عيار 21 الآن بعد الانخفاض الحاد.. سعر الذهب والسبائك بالمصنعية اليوم الأربعاء بالصاغة    شعبة الدواجن: انخفاض البانيه 70 جنيها.. وتراجع كبير بأسعار المزرعة    «الشيوخ الأمريكي» يوافق على 95 مليار دولار مساعدات لإسرائيل وأوكرانيا وتايوان    مطالبات بفتح تحقيق دولي بشأن المقابر الجماعية المكتشفة في غزة    حكايات النجوم مع القلعة الحمراء.. ضحك ولعب وجد وحب    طقس اليوم.. شديد الحرارة نهارا مائل للحرارة ليلا والعظمى بالقاهرة 41    عاجل - يسكمل اقتحامه غرب جنين.. قوات الاحتلال داخل بلدة سيلة الظهر وقرية الفندقومية    نجم الأهلي السابق: هذا اللاعب هو الأفضل لقيادة الهجوم بدلًا من موديست    مشاهدة صلاح اليوم.. موعد مباراة ليفربول وإيفرتون في الدوري الإنجليزي والقناة الناقلة    البنتاجون: بدء البناء في ميناء مؤقت لإيصال المساعدات لغزة قريبا    تكساس إنسترومنتس تتجاوز توقعات وول ستريت في الربع الأول    موازنة النواب: تخصيص اعتمادات لتعيين 80 ألف معلم و30 ألفا بالقطاع الطبي    البنتاجون: هجومان استهدفا القوات الأمريكية في سوريا والعراق    اليوم، فتح متحف السكة الحديد مجانا للجمهور احتفالا بذكرى تحرير سيناء    بعد وصفه بالزعيم الصغير .. من هم أحفاد عادل إمام؟ (تفاصيل)    قناة «CBC» تطلق برنامج «سيرة ومسيرة» الخميس المقبل    بالخطوات .. تعرف على كيفية الاستعلام عن تأشيرة السعودية برقم الجواز 2024    رئيس البنك الأهلي: «الكيمياء مع اللاعبين السر وراء مغادرة حلمي طولان»    نتائج مباريات ربع نهائي بطولة الجونة الدولية للاسكواش البلاتينية PSA 2024    أيمن يونس: «زيزو» هو الزمالك.. وأنا من أقنعت شيكابالا بالتجديد    مصطفى الفقي: الصراع العربي الإسرائيلي استهلك العسكرية والدبلوماسية المصرية    إصابة العروس ووفاة صديقتها.. زفة عروسين تتحول لجنازة في كفر الشيخ    مصطفى الفقي: كثيرون ظلموا جمال عبد الناصر في معالجة القضية الفلسطينية    خطر تحت أقدامنا    التموين: تراجع سعر طن الأرز 20% وطن الدقيق 6 آلاف جنيه (فيديو)    حظك اليوم وتوقعات الأبراج الأربعاء 24/4/2024 على الصعيد المهني والعاطفي والصحي    بقيادة عمرو سلامة.. المتحدة تطلق أكبر تجارب أداء لاكتشاف الوجوه الجديدة (تفاصيل)    فريد زهران: دعوة الرئيس للحوار الوطني ساهمت في حدوث انفراجة بالعمل السياسي    بالأسماء.. محافظ كفر الشيخ يصدر حركة تنقلات بين رؤساء القرى في بيلا    تعيين أحمد بدرة مساعدًا لرئيس حزب العدل لتنمية الصعيد    موعد مباراة مانشستر يونايتد وشيفيلد في الدوري الإنجليزي والقناة الناقلة    الأزهر يجري تعديلات في مواعيد امتحانات صفوف النقل بالمرحلة الثانوية    من أمام مكتب (UN) بالمعادي.. اعتقال 16 ناشطا طالبوا بحماية نساء فلسطين والسودان    أداة جديدة للذكاء الاصطناعي تحول الصور والمقاطع الصوتية إلى وجه ناطق    القبض على المتهمين بإشعال منزل بأسيوط بعد شائعة بناءه كنيسة دون ترخيص    غلق شارع يوسف عباس بمدينة نصر وطرق بديلة هامة.. تفاصيل    3 أشهر .. غلق طريق المحاجر لتنفيذ محور طلعت حرب بالقاهرة الجديدة    مصرع سائق سقط أسفل عجلات قطار على محطة فرشوط بقنا    العثور على جثة شاب طافية على سطح نهر النيل في قنا    مسئول أمريكي: خطر المجاعة «شديد جدًا» في غزة خصوصًا بشمال القطاع    إعلام عبري: مخاوف من إصدار الجنائية الدولية أوامر اعتقال لمسؤولين بينهم نتنياهو    نشرة التوك شو| انخفاض جديد فى أسعار السلع الفترة المقبلة.. وهذا آخر موعد لمبادرة سيارات المصريين بالخارج    الارتفاع يسيطر.. سعر الحديد والأسمنت اليوم الأربعاء 24 إبريل 2024 بالمصانع والأسواق    تونس.. قرار بإطلاق اسم غزة على جامع بكل ولاية    فريد زهران: الثقافة تحتاج إلى أجواء منفتحة وتتعدد فيها الأفكار والرؤى    ما حكم تحميل كتاب له حقوق ملكية من الانترنت بدون مقابل؟ الأزهر يجيب    ‏هل الطلاق الشفهي يقع.. أزهري يجيب    هل يجوز طلب الرقية الشرعية من الصالحين؟.. الإفتاء تحسم الجدل    حكم تنويع طبقة الصوت والترنيم في قراءة القرآن.. دار الإفتاء ترد    رغم فوائدها.. تناول الخضروات يكون مضرا في هذه الحالات    عصام زكريا: القضية الفلسطينية حضرت بقوة في دراما رمضان عبر مسلسل مليحة    أجمل مسجات تهنئة شم النسيم 2024 للاصدقاء والعائلة    قد تشكل تهديدًا للبشرية.. اكتشاف بكتيريا جديدة على متن محطة الفضاء الدولية    طريقة عمل الجبنة القديمة في المنزل.. اعرفي سر الطعم    كم مرة يمكن إعادة استخدام زجاجة المياه البلاستيكية؟.. تساعد على نمو البكتيريا    العين يتأهل لنهائي دوري أبطال آسيا رغم الخسارة من الهلال    مع ارتفاع درجات الحرارة.. دعاء الحر للاستعاذة من جهنم (ردده الآن)    عاجل- هؤلاء ممنوعون من النزول..نصائح هامة لمواجهة موجة الحر الشديدة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مذكرات فالتر بنيامين طفولة في برلين
نشر في أخبار الأدب يوم 07 - 04 - 2012

ليست هذه بسيرة ذاتية عادية يحكي فيها المؤلف عما عايشه في طفولته، ولا هذا بكتاب عن معالم برلين عند مطلع القرن العشرين، إنها صور نقشها فالتر بنيامين علي جدران الزمن أثناء حفره في ماضي الطفولة. فهو يشبِّه عملية التذكر بالحفر ويري أن هذا الحفر في الذاكرة ليس عملا اعتباطيا: »وبالطبع يكون مفيدا إنجاز أعمال الحفر وفقا لخطط. لكن ما لا غني عنه أيضا هو ضربة الجاروف المتحسسة الحذرة في التربة المظلمة، وسيخدع نفسه علي أفضل نحو من يقوم فقط بجرد ما عُثر عليه ولا يستطيع أن يحدد في تربة الحاضر المكان والموضع الذي حُفظ فيه القديم«. وقد أثرت تربة الحاضر بالفعل علي كتابة هذا العمل، ففي عام 1931 بدأ بنيامين بناء علي طلب مجلة Literarische Welt البرلينية تدوين ذكريات ذات طابع شخصي عن برلين تحت عنوان »وقائع برلينية«، وشكلت الأساس لهذا الكتاب.
ولا شك أن بنيامين الذي عاش طفولة رغدة في حي شارلوتنبورغ البرليني الغني، وعاني في أوج شهرته كمفكر وناقد أدبي لامع من صعوبة تأمين معاشه، قد حرص كما قال في مقدمته علي تحصين نفسه ضد الحنين للماضي، وهذا واضح من استهلاله الكتاب بالشرفات التي لا تصلح للسكني رغم كل ما لها من ذكريات لطيفة في نفس الكاتب، والختام بنص القزم الأحدب الذي يرافقه في كل أماكن طفولته ويحرص علي نسيانه لنصف الأشياء، وبذا تصبح الذاكرة مشوهة وغير مكتملة. وإذا كانت باريس لدي بنيامين مدينة للتسكع وعاصمة للقرن التاسع عشر، فإن برلين تكاد تكون مدينة أثرية شبه مهجورة، وبرجوازيتها آخذة في الانقراض، ويتضح ذلك جليا في الكآبة الطاغية علي بيوت الغرب البرليني وغرفها الكثيرة الخالية، والتي لا تحل بها البهجة إلا في الأعياد. وعلي الأغلب فإن بنيامين كان يشعر في طفولته بالضجر أيضا من التعليم المدرسي العقيم الذي كان علي ما يبدو سمة بارزة للعصر الفيلهميني ذي الصبغة البروسية العسكرية في ألمانيا، وهذا ما كان يدفعه إلي الهروب إلي الخيال والاستماع للقصص التي تحكيها ندف الثلج وتخيل تفاصيل القصص التاريخية والخيالية التي يقرأها في أثاثات البيت الضخمة والعتيقة. ورغم استغراق الطفل في خيالاته، إلا أن عينه لم تغفل عن رصد ذكي لملامح العصر وتحولاته كالحديث عن دخول الهاتف إلي المنازل البرلينية وعن الصالات الرياضية وما تتميز به من أجواء استعراضية، وعن تسليم البانوراما القيصرية الراية لفن السينما الناشئ، وأخيرا وليس بآخر رصد الفقر المستشري في المدينة واكتشاف المراهق في شوارعها للغريزة الجنسية. تقديم
في عام 1932 عندما كنت في الخارج، بدأ يتضح لي أنه سيتحتم علي في القريب العاجل أن أودع المدينة التي ولدت فيها لفترة طويلة أو ربما علي الدوام.
لمرات عديدة كانت خبرة عملية التطعيم شافية لحياتي الداخلية، فوضعت نفسي في هذه الحالة واستدعيت عمدا أكثر الصور إثارة للحنين في المنفي، إنها صور الطفولة. وكان ضروريا ألا تتعدي هيمنة إحساس الحنين علي الروح، هذا التأثير الذي للتطعيم علي جسد سليم. وقد سعيت لتحجيم هذا الإحساس من خلال التبصر في الحتمية الاجتماعية لعدم إمكانية استعادة الماضي، وليس من خلال النظر في تفاصيل السيرة الحياتية العارضة.
