة الأحلام المجروحة، هي البطل الرئيسي في كتاب " الثورجية". ورغم أن الكتاب سيرة ذاتية إلا أن تقطيع الكتاب كقصص منفصلة- متصلة يرسم في النهاية بورتريه لبعض أفراد جيل الثمانينيات لم يلقي عليهم الضوء الكافي. كما يثبت الكتاب أن كفاح " الشباب" ضد الطغاة لم يتوقف لحظة واحدة، وأن ثورة 25 يناير هي نتاج كل هذا النضال، إذا طبقا نظرية " أثر الفراشة" التي تري أن حركة جناح فراشة في القطب الشمالي يمكن أن تحدث تاثيرا في القطب الجنوبي. وبالتالي حركة " جمعية الدراسات العربية " التي تأسست 1982 كأسرة طلابية في كلية الحقوق جامعة القاهرة لها دور وتأثير بالغان في الثورة المصرية الآن، فضلا عن " خلق حالة غير مسبوقة في تاريخ الحركة الطلابية في مصر، ادت إلي حدوث حراك سياسي واجتماعي تأثرت به كل القوي والتيارات السياسية داخل الجامعة وخارجها".
الكتاب إذن وثيقة هامة علي هذه الفترة يمكن من خلاله أن نكتشف كيف جرت تحولات أفراد الجيل؟ وكيف صعد فتحي سرور إلي منصبه بهذه السرعة، وحكاية يحيي الجمل.
نقرأ حكاية تنظيم ثورة مصر، وانتفاضة الأمن المركزي، وحكاية سليمان خاطر، وكفاح الطلاب في مختلف جامعات مصر وعلي اختلاف انتماءاتهم السياسية من أجل إلغاء الحرس الجامعة ، حكاية الباخرة أكيلي لاورو..
الكتاب أيضا يفتح الكثير من الملفات الشائكة، والقضايا القديمة المؤجلة .. تكتب المؤلفة عن سليمان خاطر الجندي المصري الذي أطلق النار علي إسرائليين اقتحموا الحدود المصرية وصعدوا أحد الجبال الممنوع علي أحد الصعود عليها، في التحقيقات سألوه عما جري فقال: " انا راجل واقف في خدمتي، وأؤدي واجبي وفيه أجهزة ومعدات ما يصحش حد يشوفها، والجبل من أصله ممنوع أي حد يطلع عليه سواء مصري أو أجنبي، ده أمر وإلا يبق خلاص نسيب الحدود فاضية وكل إللي تورينا جسمها نعديها". صدر الحكم علي خاطر بالسجن ، ثم نقل الي المستشفي بحجه علاجه من البلهارسيا، وفي اليوم التاسع وجدوه مقتولا، وقالوا أنه انتحر ، وطالب أهله بتشريح الجثة وتم رفض الطلب. وقد زار وفد من الجمعية والدة خاطر ( إمراة شديدة الحزن، شديدة الكبرياء شديدة الفخر بابنها الشهيد البطل) حسب وصف المؤلفة، أما أخوه فقال لهم: " لقد ربيت أخي جيدا وأعرف مدي إيمانه، لا يمكن أن يشنق نفسه، لقد قتلوه في السجن".. ألم يمكن أن يكون الكتاب بداية لفتح قضية سليمان خاطر مرة أخري: هل قتل أم انتحر؟ أو السؤال بصيغة أخري: من قتل سليمان خاطر؟
أسئلة عديدة يحاول الكتاب أن يجد لها إجابة: كيف صعد فتحي سرور إلي منصبه؟ تحكي المؤلفة أن عام 1984 شهد تولي فتحي سرور عمادة كلية الحقوق، وعلي الفور استدعي أعضاء جمعية الدراسات العربية ، قابلهم بابتسامته المعهودة، وفي رفق ومودة طلب منهم أن يبلغوه بموعد أي مظاهرة ينوون القيام بها، حتي يتسني له الترتيب الأمني اللازم!
وكان أول صدام له معهم أثناء الإعداد لمعرض حول لائحة 1979 التي نصت علي منع تكوين اتحاد طلاب الجمهورية، وإعطاء دور كبير للحرس الجامعي. وفي ندوة عقدت بالجامعة ليتحدث سرور عن اللائحة، طلب إخلاء المدرج من الطلبة غير الحقوقيين، ورفض الطلبة الأمر معلنيين أن إلغاء اللائحة مطلب كل طلبة الجامعة ..فهتف الطلاب: آداب وحقوق ..حركة طلابية واحدة! فتحي سرور يا فتحي سرور اللايحة ضد الدستور.. وخرجت مظاهرات استمرت اسبوعا كاملا ، وانزعج سرور من تحميل السلطة له مسئولية خروج المظاهرات!
