علي مدي سنوات ما بعد 1952 كانت مصر تحكم حكماً دكتاتورياً في ظل دساتير صاغها متخصصون لتناسب طموح الحاكم الفرد وتركز كل السلطات في يديه. كان هذا شأن ضباط يوليو في بداية حركتهم حين أصدروا في 10 ديسمبر 1952 إعلاناً دستورياً ممهوراً باسم اللواء محمد نجيب " رئيس حركة الجيش" يتضمن إسقاط دستور 1923 ويعد "أن الحكومة ستعمل علي تشكيل لجنة تضع مشروع دستور جديد يقره الشعب ويكون منزهاً عن عيوب الدستور الزائل محققاً لآمال الأمة في حكم نيابي نظيف سليم". ثم لم يلبث أصحاب يوليو أن أصدروا في 10 فبراير 1953 إعلاناً دستورياً ثانياً بتوقيع اللواء محمد نجيب " قائد ثورة الجيش" تجاهل الوعد بتشكيل لجنة لوضع دستور جديد، وجاء متضمناً مبادئ عامة أولها أن جميع السلطات مصدرها الأمة، وأن المصريين لدي القانون سواء، وأن الحرية الشخصية وحرية الرأي مكفولتان في حدود القانون، وأن حرية العقيدة مطلقة وتحمي الدولة حرية القيام بالشعائر الدينية وأن تسليم اللاجئين السياسيين محظور، كما أن الضرائب والرسوم لا تفرض إلا بقانون. وحين تعرض الإعلان الدستوري لنظام الحكم إذا به يستلب السيادة من الأمة ويعهد بها إلي قائد الثورة بمجلس قيادة الثورة، كما اختص مجلس الوزراء نفسه بالسلطة التشريعية وأن يمارس السلطة التنفيذية مع الوزراء. ثم قرر الإعلان الدستوري أن يتألف من مجلس قيادة الثورة ومجلس الوزراء مؤتمراً يناقش السياسة العامة للدولة. وقد تم تشكيل لجنة لوضع دستور جديد عرف باسم "دستور 1954" والذي رفضه ثوار يوليو كونه نحي نحواً ديمقراطياً وأخذ بمفهوم الجمهورية البرلمانية التي لا يتمتع فيها رئيس الجمهورية بسلطات تسمح له بالسيطرة علي جميع سلطات الدولة ومقدراتها. وفي 16 يناير 1956 أعلن عن دستور جديد جاءت مقدمته شاعرية وحماسية باعتباره صادراً عن الشعب " نحن الشعب المصري الذي انتزع حقه في الحرية والحياة، بعد معركة متصلة ضد السيطرة المعتدية من الخارج، والسيطرة المستغلة من الداخل. نحن الشعب المصري الذي استلهم العظة من ماضيه، واستمد العزم من حاضره، فرسم معالم الطريق إلي مستقبل متحرر من الخوف، متحرر من الحاجة، متحرر من الظلم". وكان دستور 1956 بداية نشأة النظام الرئاسي حيث تركزت السلطة التنفيذية في رئيس الجمهورية من دون أن ينص في الدستور علي وجود نائب للرئيس، حتي أن المادة 127 نصت علي أنه إذا قام مانع مؤقت يحول بين رئيس الجمهورية ومباشرة اختصاصاته جاز له أن ينيب أحد الوزراء بعد موافقة مجلس الأمة. من جانب آخر، فقد قنن دستور 1956 بداية نشأة التنظيم السياسي الأوحد حين نصت المادة رقم 192 علي أن " يكوّن المواطنون اتحاداً قومياً للعمل علي تحقيق الأهداف التي قامت من أجلها الثورة..." وأن الاتحاد القومي يتولي الترشيح لعضوية مجلس الأمة. ثم توالت الدساتير في 1958 1962 1964 وصولاً إلي دستور 1971 وما جري عليه من تعديلات في 1980 و 2005 و2007. وكانت التجربة التاريخية لمصر مع دساتير ما بعد يوليو 1952 أنها جميعاً