في الوقت الذي تبقى فيه غزة شاهدا على تحول ملموس في الدور الذي تلعبه أوروبا في المحيط العالمي، في إطار حالة من استقلالية القرار الأوروبي عن القيادة الأمريكية، ربما للمرة الأولى، منذ عقود طويلة من الزمن، إلا أن هذا التغير حمل إرهاصات، كبيرة، تجلت في عوامل عدة، منها التغيير الكبير في إدارة علاقاتها الدولية، خلال السنوات الماضية، وهو ما يبدو واضحا في الانفتاح الجزئي على القوى المؤثرة في الأقاليم الأخرى، دون التقيد بالتوجهات التي تتبناها واشنطن، منها على سبيل المثال تجاوز الصراع التجاري بين أمريكا، خاصة تحت إدارة الرئيس ترامب، سواء في ولايته الأولى أو الثانية، عبر التعاون وتعزيز وتيرة التجارة معها، أو حتى في إطار العلاقة مع إيران، فالقارة العجوز لم تكن راضية عن قرار الانسحاب من الاتفاق النووي معها، في 2018، بل وفتحت قنوات اتصال مع طهران، وهو ما يعكس حقيقة مفادها أن استقلالية أوروبا لم تبدأ في نقطة غزة، وإنما انطلقت عبر نجاحها في إدارة علاقاتها الخارجية بعيدا عن الهيمنة الأمريكية. ولكن بعيدا عن مناطق الصراع الأمريكي، نجد أن إدارة العلاقات الأوروبية مع العالم الخارجي اتسمت بقدر من المرونة، فالقارة اتجهت نحو بناء شراكات منفصلة عن الولاياتالمتحدة، على عكس العقود الماضية، والتي ارتبطت في بناء تحالفاتها برؤى واشنطن، وهو ما يرجع في جزء منه إلى سببين رئيسيين، أولهما الانقلاب الأمريكي على الحلفاء، سواء سياسيا أو اقتصاديا أو أمنيا، وهو ما يبدو في التغيير الكبير لدى البيت الأبيض، فيما يتعلق بالقضية الأوكرانية مرورا بمسألة التعريفات الجمركية، أو حتى التلويح بالانسحاب من حلف الناتو، وانتهاء بمقترح الاستحواذ على أراض خاضعة لسيادة دول القارة، على غرار جزيرة جرينلاند بالدنمارك، بينما يرتبط السبب الآخر، في التغيير الكبير الذي طرأ على الأقاليم الجغرافية والقوى المؤثرة بها، ليس فقط من حيث التأثير، وإنما أيضا ما يرتبط بأسلوب إدارة العلاقة وطبيعتها. ولعل السبب الثاني يدفعنا نحو تسليط الضوء على التطور، أو بالأحرى التحول الكبير في العلاقة بين الدولة المصرية من جانب، أوروبا، سواء في إطار العلاقة الفردية مع دول القارة أو الجمعية في صورة الاتحاد، من جانب آخر، خاصة وأن هذا التحول جاء بعد سنوات عجاف إثر ما يسمى ب"الربيع العربي"، ناهيك عن ارتباك مرحلي في العلاقة بين القاهرةوواشنطن، خاصة خلال السنوات الثلاثة الأخيرة من حقبة أوباما، وما ترتب عليه، بحسب القاعدة التقليدية، من توتر مع أوروبا، باعتبارها الجناح الآخر لما يسمى ب"المعسكر الغربي". ورغم سرعة التحول في العلاقة من التوتر إلى الشراكة الاستراتيجية التي دشنتها القاهرة مع الاتحاد الأوروبي، نجد أن ثمة العديد من المراحل التي مرت بها خلال سنوات معدودة، أولها التجربة المصرية في الحرب على الإرهاب، ونجاحها منقطع النظير في القضاء على التهديد الحيوي الذي أعقب سنوات فوضى، إلى حد استلهامها وانتهاجها من قبل قوى فاعلة داخل القارة العجوز، عبر الاعتماد على الذراع الأمني، جنبا إلى جنب مع تطبيق نهج فكري من شأنه إصلاح الخطاب، ودحض الأفكار التي تبثها جماعات التطرف، والتي