تنسيق الثانوية العامة 2025 ..شروط التنسيق الداخلي لكلية الآداب جامعة عين شمس    فلكيًا.. موعد إجازة المولد النبوي 2025 في مصر و10 أيام عطلة للموظفين في أغسطس    رسميًا بعد التحرك الجديد.. سعر الدولار مقابل الجنيه المصري اليوم الجمعة 1 أغسطس 2025    5 أجهزة كهربائية تتسبب في زيادة استهلاك الكهرباء خلال الصيف.. تعرف عليها    أمازون تسجل نتائج قوية في الربع الثاني وتتوقع مبيعات متواصلة رغم الرسوم    إس إن أوتوموتيف تستحوذ على 3 وكالات للسيارات الصينية في مصر    حظر الأسلحة وتدابير إضافية.. الحكومة السلوفينية تصفع إسرائيل بقرارات نارية (تفاصيل)    ترامب: لا أرى نتائج في غزة.. وما يحدث مفجع وعار    الاتحاد الأوروبى يتوقع "التزامات جمركية" من الولايات المتحدة اليوم الجمعة    باختصار.. أهم الأخبار العالمية والعربية حتى منتصف الليل.. مستندات المؤامرة.. الإخوان حصلوا على تصريح من دولة الاحتلال للتظاهر ضد مصر.. ومشرعون ديمقراطيون: شركات أمنية أمريكية متورطة فى قتل أهل غزة    مجلس أمناء الحوار الوطنى: "إخوان تل أبيب" متحالفون مع الاحتلال    حماس تدعو لتصعيد الحراك العالمي ضد إبادة وتجويع غزة    كتائب القسام: تدمير دبابة ميركافا لجيش الاحتلال شمال جباليا    عرضان يهددان نجم الأهلي بالرحيل.. إعلامي يكشف التفاصيل    لوهافر عن التعاقد مع نجم الأهلي: «نعاني من أزمة مالية»    محمد إسماعيل يتألق والجزيرى يسجل.. كواليس ودية الزمالك وغزل المحلة    النصر يطير إلى البرتغال بقيادة رونالدو وفيليكس    الدوري الإسباني يرفض تأجيل مباراة ريال مدريد أوساسونا    المصري يفوز على هلال الرياضي التونسي وديًا    انخفاض درجات الحرارة ورياح.. بيان هام من الأرصاد يكشف طقس الساعات المقبلة    عملت في منزل عصام الحضري.. 14 معلومة عن البلوجر «أم مكة» بعد القبض عليها    بعد التصالح وسداد المبالغ المالية.. إخلاء سبيل المتهمين في قضية فساد وزارة التموين    حبس المتهم بطعن زوجته داخل المحكمة بسبب قضية خلع في الإسكندرية    ضياء رشوان: إسرائيل ترتكب جرائم حرب والمتظاهرون ضد مصر جزء من مخطط خبيث    عمرو مهدي: أحببت تجسيد شخصية ألب أرسلان رغم كونها ضيف شرف فى "الحشاشين"    عضو اللجنة العليا بالمهرجان القومي للمسرح يهاجم محيي إسماعيل: احترمناك فأسأت    محيي إسماعيل: تكريم المهرجان القومي للمسرح معجبنيش.. لازم أخذ فلوس وجائزة تشبه الأوسكار    مي فاروق تطرح "أنا اللي مشيت" على "يوتيوب" (فيديو)    تكريم أوائل الشهادات العامة والأزهرية والفنية في بني سويف تقديرا لتفوقهم    تمهيدا لدخولها الخدمة.. تعليمات بسرعة الانتهاء من مشروع محطة رفع صرف صحي الرغامة البلد في أسوان    النزول بالحد الأدنى لتنسيق القبول بعدد من مدارس التعليم الفني ب الشرقية (الأماكن)    الزمالك يهزم غزل المحلة 2-1 استعدادًا لانطلاقة بطولة الدوري    اصطدام قطار برصيف محطة السنطة وتوقف حركة القطارات    موندو ديبورتيفو: نيكولاس جاكسون مرشح للانتقال إلى برشلونة    مجلس الشيوخ 2025.. "الوطنية للانتخابات": الاقتراع في دول النزاعات كالسودان سيبدأ من التاسعة صباحا وحتى السادسة مساء    «إيجاس» توقع مع «إيني» و«بي بي» اتفاقية حفر بئر استكشافي بالبحر المتوسط    مجلس الوزراء : السندات المصرية فى الأسواق الدولية تحقق أداء جيدا    فتح باب التقدم للوظائف الإشرافية بتعليم المنيا    رئيس جامعة بنها يصدر عددًا من القرارات والتكليفات الجديدة    أحمد كريمة يحسم الجدل: "القايمة" ليست حرامًا.. والخطأ في تحويلها إلى سجن للزوج    فوائد شرب القرفة قبل النوم.. عادات بسيطة لصحة أفضل    متى يتناول الرضيع شوربة الخضار؟    تكريم ذوي الهمم بالصلعا في سوهاج.. مصحف ناطق و3 رحلات عمرة (صور)    حركة فتح ل"إكسترا نيوز": ندرك دور مصر المركزى فى المنطقة وليس فقط تجاه القضية الفلسطينية    أمين الفتوى يوضح أسباب إهمال الطفل للصلاة وسبل العلاج    الداخلية: مصرع عنصر إجرامي شديد الخطورة خلال مداهمة أمنية بالطالبية    الإفتاء توضح كفارة عدم القدرة على الوفاء بالنذر    الشيخ خالد الجندى: من يرحم زوجته أو زوجها فى الحر الشديد له أجر عظيم عند الله    الوطنية للصلب تحصل على موافقة لإقامة مشروع لإنتاج البيليت بطاقة 1.5 مليون طن سنويا    وزير الخارجية الفرنسي: منظومة مساعدات مؤسسة غزة الإنسانية مخزية    ممر شرفى لوداع لوكيل وزارة الصحة بالشرقية السابق    رئيس جامعة بنها يشهد المؤتمر الطلابي الثالث لكلية الطب البشرى    حملة «100 يوم صحة»: تقديم 23 مليونًا و504 آلاف خدمة طبية خلال 15 يوماً    تنسيق الجامعات 2025.. تفاصيل برنامج التصميم الداخلي الإيكولوجي ب "فنون تطبيقية" حلوان    وزير الصحة يعلن تفاصيل زيادة تعويضات صندوق مخاطر المهن الطبية    طارق الشناوي: لطفي لبيب لم يكن مجرد ممثل موهوب بل إنسان وطني قاتل على الجبهة.. فيديو    أمانة الاتصال السياسي ب"المؤتمر" تتابع تصويت المصريين بالخارج في انتخابات الشيوخ    حالة الطقس ودرجات الحرارة المتوقعة اليوم الخميس 31-7-2025    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



معارك الدستور
الدكتور وحيد عبد المجيد يكتب شهادة حية للتاريخ عن متاهات وسراديب "التأسيسية" (1-6)
نشر في الوطن يوم 14 - 11 - 2012

معارك الدستور قديمة فى مصر.. عرفها المصريون منذ فجر حياتهم الدستورية، وكان طبيعيا أن ترتبط هذه المعارك لفترة طويلة بالنضال ضد التدخل الأجنبى والاستعمار والاستبداد؛ لذلك اقترنت أول معركة دستورية فى مصر بظهور الحركة الوطنية الديمقراطية فى سبعينات القرن التاسع عشر وسعيها إلى تأسيس النضال ضد سلطة الخديو المستبدة وما ارتبط بها من نفوذ أجنبى متزايد. وكان ضروريا، فى هذا السياق، أن ترتبط المعركة الدستورية الثانية بصعود الحركة الوطنية الديمقراطية والتقدم النوعى الذى حدث فيها بُعَيد الحرب العالمية الأولى وصولا إلى ثورة 1919 ورفع شعار «الاستقلال والدستور».
غير أنه مع نجاح النضال الوطنى الديمقراطى فى انتزاع حق الشعب فى الدستور، صارت المعارك مرتبطة بمحتوى هذا الدستور بدءاً بمن يكتبه ووصولا إلى ما يتضمنه من نصوص. فلم يعد النضال منذ ذلك الوقت من أجل الدستور فى حد ذاته، بل سعياً إلى دستور أفضل.
