موعد تغيير التوقيت الصيفي في مصر 2024 رسميا.. قدم ساعتك 60 دقيقة    «التموين»: الاحتياطي الاستراتيجي من السلع يكفي لمدة 4 على الأقل    أسوق أسماك بورسعيد: الأسعار انخفضت 70%    مصطفى الفقي: فترة حكم الإخوان كانت ممكن أن تؤدي إلى كارثة في الصراع العربي الإسرائيلي    أمير هشام: إمام عاشور لم يتلقى عروض للرحيل ولا عروض ل "كهربا" و"الشناوي"    أرسنال يحسم ديربي لندن بخماسية في شباك تشيلسي بالدوري الإنجليزي    عاجل - تحذير من موجة حارة تضرب مصر خلال ساعات    الموت له احترام وهيبة..تامر أمين ينفعل بسبب أزمة جنازات الفنانين    موعد عيد شم النسيم 2024: توضيح الإفتاء وتأثيره على الاحتفالات    عاجل- هؤلاء ممنوعون من النزول..نصائح هامة لمواجهة موجة الحر الشديدة    طريقة تحضير دونات محلات.. اطيب دونات هشه وخفيفه حضروها بالبيت    ضبط طن وربع رنجة غير صالحة للاستخدام الآدمي في الغربية    تعرف على طرق وكيفية التسجيل في كنترول الثانوية العامة 2024 بالكويت    ما أهمية بيت حانون وما دلالة استمرار عمليات جيش الاحتلال فيها؟.. فيديو    عاجل.. تشافي على بعد خطوة واحدة من تمديد عقده مع برشلونة    تفاصيل.. دياب يكشف عن مشاركته في السرب    مع اقتراب عيد تحرير سيناء.. أماكن لا تفوتك زيارتها في أرض الفيروز    وزيرة الثقافة ومحافظ شمال سيناء يشهدان احتفالية تحرير أرض الفيروز بقصر ثقافة العريش    نائب سفير ألمانيا بالقاهرة يؤكد اهتمام بلاده بدعم السياحة في أسوان    صلاح يفاجئ الجميع بطلب غير متوقع قبل الرحيل عن ليفربول.. هل يتحقق؟    منى أحمد تكتب: سيناء.. أرض التضحيات    كفر الشيخ الخامسة على مستوى الجمهورية في تقييم القوافل العلاجية ضمن حياة كريمة    أمين الفتوى: "اللى يزوغ من الشغل" لا بركة فى ماله    دعوة أربعين غريبًا مستجابة.. تعرف على حقيقة المقولة المنتشرة بين الناس    اتصالات النواب: تشكيل لجان مع المحليات لتحسين كفاءة الخدمات    "سياحة النواب" تصدر روشتة علاجية للقضاء على سماسرة الحج والعمرة    مدرب جيرونا يقترب من قيادة «عملاق إنجلترا»    جامعة المنوفية توقع بروتوكول تعاون مع الهيئة القومية للاعتماد والرقابة الصحية    عادات خاطئة في الموجة الحارة.. احذرها لتجنب مخاطرها    الأردن يحذر من تراجع الدعم الدولي للاجئين السوريين على أراضيه    دياب يكشف عن شخصيته بفيلم السرب»    مقتل وإصابة 8 مواطنين في غارة إسرائيلية على منزل ببلدة حانين جنوب لبنان    «قضايا الدولة» تشارك في مؤتمر الذكاء الاصطناعي بالعاصمة الإدارية    «بروميتيون تاير إيجيبت» راعٍ جديد للنادي الأهلي لمدة ثلاث سنوات    يد – الزمالك يفوز على الأبيار الجزائري ويتأهل لنصف نهائي كأس الكؤوس    عمال سوريا: 25 شركة خرجت من سوق العمل بسبب الإرهاب والدمار    أبو عبيدة: الرد الإيراني على إسرائيل وضع قواعد جديدة ورسخ معادلات مهمة    بائع خضار يقتل زميله بسبب الخلاف على مكان البيع في سوق شبين القناطر    إنفوجراف.. مراحل استرداد سيناء    «التعليم العالي» تغلق كيانًا وهميًا بمنطقة المهندسين في الجيزة    اللعبة الاخيرة.. مصرع طفلة سقطت من الطابق الرابع في أكتوبر    السياحة: زيادة أعداد السائحين الصينيين في 2023 بنسبة 254% مقارنة ب2022    11 معلومة مهمة من التعليم للطلاب بشأن اختبار "TOFAS".. اعرف التفاصيل    محافظ كفرالشيخ يتفقد أعمال التطوير بإدارات الديوان العام    مجلس الوزراء: الأحد والإثنين 5 و6 مايو إجازة رسمية بمناسبة عيدي العمال وشم النسيم    غدا.. اجتماع مشترك بين نقابة الصحفيين والمهن التمثيلية    عضو ب«التحالف الوطني»: 167 قاطرة محملة بأكثر 2985 طن مساعدات لدعم الفلسطينيين    إحالة شخصين للجنايات بتهمة الشروع في قتل شاب وسرقة سيارته بالسلام    خلال الاستعدادات لعرض عسكري.. مقتل 10 أشخاص جراء اصطدام مروحيتين ماليزيتين| فيديو    وزير الأوقاف من الرياض: نرفض أي محاولة لتهجير الشعب الفلسطيني وتصفية قضيته    محافظ قنا يستقبل 14 مواطنا من ذوي الهمم لتسليمهم أطراف صناعية    عربية النواب: اكتشاف مقابر جماعية بغزة وصمة عار على جبين المجتمع الدولى    رسميا .. 4 أيام إجازة للموظفين| تعرف عليها    منها الطماطم والفلفل.. تأثير درجات الحرارة على ارتفاع أسعار الخضروات    افتتاح الملتقى العلمي الثاني حول العلوم التطبيقية الحديثة ودورها في التنمية    بدأ جولته بلقاء محافظ شمال سيناء.. وزير الرياضة: الدولة مهتمة بالاستثمار في الشباب    الإفتاء: لا يحق للزوج أو الزوجة التفتيش فى الموبايل الخاص    دعاء في جوف الليل: اللهم اجمع على الهدى أمرنا وألّف بين قلوبنا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



دوائر العولمة وحقولها الملغومة
نشر في الشعب يوم 22 - 09 - 2011

"إن الإجرام والرأسمالية فقط هما المنظمان فى أوربا تنظيما عابرا للحدود" ... كورت توخولسكي Kurt Tucholsky فى عام 1927
ما من مرة تنعقد مجموعة الدول الصناعية الكبرى سواء فى "سياتل" أو"دافوس" أو"جنوة"إلا والمظاهرات العارمة تنفجر ضد اجتماعات هذه المجموعة، وتتخذ أشكالا عنيفة فى الاحتجاج والكراهية ضد قررات هذه الدول0 وإذا كان من المتوقع والحادث أن قررات هذه الدول تؤثر تأثيرا ضارا ومؤذيا على مستقبل الدول النامية من ناحية الديون والحياة المعيشة ، إلا أنه من الغريب أن الاحتجاجات تجيء كلها ويقول بها أبناء هذه الدول الصناعية ، وإن دل هذا على شيء فإنما يدل على الإدراك العالمي والفهم العميق لأبناء هذه الدول المتقدمة فى أن إجراءات وآليات العولمة ستؤثر على مستويات معيشتهم تأثيرا ضارا ، ربما الضرر الأكبر على الدول النامية، ولكنها تتسم بالهدوء والسكون فى تصرفاتها وتستسلم لآليات وإجراءات العولمة كقدر حتمي لا فكاك منه.