وقد أدي ذلك بدوره إلي انسحاب الملامح الشخصية التي ترتسم بالأحري عبر استمرارية التجربة، لا عبر عمقها، انسحابا تاما خلال هذه المحاولات، ومعها انسحبت ملامح الوجوه- وجوه عائلتي ورفاقي.وعلي النقيض من ذلك بذلت قصاري جهدي لجعل الصور التي تعكس خبرة المدينة الكبيرة في نفس طفل من الطبقة البرجوازية في متناول اليد.
وأري أنه من الممكن أن تحتفظ هذه الصور بمصير خاص بها. فلم تثبتّها بعد أية أشكال دامغة، كتلك المرتبطة بالإحساس الطبيعي المعهود منذ قرون عن ذكريات طفولة في الريف. في المقابل قد تكون صور طفولتي في المدينة الكبري قادرة في جوهرها علي عرض خبرة تاريخية لاحقة. وآمل من خلالها علي الأقل أن يتضح كيف تخلي الشخص الجاري الحديث عنه هنا فيما بعد عن الأمان الذي نعمت به طفولته.
شرفات
مثل أم تضع طفلها حديث الولادة علي صدرها دون أن توقظه، هكذا تفعل الحياة لوقت طويل مع ذكري الطفولة التي لا تزال رهيفة. ليس ثمة ما يعضد ذكرياتي بحميمية أكثر من النظر إلي الأفنية.التي كان من بين شرفاتها المظلمة واحدة تغطيها المظلات في الصيف، وكانت لي المهد الذي وضعت فيه المدينة مواطنها الجديد. ربما تكون تماثيل الكرتيد التي كانت تحمل شرفة الطابق التالي قد غاردت أماكنها للحظة لتنشد أمام هذا المهد أغنية لم تتضمن كثيرا مما كان سينتظرني لاحقا، لكنها تضمنت مع ذلك تلك المقولة التي جعلت هواء الأفنية يظل يفتنني علي الدوام. وأعتقد أن نفحة من هذا الهواء ظلت موجودة في جبال الكروم في كابري حيث عانقت المحبوبة، وفي هذا الهواء نفسه تعلق الصور والاستعارات التي تهيمن علي تفكيري، كما تهيمن تماثيل الكرتيد من ذري الشرفات علي أفنية منازل الغرب البرليني.
إيقاع ترام المدينة ونفض السجاجيد كان يهدهدني أثناء النوم، لقد كان هو القالب الذي تشكلت فيه أحلامي، في البداية هذه الأحلام التي لم يكن لها ملامح واضحة والتي ربما تشبعت بخرير المياه ورائحة الحليب، ثم تلك الأحلام الطويلة الممتدة: أحلام السفر والمطر. هنا رفع الربيع أولي رايات رغباته أمام ظهر المبني الرمادي. وعندما كانت أوراق تعريشة الشجر المغبرة تلامس في وقت لاحق من العام حائط البناية ألف مرة في اليوم، كان حفيف الأغصان يأخذني في رحلة معرفة لم أكن مؤهلا لها بعد. إذ أن كل شيء في الفناء كان يلمح لي بشيء. فكم من الرسائل كانت تخفيها مناوشات الستائر اللفافة الخضراء عند رفعها، وكم من الرسائل المشؤومة تركتُها بحذق غير مفتوحة مع دوي انزلاق مصاريع النوافذ عند الغسق.
كان الموضع الذي وقفت فيه الشجرة هو أكثر ما يشغلني في الفناء. لقد كان مفرغا من حجارة الرصف التي غُرست فيها حلقة حديدية واسعة تمر عبرها قضبان معدنية بحيث تسور التربة العارية. ولم يبد لي أن هذه القضبان قد وُضعت هباء، أحيانا كنت أفكر فيما يحدث داخل الحفرة السوداء التي خرج منها جذع الشجرة. ولاحقا امتدت أفكاري لتشمل موقف عربات الأجرة التي تجرها الخيول، إذ أن الأشجار هناك نبتت بشكل مشابه كما أنها كانت مسيجة أيضا. كان الحوذية يعلقون علي السياج عباءاتهم، أثناء ملئهم حوض مضخة المياه للخيل. كان الحوض منخفضا داخل الرصيف وتيار المياه المتدفق يزيل آثار القش والشوفان. وبالنسبة لي كانت أماكن انتظار العربات تلك التي لم ينقطع هدوؤها إلا نادرا مع مجيء العربات أو رحيلها، بمثابة ضواح نائية لفنائي.
امتدت حبال الغسيل من حائط الشرفة إلي الحائط الآخر، وبدت النخلة أكثر تشردا عندما لم يعد الجزء الداكن من التربة منذ زمن بعيد هو موطنها، بل الصالون المجاور. هكذا أراد قانون المكان الذي دارت حوله أحلام السكان فيما مضي. فقبل أن يطوي النسيان المكان، تولي الفن أحيانا مهمة إعطائه مكانة سامية. أحيانا كان يخطف سلة أو تمثالا برونزيا أو زهرية صينية إلي محيطه، وحتي لو ندر أن أعطت هذه الأشياء القديمة للمكان الشرف اللائق به فقد كانت ملائمة لما كان يملكه هو ذاته من قدم.كان اللون الأحمر البركاني الذي امتد علي هيئة شريط عريض علي الحائط هو الخلفية المتاحة للساعات التي تكدست في هذه العزلة. شاخ الزمن في هذه الغرف الوارفة الظل التي انفتحت علي الأفنية. ولهذا كان الصباح عندما كنت أصادفه في شرفتنا، صباحا منذ وقت طويل بحيث بدا هناك أنه هو ذاته أكثر من أي بقعة أخري. لم أستطع أبدا أن أكون بانتظاره، فقد كان دائما في انتظاري. كان موجودا منذ زمن وكأنه موضة عفا عليها الزمن، عند عثوري عليه هناك في النهاية.
فيما بعد اكتشفت الأفنية مجددا من جسر القطار. في عصاري الصيف ذات الرطوبة العالية عندما كنت أنظر إليها من نافذة ديوان القطار، كان الصيف يبدو محتجزا داخلها وكأنه معزول عن الطبيعة المحيطة. وبدت نبتة إبرة الراعي بزهورها الحمراء الخارجة من إصيصها أقل مناسبة له من الحشايا الحمراء التي كانت تُعلق في الصباح علي حافة الشرفة لتهويتها. وفرت كراسي الحديقة الحديدية التي بدت وكأنها مصنوعة من أغصان أو بوص ملفوف، مجالا للجلوس في الشرفة. كنا نسحبها لنجلس عليها عندما تلتئم حلقة القراءة في المساء. من كأس له لمعة اللهب الأحمر والأخضر يسقط ضوء مصباح الغاز علي كتيبات »ريكلام» . كانت زفرة روميو الأخيرة تعبر فناءنا بحثا عن الصدي الذي أعده قبر جولييت خصيصا لاستقبالها.
مذ كنت طفلا عرفت الشرفات تغييرات أقل من الأماكن الأخري، لكن ذلك ليس هو سبب قربها إلي، بل السبب بالأحري هو السلوي الكامنة في عدم إمكانية سكناها، بالنسبة لمن لم يعد باستطاعته الحصول علي مأوي. ففيها يصل السكن البرليني إلي حدوده. برلين، إله المدينة ذاته يبدأ فيها. يبقي هناك حاضرا بحيث لا يصبح بإمكان أي شيء عابر أن ينافسه علي مكانته. في حماه يلتئم الزمان مع المكان. كلاهما يتكدس عند قدميه. لكن الطفل الذي كان ذات مرة جزءا من هذا الرباط، يقيم في شرفته محاطا بهذه المجموعة وكأنه في ضريح أُعد له خصيصا من زمن بعيد.
بانوراما قيصرية
كان من عوامل الجذب الكبري لصور الرحلات التي يجدها المرء في البانوراما القيصرية، أنه لم يكن مهما أين يبدأ المرء جولته. فنظرا لأن لشاشة العرض المزودة بمكان للجلوس شكلا دائريا، كان المرء يمر بكل محطات الرحلة، ويري كل محطة منها في بعدها الباهت اللون عبر زوج من النوافذ. كان هناك دائما مكان فارغ للجلوس. وخصوصا قرب نهاية طفولتي عندما أدارت الموضة ظهرها للبانوراما القيصرية، وتعوّد المرء علي القيام بهذه الجولات السياحية في صالة شبه خالية من الجمهور.
لم يكن بعرض البانوراما القيصرية تلك الموسيقي المصاحبة للأفلام التي تصيب المرء بالخدر أثناء الرحلة. لكن وعلي ما بدا لي، فإن ثمة مؤثرا صوتيا بسيطا لكنه مشوش، كان أقوي تأثيرا من هذه الموسيقي. لقد كانت تلك الرنة التي تصدر قبل انسلاخ الصورة بجلبة من المشهد لتخلف بعدها فراغا في البداية ثم تأتي الصورة التالية وفي كل مرة ترن فيها، تغشي حسرةُ الفراق الجبال حتي سفوحها والمدن بنوافذها البراقة ومحطات القطار بدخانها الأصفر وتلال الكروم حتي أصغر ورقة. لقد توصلت لقناعة بأنه من المستحيل أن تكون زيارتي هذه كافية لاستيعاب روعة المشهد، وهكذا تولدت لدي نية لم تتحقق أبدا بأن آتي إلي البانوراما في اليوم التالي. لكن قبل أن أعقد العزم علي ذلك، كان جهاز العرض الذي تفصلني عنه الألواح الخشبية يهتز والصورة تميل في إطارها لتختفي سريعا من أمام ناظري إلي جهة اليسار.
الفنون التي استمرت هنا انقرضت في القرن العشرين. لقد وجدت مع بدايته في الأطفال جمهورها الأخير. لم تكن العوالم البعيدة غريبة عنها. وقد ورد أن يكون الحنين الذي توقظه هذه العوالم ليس نابعا من كونها مجهولة ولكن لأنها مألوفة. وهكذا أردت أن أقنع نفسي في عصر يوم ما أثناء وقوفي أمام شريحة ضوئية لمدينة أيكس الفرنسية، بأنني لعبت ذات يوم علي أحجار هذا الرصيف الذي تحميه أشجار الدلب في طريق ميرابو.
وفي حال أمطرت كنت لا أبقي في الخارج أمام كتالوج الصور الخمسين، بل أدخل إلي عمق الصورة وأجد في الخلجان ونخيل جوز الهند الضوء نفسه الذي كان يضيء مكتبي مساءً أثناء إنجازي للواجبات المدرسية، إلا لو تسبب عطل مفاجئ في الإضاءة في فقدان المشهد لألوانه. عندئذ كان يبدو ساكنا تحت سماء رمادية. وكنت أتخيل أنه لا يزال بإمكاني سماع صوت الريح والأجراس، فقط لو انتبهت بشكل أفضل.