لكن معارك الدستور الذى تطلع إليه المصريون فور نجاح ثورة 25 يناير فى إسقاط رأس النظام ربما تساوى، فى أقل من عامين (منذ آخر فبراير 2011)، مجموع المعارك الدستورية التى حدثت على مدى أكثر من قرن وربع قرن من الزمن، أو قد تزيد عليها. فما إن تنحى حسنى مبارك فى 11 فبراير 2011 وآلت السلطة الفعلية إلى المجلس الأعلى للقوات المسلحة تحت شعار «إدارة شئون البلاد» حتى أصبح الدستور الجديد هو القاسم المشترك فى أكبر المعارك السياسية والقانونية والميدانية وأكثرها أهمية. كما صار هذا الدستور، الذى حدث صراع على كل ما يتعلق به، هو الخيط الذى يربط هذه المعارك جميعها. فقد أصدر «المجلس الأعلى للقوات المسلحة»، صباح 13 فبراير 2011، أى بعد أقل من 48 ساعة على توليه السلطة الفعلية، إعلانا دستوريا عطّل فيه العمل بدستور 1971، وقراراً بتشكيل لجنة لإجراء تعديلات فى عدد من مواد هذا الدستور، أو بالأحرى إعادة تشكيل اللجنة التى كان مبارك قد كلفها بهذه المهمة عشية تنحيه.
وأدى ذلك إلى ظهور خلاف على مسألة الدستور كانت معركتها الأولى حول الجدول الزمنى لمرحلة الانتقال وموقع هذا الدستور فيها، وهى المعركة التى تُعرف باسم «الدستور أولاً أم الانتخابات أولاً؟». وقد عجلت هذه المعركة بظهور الاستقطاب السياسى - الاجتماعى الحاد بعد أن ظل كثير من ظواهره الأكثر حدة محجوزا ومكبوتا بفعل القوة الأمنية الباطشة على مدى عقود. فكان هذا الاستقطاب قد أنتج طاقة سلبية هائلة تحت السطح؛ لذلك لم يكن فى إمكان الطاقة الإيجابية الرائعة التى فجرتها ثورة 25 يناير فى ميدان التحرير ومختلف ميادين مصر وشوارعها على مدى 18 يوماً أن تعالج آثار تلك الطاقة السلبية التى تراكمت على مدى أكثر من ثلاثة عقود.
وهكذا كان صعبا تجنب معارك الدستور بُعَيد لحظة الانصهار الوطنى التى كان المشهد العام فيها مرتبطاً بصورة ميدان التحرير؛ حيث وقف الجميع «يدا واحدة». فما إن بدأت المعارك حول الدستور الجديد وتصاعدت بسرعة حتى أخذت هذه الصورة تتراجع وتنحسر أمام الانقسام الذى طغى بسرعة على المشهد وبلغ ذروته فى الاستفتاء الذى أُجرى على التعديلات الدستورية فى 19 مارس 2011.
وعندما حسم «المجلس الأعلى للقوات المسلحة» معركة «الدستور أولاً أم الانتخابات أولاً؟» وتبنى جدولاً زمنياً يجعل الدستور تالياً للانتخابات البرلمانية بل يكون مرتبطا بنتائجها، بدأت على الفور معركة دستورية ثانية فجَّرتها مخاوف من هيمنة الأغلبية البرلمانية على عملية وضع مشروع الدستور. فقد وضع الإعلان الدستورى الذى أصدره «المجلس الأعلى للقوات المسلحة» فى 30 مارس 2011، دون التزام كامل بما تم الاستفتاء عليه فى 19 من الشهر نفسه، هذه العملية بين يدى مجلسى الشعب والشورى عقب انتخابهما، وربطها بالتالى بالأغلبية فى هذين المجلسين.
ولذلك سعى القلقون من هذه الآلية إلى وضع مبادئ أساسية تلتزم بها الجمعية التأسيسية المنتخبة من مجلسى الشعب والشورى فيما عُرف باسم «المبادئ الدستورية» أو «المبادئ فوق الدستورية» أو «المبادئ الحاكمة للدستور». وشهدت الفترة من أبريل إلى يونيو 2011 إصدار أكثر من عشر وثائق تتضمن هذه المبادى كما رآها واضعو كل منها. وكان الاتجاه الغالب فى هذه الوثائق هو أن تكون المبادئ المتضمنة فيها ملزمة لواضعى مشروع الدستور. فباستثناء وثيقة الأزهر ووثيقة «التحالف الديمقراطى من أجل مصر» اللتين تضمنتا مبادئ اعتُبرت استرشادية، انطلقت الوثائق الأخرى كلها من أن هذه المبادئ لا بد أن تكون ملزمة.