وإذا كان أبناء الدول الصناعية يرون فى إجراءات العولمة تأثيرا سلبيا على مستويات معيشتهم وطرق العمل ونوعية الحياة ، حيث تقل فرص العمل مع تزايد استخدام الميكنة، وترتفع معدلات البطالة وتنعدم فرص وجود وظائف دائمة، حيث ادارة العالم من قبل الشركات الرأسمالية العملاقة ستتطلب مهارات معينة فى موظفيها ، أغلب الأيادي العاملة الموجودة حاليا فى هذه الدول الصناعية غير مؤهلة لها وغير مهيأة ، الأمر الذي سيقذف إلى آتون البطالة آلافا مؤلفة من العاملين حاليا بجانب الرغبة الحميمة فى تراكم الأرباح ورأس المال (1)0
كما أن التقدم التقني السريع والهائل عن طريق حرق الطاقة سيؤثر على البيئة الخضراء ويرفع من درجة حرارة الأرض وهذا ما لاحظه كل سكان الأرض فى العقود الأخيرة بعد أن تنبأ به من قبل العلماء بجانب إشاعة الفوضى فى الأسواق المالية الأمر الذي سينعكس على مدخرات العاملين وتنخفض قيمتها مما تتبخر معه حصيلة شقاء السنين وتعب العمل(2)0
إن العولمة هي نتاج للتقدم العلمي والتكنولوجي غير المسبوق 0فالرقائق المجهرية Microchips والطائرات النفاثة ، والأقمار الصناعية والألياف البصرية تعد من بين الاختراعات الرئيسية التى جعلت بالإمكان صنع عالم سريع الحركة ومربوطا ببعضه بعضا0 وخلال العقد الماضي، هبطت تكلفة الحوسبة Computing والاتصالات والنقل بصورة مذهلة 0 ومع ربط هذه التغيرات التكنولوجية بفتح الأسواق العالمية أمام المرور الحر للسلع والتمويل، أدى كل هذا إلى قفزة هائلة فى التجارة العالمية ، أي النمو الاقتصادي السريع مع كامل نتائجه المخيفة على البيئة ، والأسواق العالمية عالية السرعة ، وهيمنة الثقافة الغربية المعتمدة على فلسفة الاستهلاك والفردية0
أما الآن فالعالم يواجه سؤالا كبيرا ؛ هل نوع العولمة الذي يربط قوى العلم والتكنولوجيا بأيديولوجية السوق الحرة سيجعل كل العالم أغنى وأكثر سلاما ؟ أو كما يخشى المعترضون سيجلب الثروات إلى البعض وسيسبب صدمات جديدة بين الأغنياء والفقراء ، وسيحدث تنمية تضع المزيد من الضغوط غير الداعمة للبيئة ؛ وغضبا من الترويج التعسفي للقيم الغربية ؟ وإذا كان كلامهم صحيحا ، فهل سيكون الإصلاح أو التغيير الجذري ضروريا لتهذيب العلم والتكنولوجيا لإيجاد صيغة أفضل من العولمة ؟ هكذا يتساءل بعض الباحثين ؟
إذا كنت تصدق المتعصبين للسوق الحرة ، فأنت ترى أن مخاوف المعترضين لا أساس لها من الصحة0 وطبقا للمقاييس الاقتصادية والمعيارية ، فالعالم الآن أغنى بصورة لا يمكن مقارنتها بأي وقت مضى0 دع التجارة والاستثمار العالميين يتوسعان ، وبذلك سيشترك المزيد والمزيد من الناس
(1)
فى جنى ثمار الاقتصاد العالمي المزدهر0 وبالتالي سيؤدي الاعتماد الاقتصادي المتبادل إلى السلام العالمي0