عمود النصر
كان يقف في الميدان الواسع كتاريخ مكتوب بالأحمر علي رزنامة الحائط. وبالتالي كان ينبغي علي المرء أن يزيله بعد مرور ذكري معركة سيدان مثلما تنزع ورقة الرزنامة. عندما كنت صغيرا لم يكن بالإمكان تخيل مرور عام بدون ذكري معركة سيدان. بعد المعركة لم يتبق سوي الاستعراضات العسكرية. وعندما سار موكب العم كروغر بعد هزيمته في حرب البوير في عام 1902 بطول شارع تاوتسيتن، كنت واقفا مع مربيتي ضمن صفوف الجماهير لنبدي إعجابنا بهذا السيد الذي ارتدي قبعة أسطوانية مستلقيا علي مقعد العربة المبطن و»قد قاد جيشا». هكذا يقولون عنه. لقد بدا ذلك لي شيئا عظيما لكنه ليس سليما تماما، فقد تراءي لي وكأن الرجل قد «قاد» خرتيتا أو جملا وهكذا حقق مجده. ما الذي يمكن أن يأتي بخلاف ذلك بعد ذكري سيدان؟ فبعد هزيمة الفرنسيين بدا وكأن تاريخ العالم قد غاص في قبره المجيد، وفوقه ارتفع هذا العمود كشاهد له.
عندما كنت تلميذا في الصف السابع صعدتُ الدرجات الواسعة المؤدية إلي حكام طريق النصر، ومع ذلك فقد انشغلت فقط بهذين التابعين اللذين توجا الحائط الخلفي للمبني الرخامي. كانا أقصر من حكامهما وكانت رؤيتهما مريحة للعين. ومن بين الجميع كنت أحب الأسقف الذي يحمل الكاتدرائية في يده اليمني ذات القفاز. لقد استطعت بناء كاتدرائية أكبر منها بالاستعانة بلعبة مكعباتالبناء. ومنذ ذاك الوقت صرت كلما رأيت القديسة كاترينا أبحث عن عجلتها وكلما رأيت القديسة بارباره أبحث عن برجها .
لقد شرحوا لي من أين جاءت زينة وزخارف عمود النصر، لكنني لم أفهم بالضبط حقيقة ما جري مع مواسير المدفع التي صُنع منها: إن كان الفرنسيون قد خاضوا الحرب بمدافع ذهبية أم أننا حولنا الذهب الذي أخذناه منهم إلي مدافع؟ ثمة بهو أعمدة يلف قاعدة عمود النصر. لم أطأ أبدا هذا المكان الذي يغمره ضوء باهت ناتج عن انعكاس اللون الذهبي للوحات الجص الجدارية. كنت أخشي أن أجد هناك ما يمكن أن يذكرني بصور كتاب وجدته ذات مرة في صالون إحدي عماتي. كانت طبعة فخمة ل «جحيم» دانتي. لقد بدا لي أن الأبطال الذين بزغ فجر صنائعهم في بهو الأعمدة، هم في السر مثلهم مثل الجموع التي تلقي عقابها بأن تسوطها دوامات الريح وتُغرس أجسادها في جذوع الأشجار الدامية وتُجمد داخل كتل جليدية. لهذا كان هذا البهو هو الجحيم، هو النقيض لأجواء النعمة التي تحيط بفكتوريا إلهة النصر المتألقة في الأعالي. في بعض الأيام كان الناس يقفون بأعلي . وكانوا يبدون لي أمام السماء وكأنهم محاطين بإطار أسود مثل شخوص قصص القص واللصق المصورة. ألم آخذ المقص وعلبة الصمغ في يدي-بعد انتهائي من تركيبها- لكي أوزع دمي مماثلة علي الأبواب والأركان وأفاريز النوافذ؟ كان الناس في الضوء بأعلي مخلوقات لنزوة النعيم المفاجئة تلك، يحيطهم يوم أحد أبدي. أم أنه كان يوم «سيدان» أبدي؟
الهاتف
ربما يعود الأمر إلي تركيبة الجهاز أو إلي بنية الذاكرة. الأكيد هو أن صدي جلبة المكالمات الهاتفية الأولي يختلف عنه في مكالمات اليوم. لقد كانت جلبة ليلية. لم تعلنها ربة فن، والليل الذي أتت منه كان هو الليل نفسه الذي يسبق أي ميلاد حقيقي، والصوت هو المولود الجديد الذي كان غافيا داخل أجهزة الهاتف. كان الهاتف هو أخي التوأم في كل يوم وكل ساعة. لقد شهدت كيف خلّف سنوات إذلاله الأولي وراء ظهره، إذ أنه عندما ذوت الثريات وحاجز المدفأة ونخلة الحجرة والكُنسولة ومناضد الصالة الصغيرة وإفريز النافذة البارزة، وماتت موتا مؤكدا، بعدما كانت في السابق تحتل مكانة بارزة في الصالة، أدار الجهاز ظهره للممر المظلم وكأنه بطل أسطوري كان قد تُرك للموت في أخدود جبلي، وانتقل بزهو ملكي إلي الغرف الأكثر إضاءة وإنارة والتي صار يسكنها الآن جيل جديد. ولهذا الجيل أصبح الهاتف هو السلوي في الوحدة، إذا أنه كان يبرق لليائسين الذين يريدون مغادرة العالم بآخر بصيص أمل، ويشارك المهجورين أسرتهم. الرنين الصاخب الذي كان ملائما له في المنفي، صار مع انتظار الكل للمكالمة أقل دويا.
لا يعلم كثيرون ممن يستخدمون الهاتف أي خراب سببه ظهوره في السابق في بيوت العائلات. الصوت الذي كان يرن بين الثانية والرابعة عصرا عندما يرغب أحد أصدقائي في التحدث إليّ، كان بمثابة إنذار لا يهدد قيلولة والديّ فحسب، بل ويهدد أيضا ذاك الزمن الذي اعتادا فيه علي هذه القيلولة. كان الخلاف مع موظفي تحويل المكالمات هو القاعدة، ناهيك عن التهديدات واللعنات التي كان يصبها والدي علي مصلحة الشكاوي. لكن قصفه وانفعاله الحقيقيين كانا من نصيب ذراع التحريك الذي كان يديره لدقائق يكاد خلالها أن ينسي نفسه. كانت يده في الأثناء درويشا يغلبه الدوار. ساعتها كان قلبي ينبض بعنف، لتأكدي في هذه الحالات أن الموظفة علي الجهة الأخري من الخط مهددة بنيل ضربة عقابا علي إهمالها.
خلال تلك الفترة عُلق الهاتف مشوها ومنبوذا بين خزانة الملابس المتسخة وعداد الغاز في إحدي زوايا الممر الخلفي، حيث ضاعف ضجيج رنينه من فزع سكان البيت البرليني. وعندما كنت أسيطر بجهد جهيد علي حواسي وأتمكن بعد فترة من التلمس وتحسس الطريق عبر الممر المظلم من إسكات الجلبة، وأرفع السماعتين اللتين لهما وزن ثُقالة الحديد وأحشر رأسي فيما بينهما، أصبح حينها مستسلما تماما للصوت الذي يتحدث. لم يخفف شيء من العنف الذي كان يخترقني به الصوت. كنت أعاني بلا حول ولا قوة شاعرا بفقدان إحساسي بالزمن وبمقاصدي وواجباتي. ومثل الوسيط الروحي الذي يتبع ما يمليه عليه الصوت الذي يهيمن عليه من العالم الآخر، كنت أستسلم في طاعة لأول اقتراح يأتيني عبر الهاتف.
صيد الفراشات
بغض النظر عن بعض رحلات الصيف التي كنا نقوم بها بين الحين والآخر، كنا كل عام نقضي العطل السابقة علي دخولي المدرسة في مصايف في المنطقة المحيطة. وقد ظل الصندوق الواسع علي حائط غرفة صباي يذكر بهذه الفترة، إذ ضم البدايات الأولي لمجموعة فراشات كانت أقدمها واحدة اصطدتها في حديقة براوهاوسبيرغ. فراشة الملفوف الأبيض بحواف أجنحتها المقشرة وفراشة الكبريت الأصفر بجناحيها شديدي اللمعة يستحضران لدي ذكري حماسة الصيد التي كانت تنتابني فتجذبني من طرق الحديقة المعتني بها إلي الأحراش البرية التي كنت أواجه فيها بلا حول ولا قوة مؤامرة الريح والروائح وأوراق الشجر والشمس من أجل طيران الفراشات.
كانت الفراشات ترفرف علي زهرة وتقف فوقها. رافعا الشبكة، كنت أتحين ظهور تأثير سحر الزهرة علي الجناحين، وأن يتم السحر مفعوله، عندها ينزلق الجسم الرقيق جانبا بضربات أجنحة رهيفة ليظلل زهرة أخري ويقف فوقها أيضا بلا حراك وبالطريقة نفسها يغادرها فجأة. عندما تثير فراشة السلحفاة الصغيرة أو عثة أبي الهول-التي كان من السهل علي اصطيادها- جنوني عبر ترددها أو اهتزازها وتلكؤها، كنت أتمني ساعتها أن أتحول إلي ضوء وهواء، فقط كي اقترب من فريستي دون أن تلحظني وأتمكن منها. وقد تحققت أمنيتي بالقدر الذي جعل كل حركة أو خفق للجناحين اللذين أحدق فيهما بلهفة يحركني ويدغدغني. وساد بيننا قانون الصيد القديم. كلما سعيت للتماهي بكل جوارحي مع هذا الحيوان، وكلما أصبحت من الداخل كالفراشة، كلما أخذت هذه الفراشة في أفعالها لون القرار الإنساني وكأن صيدها هو الثمن الوحيد لاستعادة وجودي الإنساني. لكن ما أن يتم الصيد، حتي يصبح الطريق من مسرح صيدي الناجح إلي المعسكر أكثر عناء، هناك يوجد الإتير والقطن والإبر ذات الرؤوس الملونة والملاقط في علبة جمع العينات. كيف كان المكان يبدو وراء ظهري! الحشائش مثنية والزهور مدهوسة. أما الصياد نفسه فوهب جسده لشبكته وفوق كل هذا الدمار والفظاظة والعنف، تقبع الفراشة المفزوعة مرتعشة ورغم ذلك خاشعة تماما في إحدي ثنيات الشبكة. علي هذه الطريق المضنية كانت روح من ينتظره الموت تسري في الصياد. الآن اكتسب بعض قوانين اللغة الأجنبية التي كانت الفراشة تتفاهم بها مع الزهرة أمام عينيه. رغبته في القتل صارت أقل، فيما أصبح تفاؤله أكبر بكثير.