وأفضت هذه المعركة إلى أخرى ثالثة عقب تشكيل حكومة د. عصام شرف الثانية فى يوليو 2011؛ حيث تبنى نائب رئيس الوزراء لشئون التحول الديمقراطى فيها، د. على السلمى، فكرة جمع مشتركات تلك الوثائق كلها فى وثيقة واحدة وإجراء حوار، سعيا إلى التوافق عليها.. فقد أدى هذا التوجه إلى المعركة الثالثة فى معارك الدستور، التى دارت رحاها بين السلمى وأنصار «المبادئ الحاكمة للدستور» ومؤيدى وضع معايير مسبقة لتشكيل الجمعية التأسيسية من ناحية، ورافضى هذا التوجه وفى مقدمتهم أحزاب وقوى الإسلام السياسى وبعض الأحزاب الليبرالية والوسطية والشخصيات المستقلة التى وضعت خطر الحكم العسكرى الذى أساء إدارة المرحلة الانتقالية فوق خطر هيمنة تيار واحد على عملية وضع مشروع الدستور من ناحية ثانية. ولم يتبين لمن قللوا خطر هيمنة هذا التيار خطأ موقفهم لأنهم ركزوا فى تلك الفترة على خطر الحكم العسكرى وحده. وهذا هو ما أدركه كثير منهم بعد ذلك.
وكانت المعركة الدستورية الرابعة، التى بدأت بعد انتخابات مجلسى الشعب والشورى، نتيجة غياب معايير محددة للجمعية التأسيسية بعد أن انتهت المعركة الثالثة بانتصار التوجه الذى استهدف إحباط أى محاولة أو مشروع لوضع مثل هذه المعايير مسبقا. ولذلك صار تشكيل الجمعية التأسيسية ومدى تعبيرها عن مختلف الاتجاهات السياسية والفئات الاجتماعية والمعايير التى يستند عليها هذا التشكيل هو محور المعركة الدستورية الرابعة التى أحاطت عمل تلك الجمعية بتوتر حاد واحتقان شديد.
وقد انتهى الفصل الأول فى هذه المعركة بحل الجمعية التأسيسية التى انتخبها الاجتماع المشترك لمجلسى الشعب والشورى فى 24 مارس 2011 بعد 16 يوما فقط على إعلان تشكيلها وقبل أن تبدأ عملها فعلياً. غير أن فصلا ثانيا فى هذه المعركة بدأ فور إسدال الستار على فصلها الأول. فقد شهدت الفترة بين قرار محكمة القضاء الإدارى الذى قضى بوقف عمل تلك الجمعية فى 10 أبريل 2011 وإعلان تشكيل الجمعية الثانية فى 12 يونيو من العام نفسه حواراً ممتداً ومفاوضات مكثفة سعيا إلى نوع من التوافق فى أجواء يسودها انقسام واستقطاب حادان.
ورغم أن تشكيل الجمعية الثانية جاء أفضل مقارنة بسابقتها، فقد ظلت فيها عيوب كبيرة، أهمها: عدم التوازن بين الاتجاهات السياسية وغياب معايير واضحة لتمثيل الفئات الاجتماعية. ولذلك ظلت المعركة حول تشكيلها مستمرة فى الوقت الذى بدأت فيه المعركة الخامسة بشأن كتابة مشروع الدستور نفسه ومحتواه وما يتضمنه من نصوص فى ظل سعى بعض قوى الإسلام السياسى إلى صبغه بصبغة دينية عبر مقترحات بإضافة نصوص جديدة إليه تؤدى إلى تغيير جوهرى فى طبيعة الدولة المصرية التى بدأ بناؤها فى مطلع القرن التاسع عشر.
وتعد هذه المعارك الدستورية الخمس هى الأكبر فى مصر فى مرحلة خروجها من تحت ركام الاستبداد والقهر والظلم مثقلة بمشاكل لا حصر لها على كل صعيد؛ حيث اقترنت بها أو تداخلت أو تقاطعت معها مختلف الأحداث الجسام التى شهدتها البلاد عامى 2011 و2012. وتختلف هذه الحالة الجديدة عن المعارك الدستورية التى عرفتها مصر فى مراحل سابقة. كانت المعارك الدستورية فى التاريخ المصرى محددة ومحدودة بموضوعها ومحصورة فى قضية الدستور أو أحد جوانبها، بخلاف معارك 2011 - 2012 التى اتسع نطاقها فشمل جوانب المسألة الدستورية كلها وتداخلت مع مختلف الصراعات التى حفل بها المجتمع والساحة السياسية فى هذه الفترة.