ربما كانت هذه السنوات ايضا بداية لتوغل الجماعات الدينية ، التي دخلت في صراعات حادة مع الطلبة الناصريين ، وخاصة في الفن، والمفارقة أن الدكتور نعمان جمعة رئيس حزب الوفد كان يساند هذه الجماعات في موقفها ضد الفن ، تحكي المؤلفة عن الصراع بين مسرح " حقوق" ومسرح " تجارة" وبدايات خالد يوسف وخالد الصاوي وصلاح عبد الله وهاني رمزي ومحمد شومان، ومحمد هنيدي، ومحمد سعد الذي قدم مسرحية " الكاتب والشحات" التي قدمها الطلبة متحدين سطوة الجماعات الدينية وبإمكانيات محدودة ، وعندما نجحت المسرحية قررت رعاية الشباب تقديم جوائز وشهادات التقدير للمشاركين في العروض ولكنهم اكتشوا أن بطلي مسرحية حقوق محمد سعد وإيهاب رفعت ليسوا طلابا بها.. حكايات عديدة تنقل لنا جو الفترة ..واسماء كثيرة لمعت فيما بعد مثل ناصر أمين ، زياد بهاء الدين، حافظ أبو سعده، محمد زارع ، عزة سليمان، هدي عبد الوهاب، محمد الغمري ، أحمد رجب..نقرأ حكاياتهم وقصص هروبهم وتعذيبهم ...بعد مضي ربع قرن علي هذه الوقائع في انتظار شهادات أخري لتيارات سياسية حول هذه السنوات حتي لا يضيع "التاريخ" أو تكتفي السلطة وحدها بكتابته!
محمد شعير
من ثورة القصيدة إلي قصيدة الثورة:
يوميات سياسية
في ثياب شعرية
منذ الحقبة السبعينية بدأ الشعراء في ما يشبه الهجرة الجماعية نحو قصيدة النثر، وقاموا بالتأسيس لقصيدة نثر مصرية تمارس الثورة علي المنجز التقليدي الراسخ لأجيال متعددة، فكانت ثورة شعرية وجمالية مبكرة، أحدثت تحولا هائلا في المفاهيم الشعرية والجمالية. وإن بدا في نظر البعض أن القصيدة السبعينية نخبوية ومتعالية علي التلقي الشعبوي الواسع، فإنها رغم ذلك، وربما بسببه، استطاعت أن تؤسس لقوانينها الخاصة حتي استقرت ورسخت، فكانت ثورة يقودها الثوار بأنفسهم، وسرعان ما جاءت الأجيال التالية، وحتي السبعينيون أنفسهم، وبعد أن استقرت الثورة الشعرية، ليتجهوا نحو قصيدة نثر شعبية واسعة الاستقبال وأكثر جماهيرية من النص المؤسس، وكان كريم عبد السلام واحدا من هذه الأجيال الجديدة، عبر دواوينه المتعددة.
وأخيرا وبعد ثورة 25 يناير أطل علينا كريم بديوانين متزامنين في النشر تقريبا، وهما: "كتاب الخبز"، و"قنابل مسيلة للدموع". ربما يشير تزامن إصدار الديوانين، في الأحوال العادية، إلي تشابه التجربة، ولكنهما، وهذه هي المفارقة، ينتميان إلي مفهومين متغايرين تماما في إنتاج الشعرية،حتي تظن أنهما لا ينتميان إلي مشروع شعري واحد، وهنا تجدر الإشارة إلي أن الديوان الأول كتاب الخبز كتب قبل الثورة ونشرت قصائد منه في الجرائد والمجلات، في حين كتب الثاني »قنابل مسيلة للدموع« بالتزامن مع أحداث الثورة (25 يناير) وتعبيرا عنها.
ينتمي الديوان الأول إلي ما أعتبره ثورة الشعر في حين ينتمي الثاني إلي شعر الثورة، والذي انهمر علينا من كل حدب وصوب. وفي ظني أن الأول جاء، وبسبب انتمائه للثورة الجمالية الباكرة، عذبا ورائقا وأكثر تعبيرا عن المهمشين، وربما عن روح الثورة السياسية الأخيرة واستباقا لها، دون أن يفقد قوانينه الجمالية أو يتنازل عنها. في حين جاء الثاني مباشرا، ينتمي إلي السياسة أكثر من انتمائه إلي الشعر، وربما لا أبالغ إذا قلت أنه ينتمي، دون قصد، إلي الثورة المضادة للثورة الشعرية والجمالية التي جاهدت أجيال من الشعراء لإنجاحها، وليس كريما وحده الذي تورط في إنتاج هذا النمط من "الشعر" المباشر، الذي يقترب من الخواطر أكثر من اقترابه من الشعر، وكأننا بإزاء ردة علي المنجز التجديدي، ونزوع نحو الأصولية الجمالية.
