تجربة جديدة تماما تلك التي تشهدها مصر الآن ويضطلع البرلمان فيها بالدور الرئيسي في عملية صنع الدستور. فلم تعرف البلاد مثل هذه التجربة من قبل في تاريخها الدستوري الذي بدأ فعليا عام 1879. وشهد طريقتين قي عملية صنع الدساتير. وكان للحكومة أو السلطة التنفيذية بوجه عام الدور الرئيسي في هذه العملية. وهو الدور الذي آل إلى البرلمان أخيرا. فقد تولت السلطة التنفيذية بنفسها إعداد أول مشروع للدستور، وكان يطلق عليه "اللائحة الأساسية"، عام 1879 ثم وضعت الإعلانات الدستورية والدساتير في أعوام 1953 و1956 و1958 و1964. ويسجل لحكومة (أو نظارة) شريف باشا أنها هي التي افتتحت تاريخ مصر الدستوري الحديث عندما قدمت إلى مجلس شورى النواب مشروع اللائحة الأساسية في 17 مايو 1879 ويعتبر هذا المشروع نقلة نوعية في زمنه، إذ وضع الأساس لانتخاب برلمان حديث ديمقراطي يضاهي ما كان موجودا في الدول الديمقراطية التي كان عددها ضئيلا في العالم حينئذ. ولكن التدخل الاستعماري الأوروبي أوقف ذلك التحول عبر الضغط على "الباب العالي" لخلع الخديو إسماعيل وتنصيب توفيق الذي فض مجلس شورى النواب وعطل الحياة السياسية وأدخل البلاد في نفق مظلم أفضى إلى الاحتلال البريطاني. ولذلك كان دور السلطة التنفيذية في صنع مشروع الدستور بنفسها إيجابيا وديمقراطيا في تلك المرة، بخلاف المرات التالية، سواء عندما أصدرت دستور 1930 في عملية انقلاب على دستور 1923، أو حين وضعت "إعلانات دستورية" عدة استنادا إلى شرعية ثورية في 1953، ثم عندما وضعت الدستور بعد ذلك في 1956 و1958 و1964. أما الطريقة الثانية التي قامت فيها السلطة التنفيذية بالدور الأول في صنع الدستور فكانت من خلال تعيين لجنة لوضع مشروعه في 1922 و1953 و1971 وبالرغم من أن اللجنة التي عينتها السلطة التنفيذية لوضع مشروع دستور 1971 كان لها طابع برلماني، فلم يكن أسلوب اختيار اللجنتين الأخريين أكثر تعبيرا عن مكونات المجتمع. ولكن اللجنة التي وضعت مشروع دستور 1954، الذي لم يجد طريقه إلى التنفيذ مثله في ذلك مثل مشروع اللائحة الأساسية لعام 1879، كانت أفضل حالا. فلم تعبر "لجنة الثلاثين"، التي ألفتها وزارة عبد الخالق ثروت في أبريل 1922، عن أهم المكونات السياسية للمجتمع في ذلك الوقت حيث لم يزد تمثيل الأغلبية الحزبية التي كانت كاسحة عن 10 في المائة من أعضائها. كما لم تعبر عن أهم المكونات الاجتماعية، وخصوصا الفلاحين منتجي ثروة البلاد الأساسية في ذلك العصر، في حين هيمن كبار الملاك الزراعيين والأعيان ووجهاء الريف عليها. ومع ذلك وضعت تلك اللجنة مشروع دستور كان أكثر من جيد بمعايير عصره، ويعتبر معقولا حتى الآن. وقل مثل ذلك، بل أكثر، عن مشروع دستور 1954 الذي قرر القائد العام للقوات المسلحة بصفته رئيس حركة الجيش البدء في تأليف لجنته في 10 ديسمبر 1952 عندما أعلن (باسم الشعب سقوط دستور 1923) وزف إلى هذا الشعب بشرى أن (الحكومة آخذة في تأليف لجنة تضع دستورا جيدا يقره الشعب ويكون منزها عن عيوب الدستور الزائل ومحققا لآمال الأمة..). وضمت "لجنة الخمسين" تلك ممثلين لسبعة أحزاب سياسية وجماعة الإخوان المسلمين التي مثلها عبد القادر عودة وصالح عشماوي وحسن العشماوي، وكذلك ضمت ممثلين للهيئات القضائية ورجال القانون ورجال الدين والجيش والشرطة، ولكنها خلت من أي تمثيل مجتمعي. فلم تضم ممثلين لمنظمات وهيئات المجتمع باستثناء الدينية منها. كما لم تضم إلا تمثيلا محدودا لفئات المجتمع الدنيا والوسطى في الوقت الذي كان معظم أعضائها من شرائحه الطبقية العليا. ومع ذلك وضعت تلك اللجنة مشروع دستور أفضل من ذلك الذي تم إصداره عام 1923. ولم يكن ممكنا توقع حدوث ذلك قبل أن تبدأ "لجنة الخمسين" عملها ويتضح الاتجاه الذي اختارته ومضت فيه. غير أنه لم يكن هناك خلاف على لجنة الخمسين بخلاف ما يحدث الآن بشأن "لجنة المائة"، وما حدث من قبل عند تشكيل لجنة الثلاثين عام 1922. وإذا لم يتيسر حل هذا الخلاف وإعادة النظر في تشكيل "لجنة المائة" لتكون أكثر توازنا، سيكون عليها أن تحدد اتجاهها منذ البداية حتى لا تفقد شرعيتها بشكل كامل. فثمة اتجاهان أمامها. أولهما سهل وآمن والإنجاز فيه سريع ومرض لمختلف فئات المجتمع السياسية والاجتماعية، وهو الانطلاق من دستور 1971 واعتماد أبوابه الأربعة الأولى (حتى المادة 72) وفق آخر تعديلات حدثت في بعضها بموجب استفتاء 19 مارس 2011، والتركيز بالتالي في إعادة كتابة الأبواب الثلاثة التالية وخصوصا الباب الخامس (نظام الحكم) الذي أقام نظاما مطلقا يدور حول فرد ويرتبط به. وثمة ميل عام في الساحة السياسية إلى نظام حكم مختلط يوزع السلطة بين أكثر من مركز ويحول دون تركزها في يد واحدة مرة أخرى. ومن شأن هذا الاتجاه أن يبدد المخاوف الناجمة من وجود أغلبية في لجنة المائة للتيار الإسلامي بجناحيه الإخواني والسلفي (حوالي 52%) فضلا عن 25% آخرين ينتمون إلى المدارس الإسلامية العامة. أما الاتجاه الثاني الذي ينطوي على خطر إثارة خلافات عقائدية وأيديولوجية قد لا يمكن حلها فهو كتابة دستور جديد تماما وتجاهل تراثنا الدستوري الذي يعتبر القسم الأول في دستور 1971 تعبيرا عنه. قد لا يكون هو التعبير الأفضل، ولكنه أفضل من السيناريو المخيف الذي قد يترتب على البدء من نقطة الصفر. فإذا شرعت "لجنة المائة" في إعداد ما قد يظن الاتجاه السائد فيها أنه دستور جديد تماما قد ينتهي بها الأمر إلى كتابة فصل مأساوي في تاريخنا الحديث. والأكيد أن عددا لا بأس به من أعضائها سيقاومون مثل هذا الاتجاه أو يغادرونها وينضمون إلى المنسحبين إذا لم يتمكنوا من ذلك. نقلا عن جريدة الأهرام