الهواء الذي تهادت فيه هذه الفراشة في الماضي أصبح اليوم مشربا تماما بكلمة لم تسمعها أذناي ولم ترد علي شفتاي مطلقا منذ عقود. لقد حفظت هذه الكلمة ما لا يمكن سبر غوره، وما تواجه به أسماء الطفولة الشخص البالغ. لقد تجلت هذه الأسماء فيما هو مسكوت عنه لفترة طويلة. وهكذا تختلج عبر هواء يعج بالفراشات كلمة براوهاوسبرغ والتي تعني «جبل معمل البيرة». علي هذا الجبل بالقرب من بوتسدام كان منزلنا الصيفي. لكن الاسم فقد كل ثقله ولم يعد له صلة مطلقا بمعمل البيرة وهو علي كل حال جبل تحيطه الزرقة يرتفع في الصيف لكي يأويني أنا ووالديّ. وهكذا كان موقع بوتسدام طفولتي في هواء أزرق وكأن فراشات عباءة الحداد أو الأميرال أو الطاووس أو الأورورا قد نُثرت علي لوحة ذات ميناء لامع من الليموج تبرز منها شُرافات وأسوار القدس علي أرضية اللوحة الزرقاء الداكنة .
منتزه »تيرغارتن«
ألا تجد طريقك في مدينة ما لا يعني الكثير، أما أن تتوه في مدينة مثلما يتوه المرء في غابة، فذلك يحتاج لتدريب. إذ لا بد لأسماء الشوارع أن تتحدث إلي التائه مثل قرقعة أغصان جافة وأن تعكس له الشوارع الصغيرة في قلب المدينة أوقات اليوم بوضوح مثلما يعكسها واد جبلي. لقد تعلمت هذا الفن متأخرا: وقد حقق ذلك حلما كانت آثاره الأولي متاهات علي أوراق النشاف في كراساتي. لا ليست الأولي، فقبلها كان ثمة أثر دام أكثر من غيره. كان الطريق إلي هذه المتاهة التي لم تفتقر إلي أريادنه تخصها، يمر عبر جسر بندلر الذي كان تقوسه اللطيف هو أول تلة بالنسبة لي. غير بعيد عن سفحها كان الهدف: فريدريش فيلهلم والملكة لويزه . لقد انتصبا وسط أحواض الزهور علي قاعدتيهما الدائريتين وكأن الانحناءات السحرية التي خطها أمامهما جدول مائي في الرمل قد سمرتهما في مكانهما. لكن اهتمامي كان ينصب علي قاعدتي التمثالين أكثر من العاهلين، لأن ما كان يجري علي القاعدتين رغم عدم وضوح سياقه كان أقرب لي من حيث المكان. لقد أدركت دائما أن ثمة شيئا مميزا بهذه المتاهة يتبدي من خلال هذه الساحة الواسعة العادية التي لا تشي إطلاقا بأنه علي بعد خطوات قليلة من طريق عربات الأجرة والمركبات، يغفو الجزء الأكثر غرابة في الحديقة.
لقد تلقيت مبكرا إشارة بذلك. فهنا تحديدا أو غير بعيد عن هنا، كان معسكر هذه الأريادنه التي خبرت في قربها وللمرة الأولي شيئا لم أعرف له كلمة إلا لاحقا، إنه الحب. للأسف تظهر «الآنسة» عند نبع الحديقة وتلقي بظلها البارد عليه. وهكذا كانت هذه الحديقة التي كانت تبدو مفتوحة للأطفال أكثر من أي حديقة أخري مشوهة في نظري بفعل صعوبات وتعقيدات. نادرا ما تمكنت من التفرقة بين أنواع الأسماك في بركة الأسماك الذهبية. وكم انطوي اسم جادة «صيادي البلاط» علي وعود كثيرة لم يف بها وكم من مرة بحثت دون جدوي عن هذه الشجيرات التي كانت تخبئ في وسطها كشكا ذا أبراج صغيرة حمراء وبيضاء وزرقاء، علي طراز لعبة مكعبات البناء. وكم كان حبي للأمير لويس فرديناند يتجدد كل ربيع بلا أمل، فعند قدميه كانت تنبت أولي زهور الزعفران والنرجس. وكان ثمة جدول مائي يفصلني عنها ويجعلها بعيدة المنال وكأنها تقبع تحت ناقوس زجاجي. لا بد لكل ما هو نبيل أن يرقد بهذا البرود وسط الجمال، هكذا أدركت لماذا كان علي لويزه فون لاندو زميلتي في المدرسة أن تسكن حتي وفاتها علي ضفة لوتزو أمام هذه الأحراش الصغيرة التي كانت زهراتها تتندي من ماء القناة.
اكتشفت لاحقا زوايا جديدة من الحديقة كما سمعت عن زوايا أخري. مع ذلك لم يمكن لفتاة ولا لتجربة ولا لكتاب أن ينبئني بجديد في هذا الشأن. وهكذا وبعد ذلك بثلاثين عاما عندما قبل رجل خبير بالمدينة-فلاح برليني - العودة معي بعد غياب مشترك طويل عنها، شقت خطاه في هذه الحديقة أخاديد نثر فيها بذور الصمت. لقد تقدم عبر طرقاتها وبدا له كل طريق منها متحدرا ووعرا. وقاده لأسفل، إن لم يكن لأمهات كل الوجود ، فبالتأكيد لأمهات وجود هذه الحديقة. كانت خطواته علي الأسفلت تصدر صدي. ضوء المصباح الغازي الذي سطع علي الأسفلت ألقي بضوء ملتبس علي هذه الأرض. درجات السلم الصغيرة والمداخل ذات الأعمدة والأفاريز والحليات المعمارية التي تزين فيلّات منطقة تيرغارتن- للمرة الأولي نوفي هذه التفاصيل حقها. خصوصا سلالم البنايات التي ظلت بنوافذها الزجاجية علي حالتها القديمة، رغم تغير الكثير في الداخل المسكون. لا زلت أذكر هذه الأبيات التي كانت بعد المدرسة تملأ هذه البرهات بين دقات قلبي، عندما كنت أتوقف للاستراحة أثناء صعود السلم. كانت تبزغ لي عبر زجاج النافذة، حيث يبرز خارجها تمثال امرأة تسبح في الأثير كعذارء كنيسة السستين وتحمل في يدها إكليلا. رفعت بإبهامي حمالات حقيبتي عن كتفي وقرأت:»العمل زينة المواطن/ والبركة مكافأة الجهد». بالأسفل انغلق باب البناية بتنهيدة واحدة مثلما يهوي شبح عائدا إلي القبر. ربما كانت تمطر في الخارج. بقيت إحدي ألواح النافذة الملونة مفتوحة وعلي إيقاع قطرات المطر واصلت صعود السلم.
من بين تماثيل الكرتيد والأطلس والأطفال المجنحين والإلهة بومونا التي كانت تنظر إلي في الماضي من عل، كانت تلك التماثيل المغبرة التي تسكن عند عتبات البيوت لتحرس بذلك خطوة الداخل إلي الوجود أو إلي البيت، هي الأقرب إليّ، فهي تتقن الانتظار، سيان إن كانت تنتظر غريبا أو تنتظر عودة الآلهة القديمة أو الطفل الذي مر قبل ثلاثين عاما بحقيبته المدرسية من أمام أقدامها. فتحت قيادتها أصبح الغرب البرليني القديم أثريا، ومنه تهب الريح الغربية التي تساعد البحارة بقواربهم المحملة بتفاحات الهسبريد للانسياب ببطء في اتجاه قناة لاندفير، لكي ترسو بعد ذلك عند جسر هرقل. ومجددا مثلما كان الحال في طفولتي كان للهيدرا ولأسد نيميا مكان في البرية المحيطة بميدان »النجم الكبير» .
وصول متأخر
بسببي بدت ساعة فناء المدرسة معطوبة. كانت عقاربها تشير إلي «متأخر جدا». وفي الممر تناهت من الفصول همهمة مشاورات سرية. لقد جمعت الصداقة بين التلاميذ والمدرسين وراء هذه الجدران. أو أن الصمت خيم علي الجميع وكأنهم ينتظرون أحدا. لمست مقبض باب الفصل بصوت غير مسموع. غمرت الشمس البقعة التي وقفت فيها. لقد أفسدت يومي الصحو بدخولي. لم يبد أن أحدا قد عرفني، أو حتي رآني. ومثلما احتفظ الشيطان بظل بيتر شليمهيل ، امتنع المعلم عن ذكر اسمي ضمن قائمة الحضور عند بداية الحصة. ولم يأت علي الدور في الإجابة. عملت بهدوء حتي دق الجرس، لكن كدحي لم يكن مغبوطا.
كتب الصبيان
كنت أحصل من مكتبة المدرسة علي أكثر الكتب المحببة إلي. في الصفوف الدراسية السابقة كانت تُوزع علينا. ينادي معلم الفصل اسمي ويأخذ الكتاب طريقه عبر مقاعد الفصل: ينقله الواحد للآخر أو ينتقل سابحا فوق الرؤوس حتي يصل إليّ، إذ كنتُ التلميذ الذي رفع يده. تظل آثار الأصابع التي تناقلته ملتصقة بأوراقه. والشريط الذي يثبت ملزمات الكتاب من الظهر ويبرز من أعلي ومن أسفل كان متسخا. كان الظهر بالأخص يتحمل الكثير، لذا كان يحدث أن تتباعد دفتي الكتاب عن بعضهما وتشكل حواف متن الكتاب درجات وشرفات صغيرة. مثل صيف متأخر علي جذوع الأشجار، كانت تعلق علي أوراقه خيوط واهية لشبكة كنت قد أوقعت نفسي في أحبولتها ذات يوم أثناء تعلمي القراءة.
