أعلن المجلس الانتخابي الهولندي أمس الجمعة النتائج النهائية للانتخابات البرلمانية المُبكرة التي شهدتها البلاد نهاية شهر أكتوبر المُنصرم لتؤكد فوز حزب "الديمقراطيون66" (D66) الليبرالي الوسطي برئاسة روب يتين، متفوقاً على "حزب من أجل الحرية" (PVV) اليميني المتطرف بزعامة رئيسه خيرت فيلدرز الذي فاز بالانتخابات السابقة عام 2023. ماذا حملت نتائج الانتخابات؟ وحسم "الديمقراطيون 66" الفوز ب26 مقعداً برلمانياً، وهو نفس عدد المقاعد التي حصل عليها "من أجل الحرية"، إلا أن يتين تغلب على فيلدرز بفارق 29,668 صوتاً وهو ما يمنح حزبه الأفضلية في مفاوضات تشكيل الحكومة الجديدة على ضوء نتائج انتخابات المجلس الذي يبلغ إجمالي عدد نوابه 150. وتُشكل النتائج المُعلنة مفاجأة خلافاً لما تنبأت به جميع استطلاعات الرأي الهولندية خلال الأشهر الماضية وحتى الأسابيع القليلة قبل النزال الانتخابي، خاصةً وأن حزب فيلدرز كان قد حسم اقتراع 2023 دون تحقيق أغلبية برلمانية ساحقة تمكنه من الحكم مفرداً. وقد أُجريت الانتخابات المبكرة بناءً على رغبة فيلدرز نفسه إثر انسحاب حزبه من التحالف الحكومي السابق رداً على فشله في فرض قوانين متشددة بشأن المهاجرين وطالبي اللجوء إلى هولندا. وكان حزب فيلدرز قد فاز ب37 مقعداً مقابل تسعة مقاعد فقط حققها "D66" بانتخابات 2023. ضم التحالف الوزاري الهولندي السابق برئاسة التكنوقراطي المستقل ديك سخوف أحزاب "من أجل الحرية" (PVV) و"حزب الشعب من أجل الحرية والديمقراطية" (VVD) الممثل ليمين الوسط، وحزب "العقد الاجتماعي الجديد" (NSC) (يمين وسط)، وحزب "حركة المزارعين والموطنين" (BBB) اليميني أيضاً، بحكومة استغرق التوصل إليها سبعة أشهر كاملة عقب الانتخابات السابقة، حيث ارتضى فيلدرز التنازل عن رئاسة الوزراء رغم فوز حزبه بانتخابات 2023 وذلك نزولاً عند رغبة بقية أحزاب الائتلاف بعدم تولي قيادة الحكومة. خريطة جديدة للقوى في الحكومة وخارجها عُرف الائتلاف الحكومي الهولندي السابق بقيادة حزب فيلدرز بال"أكثر يمينية" في تاريخ البلاد، إلا أن خسائره الانتخابية الحالية لا تعني بالضرورة وضع حد للتوسع اليميني المتطرف برقعة السياسة الهولندية. ويشير مراقبون ومحللون هولنديون إلى أن ما حدث يُظهر تحولاً في أصوات كتلة من الناخبين اليمينيين المتطرفين لانتخاب أحزاب يمينية متطرفة أخرى، ولكنها أقل تطرفاً من حزب فيلدرز. وتزامنت خسائر "من أجل الحرية" (PVV) مع مكاسب حزب "الليبراليين المحافظين" (JA21)، الذي يعتبره البعض حزباً "غير ديمقراطي" يمثل "نسخة مخففة" من حزب فيلدرز، حيث فاز "الليبراليون المحافظون" بتسعة مقاعد برلمانية صعوداً من مقعد واحد في الانتخابات السابقة. كذلك يرى مراقبون أن سياسات "الديمقراطيون66" (D66) تتماثل في مواضع كثيرة مع الأحزاب اليمينية المتطرفة حول قوانين الهجرة واللجوء، على الرغم من تقدمية الحزب فيما يتعلق بملفات أخرى كالحقوق الفردية والاقتصادية. وحل حزب "الشعب من أجل الحرية والديمقراطية" (VVD)، والذي يمثل يمين الوسط، في المركز الثالث برصيد 22 مقعداً، وهو حزب ليبرالي محافظ يسعى هو الآخر إلى حرمان الأجانب المقيمين في هولندا بشكل شرعي من امتيازات الضمان الاجتماعي الكامل، كما يريد إلغاء ازدواج الجنسيات وترفض زعيمته ديلان يشيلجوز-زيجيريوس المشاركة في أي حكومة تتضمن اليسار. وحقق "النداء الديمقراطي المسيحي" (CDA)، الذي يمثل يمين الوسط، مكسباً كبيراً بحلوله في المرتبة الخامسة إثر فوزه ب18 مقعداً ارتفاعاً من خمسة مقاعد في برلمان 2023. خسائر فيلدرز لا يواكبها صعوداً يسارياً، حيث حل تحالف "الخضر/العمال" (GL-PvdA) اليساري بالمرتبة الرابعة برصيد 20 مقعداً هبوطاً من 25 مقعداً فاز بها خلال الانتخابات السابقة. ودفعت تلك النتيجة زعيم التحالف اليساري والمفوض الأوروبي السابق، فرانس تيمرمانز، إلى الاستقالة من منصبه واعتزال العمل السياسي الهولندي بعد الهزيمة بالنزال الذي سعى للفوز به وليس مجرد تحقيق زيادة بعدد مقاعده البرلمانية. أول رئيس وزراء مثلي الجنس في هولندا؟ فوز (D66) بالانتخابات الهولندية دون الحصول على أغلبية لا يضمن تشكيل الحزب للحكومة ولا قيادة زعيمه لها، ولكن يمنحه الأسبقية في مفاوضات تشكيل تحالف حكومة ائتلافية جديدة. على الرغم من ذلك، تظل إمكانية تولي يتين رئاسة الحكومة قائمة، وهو ما سيجعله أصغر رئيس وزراء (38 عاماً) في تاريخ هولندا. كذلك قد يصبح يتين أول رئيس وزراء هولندي مثلي الجنس علناً في تاريخ البلاد، حيث عبّر سابقاً عن هويته الجنسية في عدد من المنشورات على وسائل التواصل الاجتماعي كما أعلن خطبته على لاعب الهوكي الأرجنتيني نيكولاس كينان في نوفمبر عام 2024. من هو روب يتين؟ وبدأ يتين، الحاصل على ماجستير الإدارة العامة، مسيرته السياسية عام 2010، قبل أن يتم انتخابه عضواً ممثلاً عن (D66) بمجلس النواب لأول مرة عام 2017. كذلك تولى يتين منصب وزير المناخ والنمو الأخضر بحكومة رئيس الوزراء الأسبق مارك روته عام 2022 قبل أن يتقلد زعامة حزبه في عام 2023. بحملة انتخابية عنوانها "نعم، يمكننا"، على غرار حملة الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما، استطاع يتين بحضوره وشخصيته الكاريزمية إقناع ناخبين جدد خلال الأسابيع القليلة الماضية. واكتسب يتين شعبية إضافية عقب مشاركته بالبرنامج التلفزيوني الهولندي الشهير "الأذكى"، الذي يتنافس فيه متسابقون هولنديون من المشاهير للإجابة على أسئلة وحل الألغاز. بحسب استطلاعات الرأي يثق 4% فقط من الهولنديين بالنظام السياسي بشكل عام. وفي مناخ سياسي يشهد ميل أحزاب الوسط إلى سياسات يمينية وخاصة فيما يتعلق بملف المهاجرين، لا يمكن اعتبار خسائر فيلدرز مكاسب لليسار أو حتى يسار الوسط. ليست أول مرة.. استحقاقات أوروبية مُبكرة وهزيمة الداعين إليها لقد ظن فيلدرز، مدعوماً باستطلاعات الرأي والميل الأوروبي العام وربما العالمي باتجاه اليمين واليمين المتطرف، أن بإمكانه الفوز بانتخابات مُبكرة بأغلبية تُمكنه من سن قوانينه بشأن الهجرة واللجوء السياسي ومراقبة الحدود الهولندية. ولكن على غرار وقائع سياسية سابقة في بريطانياوفرنسا أتت الرياح بما لا تشتهي سفن دعاة الانتخابات المبكرة، على اختلاف أهدافهم وأيديولوجياتهم. في بريطانيا عام 2016 استجدى رئيس الوزراء المحافظ آنذاك ديفيد كاميرون كتلة الناخبين اليمينيين بقرار عقد الاستفتاء على بقاء بلاده كعضو بالاتحاد الأوروبي، وذلك على الرغم من تأييده الشخصي للاتحاد. دخل كاميرون الاستفتاء مفعماً بإيمان قوي بأن الأغلبية العظمى من البريطانيين سيصوتون لصالح البقاء بالتكتل الأوروبي، لكن 52% من الأصوات رجحت كفّة الانفصال وهو ما تم بالفعل ودفع كاميرون لتقديم استقالته من رئاسة الحكومة بشكل فوري في يونيو من نفس العام. وفي صيف 2024، قرر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بشكل مفاجئ حل مجلس نواب بلاده وإجراء انتخابات مُبكرة إثر فقدان مرشحي حزبه "النهضة" صدارة التمثيل الفرنسي لصالح "التجمع الوطني" اليميني المتطرف بانتخابات البرلمان الأوروبي، ظناً منه بإمكانية تعويض تلك الخسارة عبر تحقيق أغلبية كان قد خسرها تحالفه الوسطي "معاً من أجل الجمهورية" في انتخابات البرلمان عام 2022. إلا أن نتائج قرار ماكرون جاءت كارثية على تحالفه وخاصةً بجولتها الأولى، بحلوله ثالثاً برصيد 21.2% من الأصوات بعد "التحالف الشعبي الجديد" اليساري برصيد 28.1% وبصدارة "التجمع الوطني" المدعوم بحزب "الجمهوريون" اليميني برصيد 33.2%. مخاوف قطاع كبير من الفرنسيين وخصوصاً أصحاب الأصول الأجنبية من احتمال قيادة اليمين المتطرف للحكومة نتج عنها تداركاً كبيراً بالجولة الثانية، حيث خرج 66.6% من الناخبين (أعلى نسبة تصويت فرنسي منذ عام 1997) لمنح التحالف الشعبي اليساري 159 مقعداً برلمانياً في المقدمة، تبعه تحالف ماكرون ب159 مقعداً، ثم "التجمع الوطني" ب142 مقعداً بالبرلمان البالغ عدد نوابه 577. حرمت تلك النتيجة اليمين المتطرف من الفوز، ولكنها أدت إلى خسارة تحالف ماكرون 81 مقعداً كما أنتجت برلماناً معلقاً أدخل فرنسا في دوامة سياسية مستمرة مذاك، أبرز مظاهرها تعاقب ما لا يقل عن أربع حكومات بقيادة أربعة رؤساء وزراء خلال أقل من عام ونصف العام، وسط مطالبات لأحزاب اليمين المتطرف وحتى بعض اليساريين باستقالة ماكرون وحل البرلمان مرة أخرى.