وبالنسبة لعلماء اقتصاد السوق ، فالأمر بهذه البساطة : ابتعد عن طريق الأعمال الكبيرة والتحركات الحرة للتجارة ورأس المال ، وبذلك ستستطيع كل أمة التعامل مع ما تجيده 0 فإذا كانت العمالة رخيصة فى إحدى البلدان ، ستستثمر كل الشركات أموالها هناك للاستفادة من رخص العمالة0 وستنمو مستويات المعيشة فى هذه الأمة وستنتشر التنمية، وكل هذا توجهه اليد الخفية للسوق0 وتتمثل مشكلة وجهة النظر هذه فى أن السوق الحرة لم تف إلا بجزء واحد فقط من وعودها0
ولكن الواقع المشاهد ينطق بغير هذه الأحلام الزاهية، فقد أحدثت العولمة تبديلا جوهريا فى الأنظمة السياسية بالعالم، فأفرغت "الديمقراطية" من محتواها المثالي، بعد أن تقلص دور الدولة الأمة ، ولم يتبق للقادة السياسيين إلا سلطات هامشية، بينما تكدست السلطة فى أيدي القادة الاقتصاديين .. كما ألقت العولمة بظلالها على المؤسسات الدولية مثل الأمم المتحدة ومنظماتها المختلفة، التى تعاني من نقص الديمقراطية ، وحدث انقلاب خطير عندما أصبح للمستثمرين وللشركات متعددة القوميات نفس حقوق الحكومات الوطينة0
أما التهميش فقد اتسعت دوائره داخل الدول الغنية والفقيرة على السواء، وتركزت الثروة فى أيدي القلة ، وبدأت الكرة الأرضية تشكو مما يعرف بالتصحر الاقتصادي ، وتفاصيل أخرى كثيرة يكشفها فى جرأة كتاب "العولمة المتوحشة" لمؤلفه السويسري "بليز ليمبون" ، حيث يذكر الكتاب أن المظهر العام يكشف أن ديمقراطية السوق انتصرت منذ نهاية الشيوعية ، وأن العولمة الاقتصادية ترافقت مع حركة انفتاح الحدود، والتحرر السياسي لعدد من الدول فى أمريكا اللاتينية ، وأوربا الشرقية والاتحاد السوفيتي السابق، ودول جنوب شرق آسيا0
لكن الثابت أيضا أن تبادل السلع يشمل تبادل الأفكار والمعلومات ، وهو ما يعني أن الكتلة الشيوعية خسرت ثورتها الإلكترونية ، وتأخرت كثيرا عن مسايرة ركب التقدم بسبب عدم انفتاحها فى وقت مبكر0 والصحيح أن الديمقراطية كما يذكر الدكتور سعيد اللاوندي(3) امتدت إلى جزء كبير من العالم ، وبات سهلا على المرء أن يرى"ممارستها فى عديد من الدول ، حتى وإن بدت ممارسات شكلية تتبدى فى العمليات الانتخابية ، والمحقق أن مضمون هذه الديمقراطية يبتعد كثيرا عن صورة الديمقراطية المثالية حتى فى أكثر الدول تقدما ، بمعنى أن الممارسات الديمقراطية تبتعد دائما عن أخلاقيات الديمقراطية الحقة0
وفى زمن العولمة ، فقد المواطنون كل رقابة لهم على القرارات الحاسمة، التى تخص حياتهم ووجودهم ، وباتوا ضعفاء هم وحكامهم سواء بسواء0 ويضرب الباحث مثلا لذلك أن صاحب شركة كبرى متعددة الجنسية مثل " بيل جاتس" صاحب شركة ميكروسوفت يتم استقباله فى كل مكان بتشريفات تفوق رئيس الدولة ، بينما رؤساء الدول الفعليون يمرون دون أن يلحظهم أحد0ومن هنا يصل المؤلف"بليز ليمبون" إلى حقيقة تقول إن الاقتصاد الخاص أو الشركات متعددة الجنسيات ، هي التى تملي القوانين على الحكومات ، وتقوم بتعديل ظروف الحياة لملايين الأفراد دون المرور بأية إجراءات تقليدية0