كان الكتاب موضوعا علي مائدة عالية جدا. وأثناء القراءة كنت أسد أذني. ألم يحدث في يوم من الأيام أنني استمعت لحكاية بلا صوت؟ بالطبع لم يقصها والدي، لكن أحيانا في الشتاء عندما كنت أقف أمام النافذة في الحجرة الدافئة، كانت العاصفة الثلجية تحكي لي بلا صوت. ما حكته لي لم أتمكن أبدا من فهمه، لأن الجديد كان يقحم نفسه بكثافة واستمرار بين المعارف القدامي. فما أكاد أعقد صداقة وطيدة مع مجموعة من ندف الثلج، إلا وأدرك أنها تركتني لمجموعة أخري، اخترقتها فجأة. ثم جاءت اللحظة لتتبع القصص التي أفلتت مني أمام النافذة، وسط عاصفة الحروف. البلدان البعيدة التي رأيتها في هذه القصص تعبث بثقة مع بعضها البعض مثلما تفعل الندف. ولأن البعاد عند هطول الثلج لا يقود إلي العالم الخارجي بل إلي الداخل، كانت المسافة علي هذا النحو بين بابل وبغداد وبين عكا وألاسكا وبين تومورسو وترانسفال في داخلي أنا. أجواء مطالعات العطلة اللطيفة التي تخللت هذه الأماكن مست بالدم والمخاطر شغاف قلبي بصورة لا تقاوم، بحيث ظل وفيا علي الدوام للكتب المهترئة من كثرة الاستعمال.
أم أن هذا الوفاء كان للكتب الأقدم التي لا يمكن العثور عليها؟ تلك الكتب الرائعة التي لم تتح لي رؤيتها ثانية إلا مرة واحدة في الحلم؟ كيف كانت عناوينها؟ لم أكن أعرف سوي أن هذه الكتب التي لن أستطيع العثور عليها ثانية أبدا، قد اختفت منذ وقت طويل. لكنها الآن داخل الخزانة التي أدركت خلال صحوي أنني لم أرها من قبل مطلقا. في الحلم بدت لي قديمة ومعروفة. لم تكن الكتب مصفوفة رأسيا داخل الخزانة بل موضوعة داخلها بشكل أفقي، وتحديدا في ركن التقلبات الجوية. كان الجو عاصفا داخل الكتب. وفتح أي واحد منها سيضعني في الرحم الذي يشكل فيه نص متقلب وكئيب سحابة حبلي بالألوان. كانت ألوانا ساخنة وسريعة الزوال، تتحول دائما إلي لون أرجواني يبدو أن مصدره أحشاء حيوان مذبوح. فاقت العناوين كل وصف وكانت زاخرة بالمعاني مثلها مثل هذا الأرجواني المحرم، وتراءي لي أن كل واحد منها أكثر غرابة وألفة بالنسبة لي من سابقه. لكن قبل أن أتمكن من ضمان الحصول علي أولها كنت أستيقظ من النوم، دون أن أكون قد مسست في الحلم أيضا أيا من كتب الصبيان القديمة.
صباح شتوي
الجنية التي تضمن تحقيق أمنية ما، موجودة لدي الجميع. لكن قليلين هم من يستطيعون تذكر أمنيتهم، وقليلين أيضا من يستطيعون لاحقا وخلال حياتهم إدراك أن أمنيتهم قد تحققت. أعرف أمنيتي التي تحققت ولا أريد القول إنها كانت أكثر حذقا من تلك التي يتمناها أطفال الحكايات الخيالية. لقد تشكلت داخلي مع المصباح، الذي كان مع اقترابه من سريري في الصباح الشتوي الباكر، في الساعة السادسة والنصف، يلقي بظل مربيتي علي غطاء السرير. تُوقد شعلة في الفرن. وسرعان ما تتوجه هذه الشعلة التي بدت محشورة في درج صغير جدا لا تكاد تستطيع التحرك داخله من كثرة الفحم، بالنظر إلي. ومع ذلك يبدأ شيء هائل في التشكل هناك بالقرب مني، شيء أصغر مني ويتطلب من الخادمة أن تنحني له أكثر مما تنحني لي. وعندما يكتمل اشتعال الفرن، تضع الخادمة تفاحة لتحميرها داخله. وسرعان ما يعكس وميض أحمر شبكة باب الموقد علي الأرض. ومن فرط تعبي كان يتراءي لي أن هذا المنظر كاف لليوم كله. هكذا كانت الحال دائما في هذه الساعة، وحده صوت المربية كان هو الشيء الذي يشوش علي اتمام الأشياء التي اعتاد الصباح الشتوي أن يعهد إليّ بها في غرفتي. لم يكن مصراع النافذة قد فُتح بعد، عندئذ كنت أزيح للمرة الأولي باب الفرن جانبا لاتفحص وضع التفاحة داخله. أحيانا لا يكون تغيير يذكر قد طرأ بعد علي نكهتها. أصبر حتي اشتم الرائحة الزكية الفائرة الآتية من خلية من خلايا اليوم الشتوي أكثر عمقا وسرية حتي من تلك التي ينبعث منها عبق الشجرة في ليلة عيد الميلاد. رقدت الثمرة الداكنة الدافئة داخل الفرن، هذه التفاحة التي بدت مألوفة رغم تغيرها، مثل شخص أعرفه جيدا، كان مسافرا في رحلة ثم جاء لزيارتي. كانت رحلة عبر أرض حرارة الفرن المظلمة التي اكتسبت منها التفاحة نكهة كل الأشياء التي يهيئها اليوم لي. ولهذا كان من الغريب أيضا أنه كلما أدفأتُ يدي في خدي التفاحة اللامعين، كان ثمة تردد يعتريني عندما أنوي قضمها. لقد شعرت بأن المعرفة العابرة التي كانت تحملها في رائحتها يمكن أن تتلاشي في طريقها عبر لساني. هذه المعرفة كانت أحيانا مشجعة جدا لدرجة أنها كانت تهوّن علي الطريق إلي المدرسة. عندما أصل إلي هناك، يعود التعب الذي تراءي في البداية أنه زال، مضاعفا عشر مرات. ومعه هذه الأمنية بأن أحصل علي كفايتي من النوم. ربما أكون قد تمنيت ذلك ألف مرة وتحقق فعلا لاحقا. لكنني احتجت لوقت طويل حتي أدرك أنه في تحقق هذه الأمنية يتبدد في كل مرة هذا الأمل الذي يحدوني في الحصول علي وظيفة ولقمة عيش آمنة.
شالسوق المسقوف
Markthalle
أولا لم يكن ثمة من يعتقد أن اسمه Markt-Halle ، لا، فالناس كانوا ينطقونه Mark-Thalle" ومثلما كانت هاتان الكلمتان تمتزجان بحيث لم يحتفظ أي منهما بشيء من المعني الأصلي لهما، كانت تمتزج لدي مع اعتياد دخولي لهذه السوق كل الصور التي كانت تتيحها بحيث لم يعد لأي منها صلة بالمفهوم الأصلي للشراء والبيع. فإذا ما تجاوز المرء المدخل بأبوابه الدوارة الثقيلة ذات النوابض القوية تعلق النظرات الأولي ببلاطات الأرضية الزلقة بفعل ماء السمك أو ماء التنظيف ويمكن للمرء أن ينزلق بسهولة علي جزرة أو علي ورقة خس. خلف أكشاك من السلك علي كل منها رقم تتربع النساء الثقيلات الحركة، كاهنات الإلهة سيريس بخيراتها المطروحة للبيع، نساء سوقِ كلِ ثمارِ الحقول والأشجار وكل الطيور والأسماك والثدييات القابلة للأكل، قوادات، ماردات من الصوف المغزول لا يمكن المساس بهن، يتواصلن مع بعضهن البعض من كشك لكشك سواء أكان ذلك عبر بريق زر من أزرارهن الكبيرة أو بخبطة يد علي التنورة أو بزفرة تنتفخ معها أثداؤهن. ألم يسد هرج ومرج تحت أطراف تنانيرهن، ألم تكن تلك هي الأرض الخصبة الحقيقية؟ ألم يقم إله سوق بإلقاء البضائع في حجورهن: توت وقشريات وفطر وكتل من اللحم والكرنب، شاهد غير مرئي علي هؤلاء اللائي وهبن أنفسهن له، فيما هن يستندن في خمول علي أحد البراميل أو يتفحصن في صمت- وسلاسل الميزان المتراخية بين الركبتين- صفوف ربات البيوت اللائي يحملن الأكياس والشِباك ويسعين بعناء لتوجيه أطفالهن للسير أمامهن عبر الأزقة الزلقة الكريهة الرائحة.
الحمي
دائما ما تُعلمني بداية كل مرض كيف يحل المصاب بي بإيقاع واثق وعناية وإتقان. فإثارة الاهتمام كان أمرا بعيدا عنه كل البعد. كان يبدأ ببعض البقع علي البشرة أو بإحساس بالغثيان. كان الأمر وكأن المرض قد تعود علي أن يصبر حتي يتيح له الطبيب المجال للانتشار. كان يأتي ويفحصني ويؤكد علي أهمية انتظاري للبقية الباقية في السرير. ويمنعني من القراءة. عموما كان لدي شئ أهم أقوم بإنجازه. فقد بدأت في مراجعة ما سيتحتم حدوثه طالما أنه لا يزال لدي وقت ولم تختلط الأمور في رأسي كثيرا. كنت أقيس المسافة بين السرير والباب وأسأل نفسي إلي متي سيظل صوتي قادرا علي جسر هذه المسافة. رأيت في خيالي الملعقة التي سكنت في حافتها توسلات أمي، وكيف كشفت فجأة عن وجهها الحقيقي بعد أن اقتربت من شفتي بعناية، ودلقت بعنف دواءها المر في حلقومي. مثل رجل مخدر يقوم بين حين وآخر بالحساب والتفكير فقط من أجل أن يتأكد أنه لا يزال قادرا علي ذلك، هكذا كنت أعد الظلال الشمسية التي كانت تتراقص علي سقف غرفتي وأعاود تجميع نقوش ورق الحائط في حزم جديدة.
كنت مريضا جدا وهذا هو ربما مصدر ما يراه فيّ الآخرون صبرا، وهو لا يتشابه في الحقيقة مع أي فضيلة: إنه النزوع إلي رؤية كل ما هو مهم لي وهو يقترب مني مثلما تدنو الساعات من سرير مرضي. وهكذا يحدث أن أفتقد السعادة في رحلة ما، لو لم أتمكن من انتظار القطار طويلا في المحطة، ومن هنا أيضا جاء ولعي بتقديم الهدايا، فما يفاجئ الآخرين، أستطيع أنا المانح أن أتنبأ به مبكرا. نعم، إن الحاجة إلي التطلع لما سيأتي مستعينا بفترة الانتظار، مثلما يستعين المريض بالوسادات لسند ظهره، قد جعلتني لاحقا أري النساء يبدون أجمل كلما كان علي أن انتظرهن بارتياح أكثر ولفترات أطول.
