فى أقل من أسبوع فوجئ الجميع بحكمين صادرين من المحكمة الدستورية العليا يقضيان بعدم دستورية بعض مواد قانونَى تقسيم الدوائر والانتخابات، والبقية تأتى!! ولكون المصارحة والمكاشفة خيراً ألف مرة ومرة من الطبل والزمر والرقص فوق الخرائب والأطلال، لأنه ما قامت دول ونهضت إلا بهما، وما انحدرت أمة وتخلفت إلا بالنفاق والخداع ودفن الرؤوس فى الرمال، لذا فقد رأيت أن أتناول اليوم، وبكل صراحة دون قسوة أو تجريح، قضية هى الأهم فى تلك المرحلة التى تمر بها البلاد، وما تمثله من عقبة شائكة فيما تقترحه الدولة وتسنه من تشريعات مهمة وضرورية للوطن والمواطن ولإصلاح العديد من الخلل التشريعى والقانونى الذى يصم العديد من القوانين المصرية القائمة بعدم المشروعية. وأقرر هنا أن حكمَى المحكمة الدستورية العليا الصادرين مؤخراً وما ترتب عليهما من انزعاج شديد لدى الكافة على مصير الكثير من القوانين التى صدرت مؤخراً، وكذا على مشروعات القوانين التى تعدها الحكومة حالياً تأتى فى ظل دستور يحمل فى طياته تفصيلات وعبارات ومعايير غاية فى التعقيد والصعوبة بشكل يعصف بأى عمل يمكن أن يقوم به المشرع، فالغالبية العظمى من نصوص الدستور تقترب من الشعارات والخطب الرنانة التى تغل يد المشرّع وتُعرّض أى عمل من أعماله لشبهة عدم الدستورية. إننا، وفى هذا المكان وعلى صفحات جريدة «الوطن» بأعدادها الصادرة بتاريخ 16، 23، 30/10/2014 وبإسهاب شديد وبصراحة ووضوح، تناولنا العوار الذى حملته نصوص الدستور فيما يخص قانون تقسيم الدوائر وعلى سبيل التخصيص نص المادة 102 منه، وما تشكله تلك الصياغة للمادة سالفة الذكر من إشكالية قد تعرّض مسودة قانون تقسيم الدوائر الانتخابية التى كانت مطروحة للنقاش المجتمعى فى حينه، وبح صوتنا وتعالى صراخنا من أن القانون بصورته المطروحة سيُقضى بعدم دستوريته طالما ظلت معايير المادة 102 من الدستور هى الحاكمة لصعوبة تطبيق المعايير الثلاثة الواردة بها، وهى التوزيع العادل بين السكان والعادل بين المحافظات والمتكافئ بين الناخبين وعلى النحو الوارد تفصيلاً بتلك المقالات. وحذرنا من أن هناك من أراد أن يُدخل هذا الوطن فى دائرة مفرغة من الجدل واللغط والإشكاليات القانونية والدستورية للحيلولة دون انطلاق قاطرة الوطن على طريق المستقبل المنشود. وعرضنا للطريقة التى تم بها اختيار لجنة الخمسين، وما حمله تشكيلها من فئوية غلبت عليها ما بين ممثلين لفئات بعينها مثل المقيمين بالخارج والإخوة الأقباط وذوى الاحتياجات الخاصة والمرأة والعمال والفلاحين.. إلخ. وما لبثت تلك الفئات داخل اللجنة أن تحولت إلى مدافع عن حقوق من يمثلونهم دون النظر لمصلحة الوطن، وكان الشغل الشاغل لممثل كل فئة تحقيق أكبر قدر من المكاسب للفئة التى يمثلها، مما أدخلهم فى لعبة «شيلنى وأشيلك» أو «فوتلى وأفوتلك»، فخرج الدستور بالصورة التى هو عليها الآن. وحتى لا يُفهم من حديثى اليوم أننا نلقى اللوم على أحد أو نحاسب أحداً، لكن ما أردنا إلا التذكير فقط، وعملاً بمبدأ المكاشفة والمصارحة، أقرر وأثبت أن الأحكام الصادرة مؤخراً من محكمتنا العليا، وإن كانت الأولى فى ظل ذلك الدستور، فإنها لن تكون الأخيرة، لسوف نجد أحكاماً أخرى أخطر وأصعب مما صدر تخص قوانين أخرى شائكة قد تعرّض الوطن لتعقيدات قانونية خطيرة يتعذر تدارك أخطارها ولا يمكن علاجها لتعلقها بحياة المواطن ومعيشته، وعلى سبيل المثال فقد ورد بنصوص الدستور ضمن مواده أرقام 18، 19، 21، 23 التزام الدولة بتخصيص نسب محددة من إجمالى الناتج القومى ضمن الموازنة العامة للدولة لا تقل عن 4% للتعليم، 3% للصحة، 2% للتعليم الجامعى، 1% للبحث العلمى... إلخ، والأغرب من ذلك أنْ نص الدستور على التزام الدولة بزيادة تلك النسب تدريجياً لتتفق مع المعدلات الدولية. ولا اعتراض لنا على إلزام الدولة والحكومة بالإنفاق على تلك الخدمات، لكن المستغرب والعجيب هو تحديد نسب محددة بأرقام داخل الدستور والالتزام بزيادتها لتصل للمعدلات الدولية. والسؤال: ماذا لو لم تستطع الدولة إدراج تلك النسب المحددة، ولو فى حدها الأدنى، ضمن موازنتها العامة؟ وما العمل لو لم تستطع الدولة تنفيذ الالتزام وتحقيق تلك النسب وتدبير مواردها، خاصة أن الدولة تمر بظروف اقتصادية معقدة وعثرة مالية كبيرة يناضل السيد الرئيس والسيد رئيس الوزراء من أجل إقالتها من عثرتها؟ فإن لم تستطع الحكومة تنفيذ ذلك الالتزام الدستورى فالنتيجة الحتمية والإجابة الوحيدة لهذا التساؤل هى عدم دستورية قوانين الخطة والموازنة العامة للدولة بما تتضمنه من أبواب متعددة تشمل كافة مناحى الحياة فى الدولة من رواتب للعاملين ومخصصات الوزارات والهيئات والمحافظات، وكذا خطتها الاستثمارية. إن تلك النصوص وغيرها فيما يتعلق بالجانب الاقتصادى للدولة تغل يد الحكومة عن ممارسة رؤيتها فى إعداد الخطة والموازنة، وتجبرها على التزامات قد تستجد أحداث أو متغيرات ترى معها الحكومة مواجهتها دون أن يكون لديها قدرة على تلك المواجهة لغل يدها دستورياً عن ممارسة هذا الحق الأصيل. وبعيداً عن العوار الذى ينال من القوانين الاقتصادية فى الدولة نتناول نموذجاً آخر للعوار نسوقه على سبيل المثال لا الحصر لنؤكد خطورة الأمر، إذ نرى أن الدستور، فى المادة 130، عند تناوله حق عضو البرلمان فى استجواب الحكومة، حدد موعداً لمناقشة الاستجواب فى موعد غايته 7 أيام من تقديمه وبحد أقصى ستين يوماً، والسؤال: ماذا لو لم يُناقش الاستجواب فى هذا الموعد لسبب أو لآخر أو لكون المجلس غير منعقد أو حدث أمر عاجل أو ملح فرض على المجلس ضرورة مناقشته أو التصدى له لخطورته ولأهمية يقدرها أعضاؤه؟ والإجابة قولاً واحداً هى تعرّض كافة أعمال المجلس والحكومة لشبهة عدم الدستورية، مما يعرض البلاد لفراغ تشريعى وتنفيذى يعصف بمؤسساتها ويهدد أعمال مجلسها التشريعى. وهنا نقرر أن كافة دساتير العالم قد خلت من تلك التعقيدات والمواعيد التى لا نرى مكاناً للنص عليها سوى فى اللائحة الداخلية لمجلس النواب فقط، باعتبارها مواعيد تنظيمية لا يترتب على مخالفتها تلك الآثار المدمرة والرهيبة التى لا يمكن تداركها. الأمثلة على العوار كثيرة، والنصوص الدستورية جاءت فضفاضة ومطاطة وغير منضبطة ولا يمكن تحقيقها عند التطبيق الفعلى لصعوبة تطبيقها من ناحية ولتعارضها وتصادمها مع بعضها البعض ومع المصلحة العليا للوطن من ناحية أخرى، وتشكل فى معظمها ألغاماً وفخاخاً داخل نصوص الدستور، وحتما ستنفجر عند التطبيق الفعلى لها. ولا يخفى عن كل ذى بصر وبصيرة أنها ستكون مطية يمتطيها كل المتربصين بهذا الوطن ليمارسوا غايتهم فى الطعن على تلك القوانين لعدم دستوريتها ولمخالفتها نصوص الدستور، وسيكون أمراً مقضياً على المحكمة الدستورية العليا القضاء بعدم دستوريتها، وهنا ستكون المصيبة أعظم لتعلق تلك القوانين بحياة السواد الأعظم من أبناء الشعب المصرى وارتباطها الوثيق بمعيشتهم واحتياجاتهم الضرورية. يا سادة.. أشفقوا على من يتولى التشريع وسن مشروعات القوانين تحت مظلة دستور 2014 لكونه بين المطرقة والسندان، مطرقة الحاجة الملحة إلى إصدار قوانين تنظم حياة المواطن وترتقى بمستوى معيشته وتحقق آليات الدولة والحكومة فى العمل وسندان نصوص الدستور الفضفاضة والمطاطة، لذا لم أستغرب تصريح سيادة المستشار وزير العدالة الانتقالية عندما تناول احتمالية اللجوء إلى استفتاء الشعب المباشر على بعض القوانين، وأوقن أنه لم يكن يقصد من هذا التصريح سوى تصدير رسالة لمن يشتغل بالقانون ولمن يهمهم الأمر بأن الإشكالية ليست فى القانون لكنها فى الدستور، ولهذا كان تصريحه حول إمكانية اللجوء للاستفتاء حتى يفلت بالقانون من رقابة الدستور المعيب الذى يصم أى قانون وبأى صياغه بشبهة عدم الدستورية. لذا فإننا نقرر أن العوار الذى كشفت عنه أحكام محكمتنا العليا لا ولن يقتصر فقط على ما قضت به فى حكميها الأخيرين، لكنها بداية الغيث، وستتوالى الطعون، وستتوالى الأحكام بعدم الدستورية، ما دامت تلك النصوص بوضعها الحالى باقية. أما رؤيتنا فى الحل فستكون موضوع مقالنا المقبل بإذن الله، وللحديث بقية ما دام للعمر بقية.