فائزون وخاسرون : من المؤكد أن العالم يزداد ثراء بصورة عامة ، وهناك الكثير لنفخر به0 يعيش الناس فترة أطول ، ويحصلون على تعليم أفضل وهم أكثر غنى عما كانوا قبل 30 سنة ، ومنذ عام1970 على سبيل المثال ، انخفض المعدل العالمي لوفيات الأطفال من 10 فى المائة إلى 5 فى المائة0 لكن هناك حالات جديدة لعدم الاستقرار وعدم التكافؤ تتنامى فى الوقت نفسه 0 إن "التجارة الحرة" بالأسلوب الذي صممت منظمة التجارة العالمية WTO لتدعيمه ، تمثل نفعا للبعض دون البعض الآخر 0 وقد استبعدت العديد من الأمم باعتبارها مجرد متفرج على نمو الثروة العالمية0
(2)
وقد قام تقرير الأمم المتحدة للتنمية البشرية بتلخيص الوضع بدقة فى فقرة يتم الاستشهاد بها كثيرا :" إن أعظم مزايا العولمة تدخّر لقلة محظوظة0 ويفترض أن الموجة المرتفعة من الثروة ستدفع كافة القوارب ، ولكن البعض قادر على الإبحار فى هذا الخضم أكثر من الآخرين0 وترتفع اليخوت والبواخر العابرة للمحيطات استجابة للفرص الجديدة، بينما تجرف المياه الأطواف وقوارب التجديف، وتغرق القوارب الأخرى"0
وبالنسبة للدول الغنية فى بواخرها العابرة للمحيطات ، يبدو أنه لا توجد مخاوف كبيرة، فهي ببساطة تزداد ثراء ، بينما تتسع فجوة الدخل بين الأغنياء والفقراء(4)0 ولعل تصدير الأنماط الاستهلاكية السائدة فى دول الغرب وانتشار الشركات متعددة الجنسية وفروعها المختلفة فى الدول النامية والعربية لدليل على الرغبة فى السيطرة الاقتصادية والاجتماعية للدول الصناعية عبر الترويج والإعلام والثقافة الموجهة للقضاء على جذور الثقافات المختلفة الأخرى0 إن صيغ الاستعمار الاقتصادي المعاصر لا تختلف كثيرا عن صيغ الاستعمار الاقتصادي فى القرنين التاسع عشر والعشرين0
نعم قد حاولت الدول النامية التعاون مع اقتصاديات الدول الصناعية من خلال بعض المشروعات المشتركة ومحاولات جذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة وغير المباشرة0 ولكن ما زالت الدول النامية تعاني العديد من الأمراض الاقتصادية كالبطالة ونقص الأجور والتضخم ونقص الخدمات العلاجية والتعليمية والكساد وتدني الإنتاجية والعديد من الأمراض الإدارية الأخرى0 ففى الوقت الذي تقوم به المنظمات الدولية الاقتصادية بدورها الذي تسعى فيه الدول الكبرى للسيطرة كالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية ، تعمل مؤتمرات السكان بالتوازى على فرض شروطها على العالم دون مراعاة لطبيعة وظروف كل دولة ، وهي القضايا الخاصة بالأسرة والطفل والقيم الاجتماعية(5)0
كل هذا قد أدى إلى أن تسقط كل الحواجز أمام موجات السخط الرافضة لمنطق السوق الحر و"النيولبيرالية " بحيث يصبح الرفض عالميا وتشارك فيه جميع شعوب الأرض "هذا ما يقوله "جوزيه بوفيه" زعيم حركة مناهض للعولمة ، انطلاقا من قناعاته بأن الرأسمالية المتوحشة قد ثبت فشلها ، لأنها لا تهتم إلا بشريحة صغيرة من سكان الأرض (هي شريحة الأغنياء) ولا تلقي بالا لملايين الجياع والمرضى الذين يكونون والحالة هذه ، وقودا لشهوة المال التى تسيطر على عقول وقلوب قادة الرأسمالية فى أوربا وأمريكا0