سريري الذي كان عادة مكانا للوجود الأكثر انسحابا وسكونا، نال الآن منزلة واهتماما عاما. لوقت طويل لم يعد موطنا للعمليات السرية المسائية: كالمطالعة ولعبتي مع الشموع. الكتاب الذي كنت أضعه عادة تحت الوسادة ووفقا لطقس ممنوع يتكرر كل ليلة بآخر ما تبقي لي من قوي، لم يعد موجودا. واختفت خلال هذه الأسابيع تيارات اللافا والمواقد الصغيرة التي كانت تجعل الشمع الشفاف يذوب. ربما لم يسرق مني المرض بالأساس سوي هذه اللعبة الساكنة الحابسة للأنفاس، التي لم تخل أبدا من خوف غامض يداهمني. وهذا الخوف كان نذيرا لخوف لاحق رافق لعبة مشابهة علي حافة الليل ذاتها. كان علي المرض أن يأتي لكي يمنحني ضميرا نقيا. كان أمرا طازجا مثل هذا الموضع من ملاءة السرير الخالية من أي ثنيات، التي كانت تنتظرني كل مساء حينما يحين موعد رقادي. عادة ما تسوي أمي السرير. ومن الأريكة كنت أتابعها وهي تنفض الوسائد والأغطية. وأفكر في المساءات التي استحممت فيها وجاءني طعام العشاء إلي السرير علي صينية من البورسيلين. خلف طلاء الصينية اخترقت امرأة بجهد دغلا من أغصان توت العليق مواجهةً الريح ببيرق عليه الشعار التالي: "سواء ذهبت شرقا أو غربا بيتك هو الأفضل". وكانت ذكري هذا العشاء وذكري أغصان توت العليق تزداد لطفا عندما يتراءي للجسم أنه قد تسامي للأبد عن حاجته لأكل شيء ما. ولهذا كان يشتهي الحكايات. التيار القوي الذي كان يملؤها، كان يسري فيه ويجرف معه الأعراض المرضية وكأنها خشب طاف. كان الألم سدا حاجزا، يقاوم الحكاية في البداية فقط، لكن لاحقا وعندما تتكاثف الحكاية تتغلب عليه وتدفعه إلي هاوية النسيان. مهّد الربت اللطيف لهذا التيار حوضه. وكنت أحب ذلك لأنه من يديّ أمي كانت تنسال حكايات، سأسمعها منها لاحقا. ومع هذه الحكايات ظهر إلي النور القليل مما عرفته عن أسلافي. كانوا يستحضرون مسيرة حياة أحد أسلافي، والقواعد الحياتية لجدي وكأنهم يريدون أن يفهمونني أنه من العجلة أن أتخلي عن الامتيازات الكبيرة التي أمتلكها بفضل أصلي، عبر موت مبكر. أمي كانت تختبر كل يوم مرتين مدي اقترابي منه. باحتراس كانت تذهب بالترمومتر إلي النافذة أو تحت المصباح وتمسك بالأنبوب الرفيع وكأنه يضم حياتي داخله. لاحقا وعندما كبرت لم يعد من الصعب علي أن أفسر سر وجود الروح في الجسد علي أنه وضع خيط الحياة في الأنبوب الصغير الذي يزوغ فيه دائما عن بصري.
كان قياس الحرارة أمرا مجهدا. بعده كنت أفضل البقاء وحيدا، لكي أنفرد بوسادتي. إذ أنني وثّقت خلال فترة ما علاقتي بتعرجات ونتوءات الوسادة. وكنت ساعتها لا أفهم كثيرا ما هو المقصود بالتلال والجبال. كنت اختبئ مع القوي التي تُنشئ هذه التضاريس تحت غطاء واحد. وهكذا كان يحدث أحيانا أن تنفتح مغارة في السد الجبلي. كنت أزحف داخلها وأسحب الغطاء فوق رأسي وأضع أذني علي الأخدود المظلم وأغذي السكون بين حين وآخر بكلمات ترتد إليّ في صورة قصص. من حين لآخر كانت الأصابع تتدخل وتقوم بنفسها بفعل معين أو تبني "متجرا" مع بعضها البعض، وخلف الطاولة التي يشكلها الإصبعان الأوسطان، يومئ البنصران بحماس للزبون الذي هو أنا. لكن رغبتي كانت تخبو أكثر فأكثر كما تضعف أيضا سلطة مراقبتي للعب الأصابع. في النهاية كنت أتابع دون فضول تقريبا عبث أصابعي، التي كانت رعاعا حائرين ومتراخين يهيمون علي مشارف مدينة يلتهمها الحريق. ليس من الممكن أن تأمن جانبهم، إذ أنهم حتي لو اتحدوا في براءة، لم يكن من المؤكد أبدا أن يفترقوا في صمت ويسير كل منهم طريقه كما كانت عليه الحال سابقا. أحيانا كان طريقا ممنوعا هذا الذي في نهايته استراحة حلوة تكشف المنظر الجذاب الذي يتحرك في غطاء اللهب الموجود خلف جفني العين المغلقين. فرغم كل العناية أو الحب التي تلقيتها لم يكن ممكنا وصل الغرفة التي بها سريري بشكل تام بما يجري في بيتنا. كان علي أن أنتظر حتي يحل المساء. لأنه حينما كان الباب ينفتح أمام المصباح وتتأرجح استدارة فانوسه علي العتبة باتجاهي، كان الأمر يبدو وكأن كرة الحياة الذهبية التي تدير كل ساعة من ساعات اليوم، قد وجدت وهي تدخل غرفتي للمرة الأولي مهجعا نائيا. وقبل أن يأخذ الليل راحته تماما لدي، كانت تبدأ عندي حياة جديدة، أو بالأحري تنتعش الحمي القديمة تحت ضوء المصباح من لحظة لأخري. وقد سمحت لي هذه الوضعية أن استفيد من الضوء الذي لا يحصل عليه آخرون بسهولة. لقد استفدت من سكوني وقربي من الحائط الملاصق لسريري لتحية الضوء بخيال الظل. انعكست كل الألعاب التي أتاحتها أصابعي مجددا علي ورق الحائط بوضوح أقل وببهاء وغموض كبيرين. "بدلا من الخوف من ظل الليل" هكذا ورد في كتاب ألعابي، "يستخدمه الأطفال الظرفاء، لكي يوفروا لأنفسهم جوا من المرح"، وتلي ذلك تعليمات بصور كثيرة تشرح كيفية صنع ظلال علي ظهر السرير لجدي أو لرامي قنابل أو لبجعة أو أرنب.
أنا نفسي نادرا ما أنجزت شيئا يتجاوز فم ذئب، لكنه كان كبيرا جدا وعاويا بحيث لا يمكن أن يكون سوي لذئب الفنريس الأسطوري الذي تركته يتحرك باعتباره مدمرا للعالم في المساحة ذاتها التي تركوني فيها أتصارع مع مرض الأطفال. ذات يوم انسحب المرض. وخفف التعافي، مثل الولادة، من القيود التي كانت الحمي تفرضها بإحكام. وبدأ الخدم يترددون علي أكثر ليقوموا بما كانت تقوم به الأم. وذات صباح استسلمت مجددا بوهن وبعد فترة انقطاع طويلة لصوت نفض السجاد الذي كان يدخل عبر النافذة ويحفر في قلب الطفل حفرا أعمق مما يحفر صوت المحبوبة في قلب الرجل. نفض السجاد الذي كان تعبيرا ينتمي للطبقات الدنيا، ويخص الكبار بحق، لم يتوقف أبدا وظل دائما محافظا علي معناه، أحيانا كان يسكن بعض الوقت ثم يستمر بتراخ وهدوء ثم يعود إلي ركض غير مبرر وكأنه يتعجل قبل سقوط المطر.
مثلما كان المرض غير ملحوظ في بدايته، غادر أيضا علي هذا النحو. إلا أنني وعندما أصبحُ بصدد نسيانه تماما كانت تأتيني تحية أخيرة علي شهادة المدرسة. عدد الساعات التي تغيبتها كان مسجلا أسفل الشهادة. لم يبد لي العدد بأي حال من الأحوال رماديا أو رتيبا مثل عدد الأيام التي كنت حاضرا فيها، بل كان مصفوفا مثل الأشرطة الملونة علي صدر مصابي الحرب، وكلما طالت شارة التكريم تجسدت في عيني هذه الملحوظة: غياب- مئة وثلاثة وسبعون ساعة.
نبأ وفاة
ربما كنت في الخامسة من العمر. ذات مساء وكنت قد رقدت في سريري، دخل أبي، جاء ليتمني لي أمنية طيبة. ربما لم يكن يرغب تماما في أن ينقل لي نبأ وفاة أحد أقاربه. كان رجلا كبيرا في السن ولم يهمني كثيرا. حكي لي أبي الخبر بالتفصيل لكنني لم أستوعب ما قاله. في المقابل انطبعت غرفتي في ذاكرتي في هذه الليلة، وكأنني أعرف أنني في يوم ما سيكون لي مجددا شأن ما هنا. كنت قد صرت يافعا منذ زمن وسمعت أن هذا القريب مات مريضا بالزهري. لقد دخل أبي إلي غرفتي لكي يكون وحيدا. كان يبحث عن غرفتي وليس عني. كلاهما لم يكن في حاجة لشخص ثالث يثقان به.
مساء شتوي
في الأماسي الشتوية كانت أمي تأخذني معها للتسوق. برلين التي امتدت أمامي آنذاك كانت مظلمة ومجهولة. لقد بقينا في الغرب القديم الذي كانت ملامح شوارعه أكثر ألفة وتواضعا من تلك المفضلة لدي لاحقا. لم تعد النوافذ البارزة والأعمدة ملحوظة بوضوح وبزغ ضوء في الواجهات، لكن هذا الضوء الذي نفذ عبر ستائر الموسيلين أو عبر شيش النافذة أو من رتينة المصباح الغازي تحت النجفة، لم يكشف من الحجرات المضاءة إلا قليلا.
لقد كان هذا الضوء موجودا من أجل ذاته وقد جذبني وجعلني ميالا للتأمل. ولا يزال هذا الأثر يفعل فعله في الذاكرة حتي اليوم ويحيلني ذلك إلي إحدي بطاقاتي البريدية التي تصور ساحة برلينية. المنازل التي أحاطت بالساحة كانت لها زرقة خفيفة والسماء الليلية المقمرة كانت أكثر دكنة. احتل القمر وجميع النوافذ مساحات بيضاء وسط زرقة البطاقة الكرتونية. وكانت في حاجة لأن توضع أمام مصباح كي يظهر عندئذ ضوء أصفر من السحب وصفوف النوافذ. لم أكن أعرف المنطقة التي تصورها البطاقة. لقد كُتب أسفلها Hallesches Tor ، البوابة والقاعة اجتمعا سويا وشكلا الكهف المضيء الذي اكتشف فيه ذكرياتي عن برلين الشتوية.