خذ مثلاً معركة 1879 التى كانت هى المحاولة الأولى لوضع وثيقة دستورية مصرية حديثة. فقد اقترنت تلك المعركة التى بدأت فى مايو 1879 بصراع كان قد تنامى تدريجياً بين الخديو إسماعيل والتيار الوطنى الديمقراطى فى مجلس شورى النواب الذى أنشئ عام 1866 ليكون مجلسا استشاريا أُريد له أن يُستخدم للمساعدة فى فرض ضرائب جديدة وإضفاء شرعية على السياسة المالية التى توسعت فى الإنفاق وأغرقت مصر فى الديون، لكن التيار الوطنى الديمقراطى فى مجلس شورى النواب أدرك مبكرا غرض الخديو، فسعى إلى انتزاع حق ممثلى الشعب فى مناقشة السياسة الضريبية، ثم السياسة المالية فى مجملها، وصولا إلى الإصرار على مناقشة الميزانية العامة فى مطلع عام 1879 ووضع حدٍّ للنفوذ الأجنبى.
وعندما وصل هذا الصراع إلى ذروته، قرر الخديو تعطيل المجلس الذى رفض أن ينفض واتجه إلى مزيد من التصعيد. وعندئذ اضطر الخديو إلى تعيين محمد شريف، الذى كان قريبا حتى ذلك الوقت إلى الحركة الوطنية الديمقراطية، رئيسا للحكومة. وكانت خطوة شريف الأولى هى وضع مشروع دستور جديد حديث يعطى المجلس صلاحيات تتيح عدم إصدار أى قانون دون موافقته، ويجعل النظار (الوزراء) مسئولين أمامه (عن جميع الأحوال والأعمال المختصة بها إدارتهم) وحظر فرض أى ضرائب دون إقراره.
واقترنت معركة دستور 1879 بالصراع الذى خاضته الحركة الوطنية الديمقراطية الناشئة، بجناحها المدنى، ممثلا فى عدد متزايد من المثقفين وأبناء العائلات الكبيرة وجناحها العسكرى الذى قاده أحمد عرابى، ضد استبداد الخديو وأسرة محمد على والخضوع للنفوذ الأجنبى الذى دخل من باب الديون وأخذ يتنامى ويفرض شروطا بدأت برفض تخويل مجلس النواب حق تقرير الميزانية بدعوى المحافظة على حقوق الدائنين الأجانب. ورغم نجاح الحركة الوطنية الديمقراطية فى إرغام الخديو على توقيع مرسوم «دكريتو» لإصدار الدستور الجديد فى 7 فبراير 1882، فقد تفاقمت الأزمة التى كان هذا الدستور مكوناً أساسياً فيها وقادت إلى الاحتلال البريطانى فى سبتمبر من العام نفسه.
وظل الارتباط قائماً بين معركة الدستور والنضال الوطنى الديمقراطى ضد الاحتلال الذى جثم على صدور المصريين والاستبداد الذى اشتدت وطأته تحت حراب هذا الاحتلال. وكان شعار «الاستقلال والدستور» تعبيراً دقيقاً عن هذا الارتباط وأساساً لمعركة دستور 1923 التى تميزت على سابقتها (1879 - 1882) بأنها شملت محتوى هذا الدستور ونصوصه وليس فقط مبدأ الحصول عليه.
فكان انتزاع تصريح 28 فبراير 1922، الذى اعترفت فيه بريطانيا باستقلال مصر رسمياً، بينما استمر الاحتلال فعلياً، بداية مرحلة جديدة شهدت سعياً إلى إعادة ترتيب الأوضاع الداخلية على أسس دستورية فى الوقت الذى تواصل فيه النضال الوطنى ضد الاحتلال من أجل الاستقلال الكامل. وشملت معركة دستور 1923، فى هذا السياق، معركتين دارت أولاهما حول كيفية وضع مشروعه، وتركزت الثانية على محتواه، وبصفة خاصة توزيع السلطات، وبصفة أخص صلاحيات الملك.