والذين يرون أن السبب الرئيس لعدم المساواة المتزايد هو تحالف رجال السياسة مع كبار رجال الأعمال0 إن انتقال التكنولوجيا الجديدة ، وبقدر أقل الوظائف الأقل مهارة إلى أماكن أخرى ، يعني عدم تبقى الكثير بالنسبة لمن لا يتمتعون بالمهارة فى الأمم المتقدمة0 وتقول"نورينا هيرتز" Hertz فى كتابها الذي حقق أعلى المبيعات لهجومه على العولمة ، والمعنون "الاستيلاء الصامت" "فى هذا العالم الجديد شديد التنافس ، حيث تسود رأسمالية السوق الحر ، فإن من لا يتمتع بالمهارة يواجه الأسوأ0 قد أصبح غير المهرة هم Epsilons فى عالمنا الجديد الشجاع(6) أي أنهم تحولوا بالفعل إلى سلع يمكن استبدالها بسهولة بأخرى يتم جلبها من مصادر التموين المتزايدة دوما من بلدان ما وراء البحار ، وفى عصر ما بعد التصنيع Post – manufacturingera الذي نعيشه الآن ، فإن الطلب عليهم يتناقص دوما"0
وكان لتحرير التجارة والموارد المالية العالمية نتائج أخرى غير متوقعة0 فكر فى حجم التدفق المالي العالمي اليوم المذهل ، وأنظمة التجارة المحسوبةCombuterized التى يمكنها إحداث استجابات فورية لتغيرات السوق، والمبالغ الهائلة من الأموال التى يمكن تحقيقها فى الصفقات المالية، ولا يثير الدهشة أن الارتفاعات المفاجئة فى الأسواق المالية قد تؤدي إلى إشاعة الفوضى فى أقاليم بأسرها
(3)
من العالم 0 وفى عام 1998م ، عندما انهارت المعجزة الاقتصادية الآسيوية أخيرا ، انخفضت قيمة أسواق رأس المال فى شرق آسيا بنسبة 2 تريليون دولار وأدى انهيار اقتصاداتها وكذلك انخفاض طلباتها على المواد الخام ، إلى المساهمة فى انهيار الروبل فى روسيا المصدرة للبترول0 تم محو سنوات النمو بين عشية وضحاها ، وأصبح ملايين الأفراد بلا عمل ، وتبع هذا قلاقل سياسية وانتشار الفقر0
من كان مسئولا عن تدمير حياة كل هؤلاء ؟ ألقى الممولون الغربيون باللوم على رجال السياسة الفاسدون وعلى الممارسات السيئة للبنوك الآسيوية أما رجال السياسة الآسيويون فقد ألقوا باللائمة على مضاربي البورصة الجشعين0 وألقى كل فرد باللوم على نظام مالي عالمي يفتقد إلى القواعد اللازمة لمواكبة الانتقال المحموم لرأس المال العالمي0 لكن العالم ليس مستعدا للانهيار القادم بصورة أفضل من استعداده للانهيار السابق(7)0
ولذلك يشخص الفيلسوف الفرنسي المسلم"روجيه جارودي" حالة العولمة الراهنة فى كتاب"الولايات المتحدة .. طليعة الانهيار" حين يذكر فى مقدمته أن المجاعة تنخر فى عظام ثلاثة أرباع العالم، ويؤكد أن الهجرة بأشكالها الراهنة هي الممر الذي يقودنا من عالم المجاعة إلى عالم البطالة .. لتصبح هذه الأخيرة (البطالة) إلى جانب التهميش من أشر شرور الحياة المعاصرة ، لأننا وهذا هو واقع الحال نقتل أطفالنا بأيدينا ، ونتجه بالعالم ونحن على مشارف القرن 21 نحو الانتحار الكوني الشامل(8)0