الجورب
كان الكومود هو الخزانة الأولي التي تنفتح، متي شئت أنا ذلك. كل ما علي فقط هو أن أجذب المقبض فيندفع بابه في مواجهتي. تحت القمصان، والمرايل والقمصان الداخلية التي كانت محفوظة خلفه، كان هناك الشيء الذي جعل من الكومود مغامرة لي. توجب علي أن أشق طريقا حتي آخر زاوية فيه، ثم أعثر علي الجوارب التي رقدت مكومة وملفوفة بطريقة تقليدية علي شكل كرات. كل زوج منها كان يبدو مثل حقيبة صغيرة. لم يكن ثمة شيء أكثر متعة من أن تغوص يدي إلي أقصي عمق ممكن داخلها. لم أفعل ذلك من أجل الحصول علي الدفء. كان الشيء "المجلوب" الذي تمسك به يدي دائما في الداخل الملفوف، هو ما يجذبني إلي العمق. وعندما أحاوطه بقبضتي وتؤكد لي قواي أن هذه الكتلة الصوفية الناعمة صارت في حوزتي، يبدأ الجزء الثاني من اللعبة والتي تؤدي إلي الكشف. لأنني كنت في تلك الأثناء أعمل علي سحب "المجلوب" من حقيبته الصوفية، وأسحبه ناحيتي أكثر فأكثر، حتي يحدث ما هو مذهل: أخرجت "المجلوب" لكن "الحقيبة" التي كان يرقد بداخلها لم تعد موجودة. لم أشبع من تكرار هذه التجربة بالقدر الكافي. لقد علمتني أن الشكل والمضمون، الغطاء ومحتواه الداخلي هما الشي نفسه. وقادني ذلك إلي جذب الحقيقة من الخيال بحذر مثلما سحبت يد الطفل الجورب من "الحقيبة".
مخابئ
كنت أعرف كل مخابئ البيت وأعود إليها كما أعود للبيت الذي يشعر فيه المرء بالأمان ويجد كل شيء كما كان عليه من قبل. كان قلبي يدق وأحبس أنفاسي. هنا كنت محاطا بعالم الأقمشة. لقد أصبح هذا العالم واضحا لي بصورة هائلة، واقترب مني في صمت، مثلما يدرك الشخص الذي سيشنق معني الحبل والخشب. الطفل الذي يقف خلف المدخل يتحول نفسه إلي شيء هائم وأبيض، إلي شبح. مائدة الطعام التي تكور مختبئا تحتها، تحوله إلي الصنم الخشبي للمعبد، حيث تكون أرجل المائدة هي أعمدته. وخلف أحد الأبواب يصبح هو نفسه أيضا بابا، ويلبس الباب كقناع ثقيل، مثل كاهن يصيب سحره من يدخل وهو في غفلة من أمره. يجب ألا يعثر عليه أحد، مهما كلف الأمر. عندما يلعب بتعبيرات وجهه، يقولون له، إن الأمر لا يتطلب سوي أن تدق الساعة، فيثبت علي حاله إلي الأبد. ما هو حقيقي في ذلك عرفته في المخبأ. فمن كان يكتشفني كان بإمكانه أن يجعلني أتسمر كصنم تحت المائدة، أو أن أصبح للأبد شبحا ملفوفا في الستارة، أو أن يأسرني طوال العمر في الباب الثقيل. لذا كنت أُخرج بصرخة مدوية هذا العفريت الذي يمسخني عندما يمسك بي من يبحث عني- نعم كنت انتظر اللحظة وأهاجمه بصرخة تحرير الذات. كان المنزل ترسانة أقنعة. لكن لمرة واحدة في العام كان يوجد في مواضع سرية، في محاجر عيونها الفارغة وفمها المتسمر هدايا. تحولت الخبرة السحرية إلي علم. لقد أزلت السحر عن منزل والديّ الكئيب بوصفي مهندسه وبحثت عن بيضات عيد الفصح.
الألوان
كانت في حديقتنا مقصورة مهجورة ومتهالكة. وكنت أحبها بسبب نوافذها الملونة. وعندما انتقل داخلها من نافذة لأخري كنت أتحول، أتلون حسب المنظر من النافذة والذي سرعان ما يتغير من التوهج إلي الغبرة، ومن الكمون إلي الخضرة الوارفة. كان الأمر بالنسبة لي كالرسم بالألوان المائية، حيث كانت الأشياء تفتح لي حجرها بمجرد أن أغمرها بسحابة رطبة. شيء مشابه كان يحدث لي مع فقاعة الصابون. كنت أرحل فيها عبر الغرفة وامتزج بلعبة ألوان قبتها حتي تنفجر. كنت أتيه في الألوان أثناء تأملي للسماء أو لقطعة من الحلي أو مطالعتي لكتاب. يبحث الأطفال دائما عن غنيمتهم. في الماضي كان بالإمكان شراء شوكولاتة في لفافة مربوطة بصورة متقاطعة وبداخلها كانت كل قطعة شوكولاتة ملفوفة بشكل منفصل في ورق قصدير ملون. هذا البناء الصغير الذي كان يكتسب تماسكه من خيط ذهبي خشن، كان يزهو بألوان ذهبية وزرقاء وبرتقالية، وحمراء وفضية لكل قطعة: ولم يحدث أبدا أن كانت قطعتان من اللون نفسه بجانب بعضهما البعض. من وسط هذه الفوضي البراقة انهالت الألوان علي ذات يوم. ولا زلت استطعم الحلاوة التي تشبعت بها عيناي آنذاك. كانت تلك حلاوة الشوكولاتة التي بها كادت تذوب الألوان في قلبي أكثر منها علي لساني. فقبل أن أهوي صريعا لإغواء الحلوي، كانت الحاسة الأسمي تتفوق علي الأدني وتنقلني إلي عالم آخر.
شحاذون ومومسات
كنت في طفولتي أسيرا للغرب البرليني القديم والجديد، فأهلي سكنوا هذين الحيين في الماضي في موقف يخلط بين التعنت والاعتزاز، وصنعوا منهما غيتو، اعتبروه إقطاعيتهم. ظللت حبيس هذه المنطقة الموسرة دون أن أعرف غيرها. وبالنسبة للأطفال الأغنياء في مثل عمري، لم يكن ثمة فقراء إلا في هيئة شحاذين. وكان تقدما معرفيا كبيرا، عندما تجلي الفقر لي لأول مرة متجسدا في هوان العمل بأجر متدن. كان ذلك من خلال نص صغير، ربما يكون أول نص أكتبه بنفسي، وكان عن رجل يوزع منشورات دعائية، وعن الإهانات التي يتلقاها من الجمهور الذي لم يهتم بمنشوراته. وهكذا يتوصل هذا المسكين-كما خلصتُ في النهاية- إلي التخلص سرا من كل منشوراته. بالطبع لم تكن هذه أفضل تسوية مثمرة للوضع. إلا أنني لم يخطر ببالي آنذاك أي شكل آخر من أشكال التمرد سوي التخريب، وقد نبع هذا من تجربتي الذاتية جدا. وإليها كنت ألجأ عندما كنت أسعي للتملص من قبضة أمي، وخصوصا عند "شراء المؤن" وكنت أفعل ذلك بعناد جامح يدفع بأمي في كثير من الأحيان إلي حافة اليأس. وتحديدا كنت قد تعودت أن أبقي علي مسافة نصف خطوة وراءها، وكأنني لا أريد بأي حال من الأحوال تشكيل جبهة، حتي ولو كان ذلك مع أمي. وقد اكتشفت لاحقا كم أنا مدين بالعرفان لهذه المقاومة الحالمة في خروجاتنا المشتركة عبر المدينة، عندما فتحت الأخيرة متاهتها للغريزة الجنسية. لكن الغريزة لم تبحث في تلمساتها الأولي، عن الجسد بل عن النفس المنبوذة تماما، التي كانت أجنحتها تلمع في خمول في ضوء المصباح الغازي، أو تنعس مطوية تحت الفراء الذي تتشرنق فيه. وكنت أشعر بالرضا عن هذه النظرة التي لا يبدو أنها تري ولا حتي ثلث ما تلتقطه في الحقيقة. في السابق عندما كانت أمي توبخ عنادي وتلكؤي، كنت أشعر علي نحو مكتوم بإمكانية تحالفي مع هذه الشوارع التي لم أكن علي الأغلب أعرف طريقي فيها، بحيث أتحرر من سلطة أمي لاحقا. لا شك بأي حال من الأحوال في أن شعورا- خادعا للأسف- برفضها ورفض طبقتها وطبقتي هو الذي أدي لوجود هذا النزوع الذي لا مثيل له لمحادثة مومس في الطريق العام. استغرق الأمر سنوات حتي تحقق ذلك. والفزع الذي شعرت به أثناء ذلك كان هو الفزع ذاته الذي سيتملكني لو كنت بصدد تشغيل آلة يكفي طرح سؤال وحيد عليها لكي تعمل. وهكذا كنت ألقي بصوتي عبر الفتحة، ويفور الدم في أذني فلا أعود قادرا علي التقاط ما يخرج من الفم المصبوغ بكثافة بأحمر الشفاه. هربت لكي أكرر المحاولة الجسورة في الليلة نفسها- كما كان يحدث كثيرا. وعندما كنت أحيانا أتوقف قرب الصبح عند مدخل أحد البيوت، أكون قد وقعت بلا أمل في حبائل أربطة الشارع الإسفلتية، ولم تكن أنظف الأيادي هي التي حررتني منها.