كانت مصنوعة بهدف تكريس حكم الفرد وإخضاع كافة السلطات له سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، الأمر الذي انهارت معه دعاوي الديمقراطية والتعددية الحزبية، وعاثت السلطة التنفيذية عبثاً بتزوير إرادة المواطنين في الانتخابات التشريعية والاستفتاءات علي ترشيح رئيس الجمهورية قبل تعديل المادة 76 في 2005 مما أدي إلي عزوف الناس عن المشاركة في تلك اللعبة المقيتة التي أدارها حزب الحاكم الأوحد سواء ما كان يسمي بالاتحاد القومي أو الاشتراكي وصولاً إلي الحزب الوطني الديمقراطي الذي أسقطته ثورة الشعب في 25 يناير 2011 وكان كل ذلك يتم برضي الرئيس وتوجيهاته الذي رأي في التزوير الفاضح والشامل لانتخابات مجلس الشعب في 2010 مجرد تجاوزات وأبدي أسفه علي أن تمثيل المعارضة في المجلس المطعون في شرعيته لم يكن بالقدر الذي تمناه!! واليوم وقد نجحت ثورة الشباب والشعب في إسقاط رأس النظام السابق يوم 11 فبراير 2011 يظل التحدي الحقيقي أن يتحقق الانتقال بالسلطة من المجلس الأعلي للقوات المسلحة إلي سلطة مدنية منتخبة انتخاباً ديمقراطياً نزيهاً وفق دستور جديد يتجنب سلبيات وآثام دستور 1971. ويثور جدل كبير الآن حول أفضلية وضع دستور جديد تماماً وهو الاتجاه الذي ينادي به شباب الثورة وكثير من أقطاب المعارضة ورموزها، أم يكتفي بتعديل بعض مواد من الدستور الحالي - وهو الاتجاه الذي أخذ به المجلس الأعلي للقوات المسلحة. والرأي عندنا أنه في ضوء الإعلان الدستوري الصادر عن المجلس الأعلي للقوات المسلحة يوم الأحد 13 فبراير2011 والذي قرر تعطيل دستور 1971 والاقتصار علي تعديل بعض المواد، فإنه فيما عدا تعديل المواد 76 و77 و88 فسوف تجري الانتخابات الرئاسية القادمة في حدود الدستور القائم والذي صيغ بمنطق النظام الرئاسي مع تركيز صلاحيات هائلة في يد رئيس الجمهورية الأمر الذي أتاح له السيطرة الكاملة علي جميع سلطات الدولة ومؤسساتها وأدي إلي تحول الدولة إلي حكم الفرد الواحد يسانده حزب سيطر علي الحكم علي مدي ثلاثين عاماً بتزوير الانتخابات وإفساد الحياة السياسية واستخدام الأداة الأمنية المفرطة في قسوتها للتعامل مع كل مطالب الإصلاح والتطوير، كما تهافتت أدوار باقي سلطات الدولة سواء التنفيذية أو التشريعية وحتي السلطة القضائية لم تسلم من تدخلات أثارت مطالب القضاة بضرورة تحقيق استقلال القضاء. والمفهوم من توجه المجلس الأعلي للقوات المسلحة أن تجري الانتخابات التشريعية ثم الرئاسية، ثم يكون علي الرئيس المنتخب الدعوة إلي انتخاب جمعية تأسيسية لوضع دستور جديد. وحيث لا يوجد ضمان أن يلتزم الرئيس المنتخب بالتوجه نحو إعداد الدستور الجديد وفق النظام البرلماني الذي تتوافق عليه الأمة، لهذا نري أنه من الأفضل استثمار الفترة الانتقالية لوضع دستور جديد للبلاد انطلاقاً من مشروع دستور 1954 وغيره من مشاريع الدساتير التي قام بإعدادها كثير من المنظمات الحقوقية ومنظمات حقوق الإنسان علي أساس النظام البرلماني وتأكيد