- ظهر مصطلح التنافسية الوطنية على أيدى علماء إدارة الأعمال فى الولاياتالمتحدة فى أوائل الثمانينات من القرن الفائت، وذلك مع تزايد الشعور العام بأن مكانة الاقتصاد الأمريكى فى الاقتصاد العالمى آخذة فى التراجع، وقد انعكس هذا التراجع فى ضعف مستوى جودة المنتجات الأمريكية، وارتفاع كلفة رأس المال، وتحول أمريكا، فى منتصف الثمانينات من القرن العشرين، من أكبر دائن إلى أكبر مدين فى العالم، وفى فقدان الصناعات الأمريكية لجزء مهم من حصتها فى السوق العالمية لصالح منافسيها، لا سيما اليابان وأوروبا، وقد تجلَّى القلق بشأن احتمال فقدان الولاياتالمتحدة لمركز القيادة الاقتصادية والتكنولوجية للعالم فى كتب، من أهمها كتاب روبرت لورنس المعنون: «هل تقدر أمريكا على المنافسة؟»، المنشور عام 1984، ولكن الاهتمام بالتنافسية الوطنية تزايد على نحو ملحوظ فى عقد التسعينات عقب سقوط الاتحاد السوفيتى وانهيار المعسكر الاشتراكى فى شرق أوروبا وظهور النظام العالمى الجديد أُحادى القطبية ومن بعده مصطلح العولمة، كما شهدت التنافسية رواجاً كبيراً مع احتدام المنافسة عقب قيام منظمة التجارة العالمية فى يناير 1995، وهكذا جاء ميلاد المفهوم مرتبطاً بالصراع بين الكبار على القمة الاقتصادية للعالم بوجه عام، وبالأمن القومى الأمريكى بوجه خاص، لدرجة أن بعض الخبراء والمفكرين الأمريكيين اعتبروا أن قضية التنافسية الوطنية قد حلت محل سياسة احتواء الاتحاد السوفيتى على قائمة الأولويات الأمريكية. - هذا وليس للتنافسية الوطنية مفهوم ذو تعريف وحيد دقيق، كما أنه مفهوم لا يتمتع بالقبول العام حتى فى الدول المتقدمة التى نشأ فيها، فقد قابله البعض بالرفض المطلق بحجة أن التنافس فى المجال الاقتصادى يجرى أساساً بين الشركات لا بين الدول، بالإضافة إلى أن فكرة التنافسية عملياً ليست متاحة لجميع دول العالم، فالتنافس بين الدول عادة ما ينحصر فى عدد محدود من القوى الكبرى، وعلى الرغم من ذلك فإن التنافسية الوطنية -مفهوماً وسياسة- يمكن أن تجد لنفسها أساساً منطقياً معقولاً إذا نسبت التنافسية إلى المنتجات أو الصناعات الوطنية لا إلى الدول ذاتها، كما أن التنافسية الوطنية تصبح قضية ذات مغزى إذا عرف مجالها بالأنشطة التى تنطوى على تنافس بين الدول استناداً إلى مبدأ الميزة النسبية بشقيها الاستاتيكى الذى يستند إلى ما وهبته الطبيعة لكل بلد من عناصر إنتاج وفيرة مثل مقومات السياحة فى بلدنا، والديناميكى الذى يستند إلى البحث والتعلم والابتكار والتطوير التكنولوجى. - وعلى ذلك فإن التعريف المعقول للتنافسية الوطنية هو: «القدرة على إنتاج منتجات تستطيع اقتحام الأسواق الدولية واجتياز اختبار المنافسة الدولية فيها، كما تستطيع الصمود فى وجه منافسة المنتجات الأجنبية فى السوق الوطنية»، وطبقاً لهذا التعريف فإن التنافسية الوطنية من أهم الاستراتيجيات التى تعتمد عليها الدول النامية ضمن مجموعة استراتيجيات فى تحقيق التنمية الشاملة والنهضة المنشودة، حيث تضع الدولة لنفسها هدفاً أو قيمة معيارية ما تقيس عليها أداءها، وتحدد بناءً على ذلك دائرة التنافسية المناسبة لها وتعمل على صياغة رؤية وخطط استراتيجية تنمى هذه التنافسية وتحقق لها استدامة. - ومع الاحتفال بيوم العلم يجب أن نشير إلى أن هناك ارتباطاً وثيقاً بين مفهوم التنافسية الوطنية وبين البحث العلمى الذى يجب أن يدعم هذه التنافسية، بل وقد ينشئها من الناحية الديناميكية، ولا بد أن نذكر هنا بكثير من التقدير التجربة الصينية؛ فقد أجرت الصين عملية تحول وإعادة هيكلة كبيرة للسياسات الخاصة بالبحث العلمى منذ عام 1985م، وذلك بهدف تحويل اتجاهات البحوث العلمية إلى التطبيقات فى الصناعة والاقتصاد، وفى العام 1988م شرعت الصين فى إعداد برنامج قومى يعرف بTorch، والذى يهدف إلى تقوية وتنشيط عمليات الإبداع التكنولوجى والتركيز على تسويق هذه الإبداعات، وإتمام تحديث وتطوير عمليات التصنيع ورفع المحتوى التكنولوجى للمنتجات الصينية والاتجاه نحو العولمة، وتم تنفيذ البرنامج على المستوى المركزى وعلى مستوى أقاليم الصين الأخرى، وذلك عن طريق التوسع فى إقامة الحدائق والحاضنات والمركز التكنولوجية والقواعد الصناعية وبرامج التمويل الخاصة، وإعداد برامج للتوعية والتثقيف داعمة لهذا التوجه. - وقد أدى هذا البرنامج إلى خلق 54 حديقة تكنولوجية خلال التسعينات، ونجح فى إقامة 465 حاضنة حتى أكتوبر 2002م جميعها تقريباً حاضنات تكنولوجية، ما حقق للصين المركز الثانى فى العالم فى عدد الحاضنات بعد الولاياتالمتحدة، وقبل ألمانيا التى كانت تتربع على المركز الثانى بحوالى 300 حاضنة، ووصل عدد الشركات التى أقيمت فى هذه الحدائق التكنولوجية إلى 20796 شركة تقدم للسوق منتجات عالية التكنولوجيا، ويعمل بهذه الشركات نحو 2.51 مليون شخص، وهم فى الغالبية من ذوى المؤهلات العالية، وقد بلغ مجموع دخل هذه الشركات نحو 150 مليار دولار أمريكى، نتج عنها 17 مليار دولار أمريكى من الضرائب، أما الجامعات الصينية فقد أعيدت هيكلتها من خلال مشروع «211» لتكون داعمة لهذه الرؤية. هكذا يجب أن يفكر العالم ليصنع النهضة، وهكذا يجب أن نفكر حتى نصنع تنافسية وطنية لبلادنا تضعها على بداية طريق التنمية الشاملة.