تتجلي هذه المباشرة التي أشرنا إليها في العديد من نصوص الديوان "قنابل مسيلة للدموع"، فمثلا يقول في نص "بفضل تلك الأصوات الواهنة": "ونجحت الثورة/ بفضل تلك الأصوات الواهنة لأمهاتنا وجداتنا/ اللاتي جلسن علي الأرصفة/ يقدمن الماء والإرشادات للثوار" كما يقول أيضا في قصيدة "مؤلم جدا": "بينما ننشغل بمساعدة الجرحي/ الذين سقطوا برصاص القناصة المختبئين/ كانت طليعة الشرطة تنهب الناس وتروعهم" ولا اعتراض عندي علي مضامين هذه المقاطع، فهي كلام جميل وحقيقي، ولكن في الحدود المعلوماتية التي ينطلق منها وينتهي إليها، ولكنها تكاد أن تخلو من أي تشكيل جمالي يمكن الحديث عنه أو تحليله وتأويله، فلن يجد القارئ من سبيل أمامه سوي أن يقول: نعم هذا حقيقي. ولكنه لن يجد به ما يدهشه ويثير لديه الأسئلة والهواجس والقلق، فهي نصوص تقدم حقائق واحدية الدلالة، لن تجد بها المراوغة أو المخاتلة التي عهدناها في الشعر عموما، وفي قصيدة النثر خصوصا، وعند كريم عبد السلام في جل دواوينه، وتحديدا في ديوانه الفاتن "كتاب الخبز".
هذا المنحي المباشر يطل علينا، أيضا، من نص "لا غفران للقتلة" الذي تطفح المباشرة عليه بدءا من عنوانه، يقول: " لا فائدة من البكاء علي اللبن المسكوب/ دعونا نبدأ صفحة جديدة/ وما فات مات/ هكذا خرج ينادي أزلام الديكتاتور/ ويخاطبون الثوار الذين يصنعون الحرية بدمائهم/ وسرعان ما هب الثوار ليعلنوا كلمتهم/ لا غفران للقتله" إنه نقل حرفي تقريبا لازدواجية المشهد أثناء أحداث الثورة، فالثوار كانوا يتبنون خطابا، وأتباع مبارك الطاغية وأزلامه كانوا يتبنون خطابا احتوائيا مناقضا لخطابا الثوار، ولكن هذه المعلومات يعرفها القاصي والداني؛ فما الذي قدمه شاعرنا من جديد؟
تتكرر هذه المباشرة والخطابية في نص "أين يختبئون من أنفسهم" الذي يقول فيه: "الذين أطلقوا الرصاص المطاطي في العيون/ القناصة الذين صوبوا بِغِلٍ رصاص 12 ملي علي الرأس والقلب/ وسائقو المدرعات الذين تعمدوا دهس الثوار تحت العجلات/ اختفوا جميعهم فجأة/ واختبأوا في المجهول/ بينما ظل الشهداء شهداء/ والجرحي جرحي/ وأصبح المنافقون مؤيدين للثورة" فالشاعر كان منشغلا طوال الوقت بالطابع التدويني لأيام الثورة وأحداثها المفصلية، سواء في أثنائها أو بعد انتهاء الأيام الرئيسية فيها، وفي غمرة انشغاله وحماسته بالتسجيل نسي التشكيل، ولم يكترث كثيرا بشعرية الشعر.
لا شك لدي في أن كريم عبد السلام واحد من أهم شعراء قصيدة النثر المصرية، ولو لم يكتب سوي ديوانه الفاتن "كتاب الخبز" فإنه يكفيه ليحتل مكانة مهمة في مسيرة قصيدة النثر المصرية، ولعل هذا ما دفعني إلي القسوة النقدية، والاتجاه نحو النقد المعياري، وإصدار أحكام قيمة قد تكون خاطئة، رغم أن الكثيرين ساروا في موضة الكتابة عن الثورة، فأنتجوا نصوصا بالغة الرداءة، ولكني لم أكن لأكترث بهم، لولا أنني اندهشت أن يقع كريم، وهو الشاعر الواعي، في هذا الفخ.
لقد أفسد نظام الرئيس المخلوع الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية، ولكن الأدب المصري ظل نائيا بنفسه بعيدا عن هذا الانحطاط الذي طال كل مناحي الحياة المصرية، وظل محتفظا بقوانينه الصارمة في ما يخص أدبية الأدب وجماليته، وحتي في تعاطيه مع الأوضاع السياسية كان يحافظ علي قوانينه الصارمة تلك، علي خلاف غيره من الفنون التي وقعت في معظم منتجاتها في شرك السطحية كالسينما والغناء والدراما التليفزيونية، والتي كانت تصيب متلقيها بحالة من العته والتخلف، وأظنه ليس مقبولا أن يتورط الأدب الآن، وبعد ثورة 25 يناير، في ما ظل طوال الحقب الماضية يقاومه.
عمر شهريار


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.