الكنيسة القبطية أقدم مؤسسة مصرية، فعمرها يقارب ألفى عام، لذلك بعد رحيل البابا شنودة الثالث شغل الرأى العام سؤال: هل سوف يستمر البابا 118 على خطى البابا الراحل؟ لمحاولة الإجابة على هذا السؤال لا بد لنا أن نتوقف أمام حزمة من الثوابت الموضوعية والتاريخية التى تتحكم فى اختيارات ومسارات باباوات الكرسى المرقسى. أولاً: الراحل شنودة الثالث، البابا العروبى الثانى بعد بنيامين الذى رحب بعمرو بن العاص، ولذلك هو لم يقاتل كضابط دفاعاً عن فلسطين 1948 فحسب، بل كافح بالقلم، وهو صاحب مواقف مشهودة ضد التطبيع؛ الأمر الذى أدى إلى نفيه من السادات إلى دير الأنبا بيشوى ليكون بذلك البابا الثانى الذى تعرض للنفى بسبب مواقفه الوطنية ضد الاحتلال بعد كيرلس الخامس الذى نفاه الاحتلال البريطانى إلى دير البراموس فى عام 1892. ومن حيث فقه اللغة العربية والبلاغة فهو البابا الثانى أيضا بعد غبريال بن تريك الذى قام بتعريب الكنيسة والقبط فى القرن العاشر.. كل ذلك وأكثر يؤكد على أن البابا شنودة كان بابا استثنائياً لا يمكن القياس عليه. ثانياً: ثوابت الكنيسة التى لا يمكن لباباواتها الخروج عليها، مثل الموقف الإيجابى من الإسلام، فمنذ البابا بنيامين (البابا 38) الذى استقبل عمرو بن العاص عام 641م وحتى البابا شنودة الثالث، جلس على سدة البطريركية 79 بابا لم يكن لأحدهم مشكلة مع الإسلام بل مع حكام (حدث ذلك مع 11 بابا منهم). ثالثاً: الدور الوطنى للكنيسة وباباواتها ضد المحتلين، ذلك الدور الذى لم ينقطع منذ الموقف من الصليبين وحتى الصهاينة، منذ تأسيس الدولة الحديثة على يد محمد على (1805) وحتى الآن تعاقب على الكرسى المرقسى تسعة باباوات (بطرس السابع، كيرلس الرابع، ديمتريوس الثانى، كيرلس الخامس، مكاريوس الثالث، يوساب الثانى، كيرلس السادس، شنودة الثالث)، كلهم كانوا ذوى مواقف وطنية حتى مَن اتُّهِم منهم بالفساد مثل يوساب أو يؤانس صديق الملك فؤاد. رابعاً: قاعدة حق الشعب فى اختيار راعيه، تعد الكنيسة القبطية هى الوحيدة بين كنائس العالم التى تتبناها إلى حد أنه يمكن اعتبار الديمقراطية هى السر الثامن المضاف إلى أسرارها السبع. خامساً: شأنهم شأن الجماعات المرجعية الروحية، يعتقد الأقباط أن روح الله تدخل فى اختيار باباواتهم عبر إرادات تميز أعضاء المجمع الانتخابى، لكن المجمع هذه المرة يضم أقباطاً من قارات الدنيا الخمس، وأصحاب اتجاهات مختلفة دولية وداخلية، ثورية ورجعية. سادساً: تعد لائحة انتخاب البطريرك هى حجر الأساس فى الخلافات بين رجال الدين والمدنيين، حدث ذلك مع لائحة 1927، ولائحة 1957، والأخيرة كانت سبباً فى تدخل الرئيس عبد الناصر عبر وزير تموينه رمزى استينو، حيث لم يكن بمستطاع ناصر أن يكون رئيساً ب «استفتاء» فى الوقت الذى يتم فيه انتخاب البابا؛ لذلك تم إقحام «القرعة الهيكلية» كبدعة غير مسيحية كما ذهب فى وصفها نيافة الأنبا أغريوغوريس الراحل 1971، وهى حصان طرواده الذى تختبئ داخله الأطراف الخارجية. سابعاً: يسيطر على المشهد المصرى الدفاع عن الهوية من منظور دينى، الأمر الذى قد يدفع بالمجمع الانتخابى إلى تغليب نزعة العودة إلى الصحراء لانتخاب أحد الرهبان الأصوليين فى مواجهة مناخ التأسلم. كل تلك الأسرار سوف تحكم عوامل اختيار البابا القادم، وستفرض شروطها الموضوعية على المرجعيات الروحية والوطنية والدولية التى سوف يلتزم بها البابا 118، والذى لن يعبر عن المدن الخمس الكبرى كما يقال، بل سوف يكون مضطراً للتعبير عن أكثر من مئة مدينة، وأصحاب عشرات الجنسيات، علماً بأن ما يقارب 20? من القبط لم تعد مصر وطناً يعيشون فيه بل صارت الكنيسة هى الوطن والأرض والهوية، والمتبقون من الأقباط بعضهم تحرر فى ميادين الثورة وخرجوا بالكنيسة للوطن، ولكن البعض الآخر ما زالوا ينتظرون الخلاص ليس على يد المسيح بل على يد العسكر !