الثقافة المعولمة : تهدف العولمة الثقافية من جانب آخر إلى زرع القيم والأفكار النفسية والفكرية والثقافية للقوى المسيطرة فى وعي الآخرين وعلى الأخص أبناء المجتمعات العربية ، وفتح هذه المجتمعات / اختراقها ثقافيا/ وإسقاط عناصر الممانعة والمقاومة والتحصين ، وبالمعنى الثقافي الحضاري إعادة صياغة قيم وعادات جديدة تؤسس لهوية ثقافية وحضارية أخرى لهذه المجتمعات ، مهددة هويتها الحضارية بشكل جدي باتجاه فرض نمط ثقافى وهيمنة ثقافية معينة تنتجها مصالح الأقوياء ، وسيلتها الأساسية أداة إعلامية جبارة أصبحت قادرة على إعادة صياغة الأخلاق والقيم حتى العادات، وإذا كان عالم النفس الأمريكي"بوريس سكنر" قد أشار قبل عقود فى كتابه الشهير"تكنولوجيا السلوك الإنساني" فى معرض نظريته التربوية إلى إمكانية ضبط سلوك الإنسان الفرد(التعليم) بنفس الطريقة التى يمكن بها ضبط سلوك حيوانات السيرك ، مركّزا على دور الأسلوب المشوق والجذاب فى ذلك الضبط ، الأمر الذي اعتبر فى حينه صدمة للكرامة ، والآن فإن العولمة الثقافية وعبر وسائل الإعلام وشبكات المعلومات كالانترنت وسواها أصبحت تمارس نوعا من التحكم والضبط لسلوك الأفراد والمجتمعات وبطريقة قسرية رغم بعض أشكالها الجذابة0
ولهذا كما يقول الباحث حواس محمود(9) لم يعد مستغربا أن تمتلك بعض المحطات التلفزيونية الفضائية موارد تفوق ميزانيات بعض الدول النامية وان تصل ميزانية فيلم سينمائي إلى مئات الملايين من الدولارات ، إن العولمة الثقافية تساهم كثيرا على مزيد من الفاعلية فى التأثير فى الثقافات الوطنية عبر أجهزة الإعلام / البث التلفزيوني/ خاصة وأنه سيأتي الوقت قريبا عندما يتم تصنيع جهاز تلفزيوني قادر على التقاط هذا البث التلفزيوني من دون الحاجة إلى أجهزة خاصة للاستقبال وأطباق كبيرة الحجم0
فى مشروع قدمه"ستيفن داهل" إلى الجامعة الأوربية فى منتصف عام 1998 بعنوان"الاتصالات والتحول الثقافي : التنوع الثقافي ، العولمة ، والتقارب الثقافي" انتهي إلى تقرير النتيجة الآتية : إن الثقافات تتمازج فيما بينها إلى حد كبير ، ففضلا عن البعد الرمزي، المميز للثقافة التقليدية ، فثمة فى الوقت نفسه بعد رمزي عالمي لكل ثقافة ، وهذا الأمر هو الذي جعل الثقافات الإنسانية تتضمن كثيرا من أوجه التماثل ، وفى ظل سيادة ثقافة عالمية فإن الاهتمام ينشط أيضا بالثقافات المحلية0
(4)
إن الثقافات تتمازج ، وتنشأ هويات ثقافية جديدة وتتشكل مجتمعات حقيقية أو متخيلة ، ثم تنحل0 ومع ذلك فإن الثقافات الأصلية ما زالت هي التى تحدد معالم الثقافات الجديدة ، ما انفكت تلك تستأثر بالأهمية ، ولم نصل بعد إلى الثقافة العالمية ، واختفاء جانب من الثقافات المحلية لا يعني تلاشيها كما يذهب كثيرون إلى ذلك ، فالثقافة هي أكثر من مجرد ما يظهر للعيان وأنها أعمق من ذلك بكثير ، فالثقافات تتمازج ولا تتلاشى0