التوجهات الديمقراطية التي يتوافق عليها جميع الأحزاب والقوي السياسية وتعبر عنها مطالب ثورة الشباب والشعب في 25 يناير 2011. ونري أن تحقيق غاية المجلس الأعلي للقوات المسلحة في نقل السلطة سلمياً إلي رئيس منتخب وحكومة منتخبة ديمقراطياً يؤكد ضرورة اعتبار الدستور الحالي ساقطاً كون الرئيس المتنحي لم يلتزم به حين أعلن تنحيه عن منصبه وكلف المجلس الأعلي للقوات المسلحة بإدارة شئون البلاد علي خلاف ما تنص عليه المادة رقم 84 التي تنص علي أنه " في حالة خلو منصب رئيس الجمهورية أو عجزه الدائم عن العمل يتولي الرئاسة مؤقتا رئيس مجلس الشعب، وإذا كان المجلس منحلا حل محله رئيس المحكمة الدستورية العليا.. ويعلن مجلس الشعب خلو منصب رئيس الجمهورية. ويتم اختيار رئيس الجمهورية خلال مدة لا تجاوز ستين يوما من تاريخ خلو منصب الرئاسة". إننا نري الطريق الأفعل لتحقيق أماني الشعب في قيام حكم ديمقراطي رشيد تكون فيه السيادة للشعب حقيقة وليس مجرد شعار فارغ من المضمون، يقتضي إصدار إعلان دستوري يعلن صراحة عن إلغاء دستور 1971 ويتضمن المبادئ الأساسية للحكم خلال الفترة الانتقالية، وتكليف لجنة دستورية بوضع مشروع دستور جديد للبلاد يجري استفتاء الشعب عليه، وفي هذه الحالة يكون من اللازم أن تضم اللجنة فقهاء دستوريين وقضاة وممثلين للأحزاب والقوي السياسية وممثلي شباب 25 يناير ومنظمات المجتمع المدني. ونري أن يتضمن الإعلان الدستوري صراحة أن الهدف هو وضع دستور جديد يقوم علي أساس أن مصر جمهورية برلمانية، وأنها دولة مدنية ديمقراطية اساسها سيادة القانون والعدالة الاجتماعية، وتفعيل آليات ديمقراطية تسمح بتداول السلطة سلمياً وحضارياً بين الأحزاب السياسية ، وتأقيت مدة شغل المناصب القيادية في الدولة ومنع تجاوزها. كما يجب أن يبين الإعلان الدستوري التوجه نحو تأكيد الحرية الاقتصادية وآليات السوق وحرية المبادرة كأسس لتنظيم الاقتصاد الوطني، مع تأكيد مسئولية الدولة عن تطوير سياسات اقتصادية واجتماعية تؤمن المواطنين ضد الفقر، وتضمن توزيعاً عادلاً للدخل القومي في ظل استراتيجية وطنية للتنمية الشاملة والنمو الاقتصادي المستدام وتضع حداً لتهميش الفئات الأضعف والأفقر في المجتمع. إن آمال المصريين تتركز في حكم ديمقراطي رشيد يقود المجتمع نحو نهضة شاملة يسهم فيها كل أبناء الوطن، يحكمi القانون وتظله ديمقراطية حقيقية وعدالة اجتماعية، حكم يقضي علي الفساد ويلتزم بأن السيادة الحقيقية للشعب، ويكون للمواطنين سلطة لمحاسبة الحكام وتغييرهم وفق آليات دستورية وقانونية حرموا منها طوال ما يقرب من ستين عاماً. إن المصريين لا يريدون عودة الحكم الشمولي راعي الفساد مرة أخري متخفياً تحت شعارات تبدو ديمقراطية يحتويها دستور ديكتاتوري سقط بفضل ثورة 25 يناير. وفي ظني أن خير ما يقدمه المجلس الأعلي للقوات المسلحة لمصر الغالية هي أن يتيح لها فرصة الحصول علي دستور ديمقراطي يليق بشعبها العظيم وتاريخه المجيد، ويفتح لها آفاق المستقبل.