وقد بدأت معركة طريقة وضع الدستور عندما تراجعت حكومة عبدالخالق ثروت عن تعهد حكومة عدلى يكن فى برنامجها المقدم فى مارس 1921 بأن «يكون وضع الدستور من اختصاص جمعية وطنية تأسيسية». فقد قررت حكومة ثروت فى أبريل 1922 تشكيل لجنة تقوم بهذه المهمة وتضم ثلاثين عضوا (من ذوى الكفاءات من الوزراء السابقين ومن رجال العلم والقانون والرؤساء الروحانيين والأعيان). ولذلك رفض حزب الأغلبية حينئذ (الوفد) تلك اللجنة وأصر على انتخاب جمعية وطنية تأسيسية (حتى لا يكون الدستور منحة من أحد أو عرضة للعبث). ووصف زعيمه سعد زغلول لجنة الثلاثين بأنها «لجنة الأشقاء». وعندما دُعى «الوفد» إلى المشاركة فيها بعضوين أو ثلاثة، رفض وأصر على موقفه.
ومع ذلك تم تشكيل لجنة الثلاثين تحت ضغط شعبى واسع دفع رئيس الحكومة التى شكلتها إلى ضم أكثر من عشرة من أعضاء الجمعية التشريعية القديمة إليها؛ سعياً لأن يضفى عليها صفة تمثيلية افتقدتها. وهذا هو ما دفعه أيضا إلى ضم ممثلين لما كان يطلق عليه «طوائف الأمة» مثل بطريرك الأقباط واثنين آخرين من المسيحيين وواحد من اليهود وآخر ممثل لعرب البادية.
وحدد قرار تشكيل اللجنة اختصاصها بوضع مشروع وعرضه على الحكومة لتسترشد به فى وضع الدستور.
وكان هذا التحديد، الذى يجعل الحكومة هى صاحبة القرار النهائى، مدخلا لمعركة حول صلاحيات الملك الذى أراد أن يوسع سلطاته الدستورية عبر الضغط على الحكومة لتعديل المشروع الذى أعدته اللجنة فى هذا الاتجاه. كما كانت صلاحيات الملك موضع خلاف فى داخل اللجنة قبل أن تنتهى من مشروعها. وفجّر ذلك الخلاف مناقشات فقهية قال د. محمد حسين هيكل فى مذكراته إنها «لم تخل من العنف».
وقد نجح الملك وأنصاره، مستندين على قوة الاحتلال الفعلية، فى استخدام الحكومة لتعديل المشروع الذى وضعته اللجنة لدعم سلطة القصر والحد من سيادة الأمة فعلياً بعد أن فشلت فى حذف المادة الثالثة والعشرين التى كانت تنص على أن «جميع السلطات مصدرها الأمة واستعمالها يكون على الوجه المبين فى الدستور». وبذلك انتهت معركة دستور 1923 نهاية إيجابية عبر ترسيخ مبدأ الحق فى الدستور الذى كان موضع نزاع من قبل، وأخرى سلبية نتيجة مسخ المشروع الذى أعدته لجنة الثلاثين وتقويض التوازن النسبى الذى قام عليه بين سلطة الملك وصلاحيات البرلمان. ورغم أن هذا التوازن أعطى رأس الدولة من الأصل صلاحيات أوسع بكثير مما هو معهود فى أى نظام برلمانى، فلم يكتف الملك فؤاد بها بل عمد إلى مزيد من التوسع فيها.
ولكن هذه المعركة كانت خطوة إلى الأمام فى تاريخ مصر الدستورى تلتها خطوات إلى الوراء منذ أن رفض مجلس قيادة الثورة مشروع دستور 1954 وألقى به فى صندوق القمامة وفقاً لتعبير الأستاذ مصطفى مرعى، والذى أعاد الأستاذ صلاح عيسى استخدامه عنواناً لكتابه البديع «دستور فى صندوق القمامة».
فكان مشروع دستور 1954 فى حد ذاته خطوة إلى الأمام، رغم أنه أُعد بواسطة لجنة معينة ضمت خمسين عضواً، فلم تحدث معركة حول تشكيل هذه اللجنة، بخلاف الحال بالنسبة إلى لجنة الثلاثين التى كانت معينة أيضاً عام 1922، وكذلك «الجمعية التأسيسية» المنتخبة من مجلسى الشعب والشورى عام 2012.