طالت الأراضي الأوروبية في عقر دارها، خلال النصف الثاني من العقد الماضي. المرحلة الأخرى التي خاضتها القاهرة في إطار معركتها لنيل ثقة الأطراف الدولية المؤثرة، تجلت في التحول من صيغة التحالف المطلق، والقائم على تطابق المواقف، إلى صيغة الشراكة، التي تقبل الخلاف، عبر تعظيم المصالح المشتركة، وهو ما انطلق عبر الشراكة الثلاثية مع اليونان وقبرص، في ظل اتفاق ترسيم الحدود، والذي ولد من رحمها منتدى غاز شرق المتوسط، بالإضافة إلى الدور المصري في مجابهة الهجرة غير الشرعية، ناهيك عن قدرتها على إدارة العلاقة داخل أقاليمها الجغرافية، بعيدا عن مفهوم الدولة القائد، عبر خلق الشراكات مع القوى الأخرى، لتحقيق الأهداف المشتركة، وهو الأمر الذي تتحرك فيه القارة العجوز نحو استنساخه، سواء جمعيا عبر الشراكات التي يطلقها الاتحاد مع أطراف دولية أخرى، أو فرديا، داخل أوروبا نفسها، عبر التقارب مع بريطانيا، بعد سنوات من الارتباك، على خلفية انسحاب الأخيرة من أوروبا الموحدة في أواخر العقد الماضي، وهو ما بدا في زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى لندن قبل عدة أسابيع. المراحل سالفة الذكر تحمل في طياتها مسارات متوازية، تمثل في جوهرا مشتركات مهمة بين الجانبين تزامنت فأثمرت عن تحول غير مسبوق في طبيعة العلاقة بين الجانبين، أولهما التحرر من التبعية المطلقة للقوى الكبرى المهيمنة على الكوكب، وهو الموقف الثابت الذي تبنته القاهرة منذ ثورة 30 يونيو، عندما اعتمدت موقعها الجغرافي كمرجع لإدارة علاقاتها الدولية القائمة على التعدد، في إطار مستجدات باتت تطغى على المشهد الدولي برمته، جراء صعود قوى لديها القدرة على مزاحمة واشنطن، يمكنها المشاركة بفاعلية في صناعة القرار الدولي. بينما يقوم المسار الآخر على انتهاج الشراكة كبديل للتحالفات التقليدية، في ضوء إدراك الجانبان للواقع الدولي الجديد، فالبعد المصلحي الحاكم للعلاقات بين الدول، دفع واشنطن إلى انتهاج سياسات أثرت سلبا على أوروبا، رغم كونها الحليف الأكبر للولايات المتحدة، وبالتالي فنظرية التطابق في الرؤى لم تعد أمرا مستساغا عالميا. وأما المسار الثالث فيعتمد على إنهاء مفهوم الدولة القائد، نحو إدارة العلاقة بين أطراف المعادلة الدولية على أساس "الند بالند"، فلم تعد المساعدات معيارا لتعزيز العلاقة، وإنما العمل على تحقيق المصالح المشتركة، عبر الاستثمار، والقضاء على التهديدات، وتحقيق الاستقرار والسلم الدوليين، وهو ما يصب في صالح أهداف الاستدامة، والتي تمثل أساسا يتطلع إليه الجانبان، وهو ما حققته القاهرة في إقليمها الجغرافي، بينما تتحرك نحوه أوروبا في إطار علاقتها مع واشنطن، خاصة بعد المستجدات الأخيرة التي طرأت على العلاقة بين الجانبين. وهنا يمكننا القول بأن التجربتان المصرية والأوروبية تتلاقيان عند نقطة تحول جوهرية في النظام الدولي، وهي استعادة الإرادة، فبينما تبحث أوروبا عن استقلال القرار، رسخت مصر نموذج الشراكة المستقلة عن الهيمنة، ومعًا، يشكل الطرفان نموذجًا مغايرًا للعلاقات الدولية، يقوم على المصلحة المتبادلة لا التبعية، وعلى احترام الإرادة لا استلابها.