سفر وعودة
في الليلة السابقة علي السفر وعندما كان الآخرون لا يزالون مستيقظين، ألم يكن شريط الضوء أسفل باب غرفة النوم هو أول إشارة استعداد للرحلة؟ ألم يتسلل الضوء إلي ليل الطفل مليئا بتوقعات مثلما تسلل، لاحقا، شريط ضوء من أسفل ستارة المسرح إلي ليل جمهور ما؟ أعتقد أن سفينة الأحلام التي كانت تأخذنا، كانت تتجاوز عند أسرتنا ضجيج أمواج الأحاديث وزبد قرقعة الأطباق، وفي الصباح الباكر كانت ترسو بنا متوهجين وكأننا قد عدنا من الرحلة التي من المفترض أن نبدأها الآن. أثناء التنقل بعربة خيل ذات قعقعة مدوية تسير بطول قناة لاندفير،كان قلبي يغتم فجأة. بالتأكيد ليس بسبب ما سيأتي أو بسبب الوداع، بل بسبب الجلوس المشترك العقيم داخل العربة الذي استمر وتواصل ولم يتلاش بفعل نسيم الرحلة مثلما يتطاير شبح قبل انبلاج الفجر، هذا الجلوس العقيم غمرني بالحزن. لكن ليس لوقت طويل، فعندما كانت العربة تخلف جادة "شوسيه" وراءها، كنت أسارع بالتفكير في رحلتنا بالقطار. ومنذ ذلك الحين تصب في مخيلتي كثبان شاطئ كوسيرو أو فينينغشتيدت وأنا لا أزال بشارع الإنفاليد بقلب برلين، فيما كانت أفكار الآخرين لم تتخط كتل الصخور الرملية بمحطة "شتيتين" . لكن في غالب الأحيان كان الوصول للهدف أقرب في الصباح الباكر. وتحديدا لمحطة "أنهالت" التي هي المغارة الرئيسية للقطارات، حيث بيت كل القاطرات وحيث يتوجب علي القطارات أن تتوقف. لم تكن ثمة مسافة أبعد من تلك التي تتلاقي فيها قضبان المحطة وسط الضباب. لكن حتي القرب الذي كان يلفني كان يبتعد. بدا المنزل في ذاكرتي في صورة مختلفة. لقد أعطي بسجاجيده التي لُفت، وثرياته التي خيطت حولها أكياس من الخيش والمقاعد التي غُطيت بالبياضات، بضوء شحيح يتسرب عبر الشيش- ونحن بصدد وضع أقدامنا علي عتبة قطار النوم- أعطي مجالا لتوقع أن تطأه أقدام غريبة بخطي حذرة، ربما سرعان ما تمر سريعا فوق ألواح الأرضية، لتترك آثار اللصوص في غبارها الذي اتخذ مكانه في هدوء منذ ساعة. لذلك كنت أعود في كل مرة من العطلة كالمشرد. وكان أدني تجويف قبو يشتعل فيه الضوء يبدو لي أكثر جاذبية بالمقارنة مع بيتنا الذي أظلم في الغرب البرليني. لذا قدمت لي الأفنية الكثير من الملاذات الصغيرة الحزينة عند عودتنا من منتجعات بانزين أو هانينكليه. وبالطبع أغلقتها المدينة بعد ذلك مجددا وكأنها تندم علي استعدادها للمساعدة. مع ذلك عندما كان القطار يتباطأ في مرة من المرات أمام هذه الأفنية، فقد كان ذلك بسبب إشارة ضوئية استوقفته لفترة وجيزة قبل أن تسمح له بدخول المحطة. وكلما تحرك القطار ببطء تلاشي بسرعة أكبر هذا الأمل في الهروب من مسكن العائلة القريب إلي ما وراء الجدران العازلة بين البيوت. لكن هذه الدقائق التي لا تحصي قبل أن ينزل الجميع من القطار لا تزال حاضرة ليومنا هذا أمام عينيّ. رب نظرة قد تجوب هذه الجدران مثلما تجوب الأفنية. نوافذ محشورة في جدران مهدمة يشتعل مصباح خلفها.
صندوق القراءة
لا نستطيع أبدا استعادة ما هو منسي استعادة تامة. وربما يكون هذا جيدا. فصدمة الاستعادة ستكون مدمرة جدا بحيث إنه سيتحتم علينا في التو واللحظة التوقف عن محاولة فهم سر حنيننا. لكن هكذا يمكننا فهم المنسي، كان غارقا أكثر في أعماقنا كلما كان هذا أفضل. مثل الكلمة المفقودة التي كانت لتوها علي شفتينا، والتي كانت ستجعل اللسان ينفلت بطلاقة ديموستين، هكذا يبدو المنسي مثقلا بكل الحياة المعاشة التي وعدنا بها. ربما لا يعدو ما يجعل المنسي نفسه مثقلا وزخِما أن يكون مجرد أثر لعادات بائدة، لم يعد بإمكاننا أن نجد أنفسنا فيها مجددا. ربما يكون امتزاجه مع غبرة بيتنا المهدم هو السر الذي يستمد منه بقاءه. وعموما يوجد لدي كل شخص أشياء نمت وطورت في داخله عادات لها ديمومة أكثر من العادات الأخري. وعلي أساسها تشكلت القدرات التي أسهمت في تحديد وجوده. ولأن القراءة والكتابة كانا هما الشيئان اللذان يخصاني،فليس ثمة شيء، مما سكن داخلي في سنواتي الأولي، يثير في حنينا أكبر من صندوق القراءة. كان يضم داخله الحروف علي هيئة أقراص صغيرة بخط الكتابة المائل، الذي بدا أكثر صبا ورقة من الخط المطبوع. وقد رقدت الحروف برشاقة في موضعها المائل داخل الصندوق. كل واحد منها كان مكتملا بذاته، وكانت مترابطة في ترتيبها وفقا لقواعد طائفتها- أي وفقا للكلمة- التي تنتمي لها انتماء الراهبات لطائفة ما. كنت أندهش كيف لهذا القدر من التواضع أن يتحد مع كل هذه الروعة. كانت حالة من النعمة، ويدي اليمني التي كانت تسعي في طاعة من أجل هذه النعمة، لم تنلها. كان عليها أن تنتظر في الخارج مثل البواب الذي يسمح بدخول من تم اصطفاؤهم. وهكذا كان تعامل يدي مع الحروف مفعما بنكران الذات. الحنين الذي يوقظه صندوق القراءة فيّ، يثبت كيف أنه كان متوحدا لدرجة كبيرة مع طفولتي. ما كنت أبحث عنه فيه، كان في الحقيقة هو الطفولة كلها، وما كانت تعول عليه في تحريك اليد للحروف التي تصطف ككلمات علي اللوح المخصص لذلك. يمكن لليد أن تحلم في هذه الحركة دون أن تصحو أبدا لكي تتمها. وهكذا يمكنني أن أحلم بكيفية تعلمي للمشي في الماضي. لكن ذلك لا يسعفني إطلاقا. الآن أستطيع المشي، لكنني لا أستطيع تعلم المشي.
اليقظة الجنسية
في تلك الشوارع التي جبتها لاحقا في جولات لا نهاية لها، وعندما آن أوانها، فاجأتني يقظة الغريزة الجنسية في ظروف غريبة. كان ذلك في عيد رأس السنة اليهودية. رتب والدايّ من أجل إرسالي إلي احتفال ديني. ربما كان الاحتفال لدي تلك الطائفة الإصلاحية التي كانت أمي تميل لها بحكم تقاليد عائلتها. وقد عهدوا بي في هذا العيد إلي أحد أقربائنا البعيدين، وكان علي أن أذهب إليه لإحضاره. ولكن لكوني نسيت عنوانه أو أنني تهت في المنطقة- تأخر الوقت كثيرا وازداد ضياعي مع كثرة اللف والدوران. لم يكن مطروحا أن أتجرأ علي الذهاب إلي الكنيس لوحدي، لأن بطاقات الدخول كانت مع الشخص المكلف برعايتي.كان السبب الرئيسي في سوء حظي هو نفوري من هذا الشخص الذي لا أكاد أعرفه والذي كنت مرتبطا به، وريبتي من هذه الاحتفالات الدينية التي لا تسبب لي سوي الارتباك. وسط هذه الحيرة غمرتني فجأة موجة خوف ساخنة- "تأخر الوقت- فاتك الكنيس" ولكن بالضبط في هذه اللحظة وقبل أن تنحسر غمرتني موجة ثانية من الانعدام التام للضمير- "فلتسر الأمور كما تسير- لا شأن لي بذلك". وكلا الموجتين ارتطمتا ببعضهما بلا هوادة في أول شعور باللذة اختلط فيه تدنيس العيد بأجواء القوادة في الشارع والتي جعلتني أدرك هنا للمرة الأولي هذه الخدمات التي من المفترض أن تقدمها للغريزة التي صحت.
المكتب
اكتشف الطبيب قصر نظري، ولم يصرف لي نظارة فحسب، بل وأيضا مكتبا. كان المكتب مصمما ببراعة، فكان من الممكن تغيير وضع كرسيه بحيث يكون قريبا أو بعيدا من الطاولة التي كانت مائلة ومخصصة للكتابة، إلي ذلك كان اللوح الأفقي علي المسند يعطي دعما للظهر، ناهيك عن رف الكتب الذي كان درة هذا المكتب وكان من الممكن تحريكه. لقد أصبح المكتب الموضوع أمام النافذة هو مكاني المفضل. ولم تحتو الخزانة الصغيرة المخبأة تحت مقعده علي الكتب التي أحضرتها من المدرسة فحسب، بل وأيضا علي ألبوم الطوابع وعلي الألبومات الثلاثة الأخري التي ضمت مجموعة بطاقاتي البريدية. وعلي الخطاف القوي المعلق إلي جانب المكتب لم تعلق إلي جانب سلة الإفطار، حافظة كتبي فحسب ولكن أيضا رماح زي فرسان "الهوصار" وعلبة حفظ العينات. كثيرا ما كان أول شيء أفعله عند عودتي من المدرسة هو الاحتفال بلقيا مكتبي مجددا، وذلك من خلال تحويله إلي ساحة لأحد نشاطاتي المحببة- كقص الصور، ولهذا الغرض كان يوضع فنجان من الماء الدافئ في موضع دواية الحبر وكنت أبدأ في قص ولصق الصور. كم كان واعدا هذا الحجاب الذي كانت هذه الصور تحدق فيّ من وراءه في الألبومات والكراريس: إسكافي فوق طاولته، وأطفال يقطفون التفاح وهم جالسون علي الشجرة، وبائع حليب أمام الباب الشتوي الذي كساه الثلج، ونمر يتأهب للقفز علي الصياد الذي أطلق النار للتو من بندقيته، وصياد السمك وسط الحشائش أمام الجدول المائي الأزرق اللون وتلاميذ فصل مدرسي يقدرون مدرسهم الذي يشرح لهم شيئا علي السبورة وصيدلي أمام دكانه الملئ بالبضائع الملونة، وفنار يبحر أمامه قارب شراعي- كل هذه الصور كانت تغطيها غلالة من الضباب. لكن عندما كانت الصور ترقد في مكانها علي الورقة وقد غمرتها إضاءة لطيفة وتدور أطراف أصابعي بحذر لتفرك وتدعك ظهر طبقة الورق السميكة غدوا ورواحا إلي أن تزيلها في شكل لفافات رقيقة، وتسطع في النهاية علي ظهرها المتشقق المقشور بقع لونية صغيرة حلوة وطبيعية، كان الأمر يبدو وكأن شمس سبتمبر الساطعة قد أشرقت علي عالم الصباح الشاحب الكابي، ولاقت كل الأشياء، التي بقيت مبللة بفعل الطل، الذي تجدد عند الفجر، وهج يوم خلق جديد. لكنني كنت إذا ما مللت من هذه اللعبة، أجد دائما حجة للاستمرار في تأجيل الواجبات المدرسية. وكنت أحب كثيرا


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.