فبعد إعلان سقوط دستور 1923 فى بيان أذاعه اللواء محمد نجيب فى 9 ديسمبر 1952، صدر مرسوم ملكى (ظلت الملكية قائمة رسمياً من خلال لجنة الوصاية على الدستور حتى 18 يونيو 1953) بناء على طلب رئيس الوزراء حينئذ محمد نجيب بتأليف لجنة (لوضع مشروع دستور جديد يتفق مع أهداف الثورة) فى 13 يناير 1953، وضمت تلك اللجنة ممثلين لمختلف الاتجاهات السياسية والفكرية الليبرالية (وفديين وأحرار دستوريين وسعديين) والإسلامية (إخوان مسلمين) واليسارية الوسطية (حزب مصر الاشتراكى)، وعدداً من الفقهاء القانونيين وثلاثة من رؤساء الهيئات القضائية وثلاثة من رجال الجيش والشرطة المتقاعدين وشيخ الأزهر وبطريرك الأقباط.
ومثلما لم تحدث معركة حول تشكيل تلك اللجنة، لم يكن هناك صراع بشأن نصوصه، فقد انتهت بسرعة بوادر أزمة فى داخل اللجنة حول المادة التى تتضمن أن الإسلام دين الدولة، فقد حدث خلاف بين من رأوا ضرورة استمرارها على هذا النحو كما كانت فى دستور 1923 ومن دفعوا بأن الدساتير العصرية لا تحتوى على مثل هذه المواد، وتدخل «البكباشى» جمال عبدالناصر فى هذه الأزمة عندما صرح لمجلة «التحرير» فى 21 مايو 1953 بأنه يؤيد أن ينص الدستور على أن دين الدولة هو الإسلام، ولقى هذا الرأى قبولاً واسعاً فى الصحافة حينئذ، الأمر الذى انعكس على أعمال لجنة الدستور فانتهت إلى إبقاء النص على أن الإسلام دين الدولة كما هو.
ولم يحدث خلاف على نصوص المشروع بعد ذلك، فهى لم تُناقش أصلاً؛ لأن مجلس قيادة الثورة رفضه، فكانت الظروف السياسية قد اختلفت تماماً بين تشكيل لجنة الخمسين فى 13 يناير 1953 وتقديم مشروعها إلى مجلس قيادة الثورة فى 15 أغسطس 1954، كما تغير ميزان القوى وأصبح مختلاً لمصلحة هذا المجلس أو بالأحرى الاتجاه الذى يميل إلى السلطة المطلقة فى داخله، فكان إلقاء مشروع دستور 1954 فى صندوق القمامة بداية خطوات إلى الوراء فى حياة مصر الدستورية، فقد وُضع دستور 1956 فى غرفة مغلقة ونزل على الشعب من أعلى بلا مشاركة أو حوار وبدون أن يعرف أحد كيف أُعد مشروعه على وجه التحديد، وقل مثل ذلك عن دستور 1964.
وظل الأمر كذلك حتى دستور 1971 الذى أعد البرلمان (مجلس الأمة) مشروعه بموجب قرار أصدره الرئيس الراحل أنور السادات فى مايو 1971، بأن يكون هذا المجلس بمثابة لجنة مكلفة بمشروع دستور جديد سماه الدستور الدائم، على أن تنبثق منها لجنة تحضيرية من خمسين عضواً تختارهم من داخلها لوضع المسودة الأولى.
وقد ترشح لعضوية هذه اللجنة التحضيرية ثمانون عضواً، فكان مفترضاً أن ينتخب مجلس الأمة خمسين منهم أو تختار هيئة مكتبه هؤلاء الخمسين، غير أن رئيس المجلس اقترح زيادة عدد أعضاء اللجنة التحضيرية إلى ثمانين، بحيث ينضم إليها كل من تقدم برغبته فى ذلك، ووافق المجلس بصورة آلية كالمعتاد منذ عام 1957.
ولم تحدث أية معركة حول دستور 1971، مثلما كانت الحال بالنسبة إلى دستورى 1956 و1964؛ لأن القوى الوطنية الديمقراطية التى تريد دستوراً يجعل السيادة للشعب حقاً كانت هزيلة بعد إقصائها من المشهد السياسى منذ أواخر 1954، فضلاً عن أنه لا قيمة للدستور ولا أهمية بالتالى لخوض معركة حوله إلا فى دولة دستورية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.