ومن هنا يرى الباحث عبد الله إبراهيم (10) أن تفسير "داهل" لأوضاع الثقافات فى ظل العولمة كثير التفاؤل0 ويرى إن تعارض الأنساق واصطدامها يلحق ضررا بالغا بالثقافات الأصلية ، وقد يفضي إلى انهيار 0 وتصبح فرضية"داهل" صحيحة حين يكون التبادل متكافئا بين الثقافات ، لكن ماذا يحصل فى حالة غياب التكافؤ ؟ ولنتتبع ذلك فى الثقافة العربية التى يكشف لنا تاريخها الحديث وصفا يماثل أوضاع كثير من المجتمعات التقليدية ، إذ لا يمكن الكلام عن تبادل ثقافي مع الآخرين فواقع الحال أن التبادل الثقافي مع الآخرين بالنسبة للثقافة العربية شأنه شأن أي تبادل آخر يختزل إلى تدفق من جانب واحد فقط 0
فثقافتنا تتلقى منشطات يومية تصل إليها بشكل مناهج أو مفاهيم أو رؤى أو أفكار أو فرضيات وحتى نتائج0 ومعلوم أن كل تلك المنشطات ظهرت تدريجيا فى إطار ثقافي سياسي معين فأصبحت جزءا من أنساق ثقافية مشروطة ببعدها التاريخي0 فحينما يُصار إلى الأخذ بها لمعالجة ظاهرة ما ، فهذا يعني إقحاما لأنساق ثقافية فى شبكة من الأنساق المختلفة ، وهنا لا تقصى فقط الشروط التى تمنح تلك الأنساق فاعليتها ، إنما يؤدي ذك إلى تدمير الأنساق الثقافية الأصلية0 ومن هنا يذهب الباحث ومعه كل الحق إلى أن الثقافة وسيلة خطرة وفعالة لأنها الأكثر من غيرها قدرة على تثبيت التصورات والقيم والرؤى ، وترسيخ المرجعيات الفكرية التى تصدر عنها
المواقف ، إلى ذلك قدرتها على اختراق الحواجز واجتياز الموانع0 وبتوظيف وسائل الاتصال الحديثة والتى أصبحت متاحة للجميع أصبح من الصعب الحديث عن ثقافات غير قابلة للاختراق ، فالثقافة المعاصرة بوجودها الإعلامية والإعلانية والفكرية والعلمية أصبحت عابرة للقارات0 وهذا التطور يؤدي إلى نتيجتين محتملتين : إما ذوبان الهويات الثقافية الأصلية إذا لم تتشبع بالخصائص الشعورية والذهنية والتاريخية ، وتكون فى الوقت نفسه قادرة على تجديد نفسها ، أو الانكفاء على الذات بسبب هيمنة الثقافات الأجنبية0
إن مركز المعلومات وتكنولوجيا الاتصال هي التى تملك اليوم مفاتيح الثقافة ، ولذلك نجحت الدول الغربية فى نشر ثقافتها عبر المحيطات والقارات والترويج للأفكار وقيمها الثقافية والأخلاقية والاجتماعية والسياسية على حساب اكتساح الثقافات الوطنية (11)، ويعتبر اكتساح الثقافات الوطنية نقطة رئيسية من ثلاث نقاط لتبيان آثار العولمة الثقافية حددها الدكتور "برهان غليون" فى ندوة عقدت قى القاهرة عام 1997 بعنوان"مستقبل الثقافة العربية" إذ قال إن العولمة الثقافية تقوم بتعميم أزمة الهوية حيث يتضاءل مع تزايد الثقافات الأقوى فى فضاء مفتوح وزن الثقافات الوطنية ونفوذها 0
وفى هذا الصدد تجدر الإشارة إلى تحذير المؤرخ الثقافي "جورج ستينر"George Stelner الذي يدرّس فى جامعة كامبردج من أن هذه الحضارة سوف تعزز تماثلا كاسحا يهدد الثقافات المحلية ، ويعود مصدر معظم هذا التماثل إلى صناعات الإعلان والترفيه والسينما ، فالأفلام والبرامج التلفزيونية الأمريكية تباع على نطاق واسع فى كل أنحاء العالم ، وتبلغ الآن جملة هذه المبيعات أكثر من 5 بلايين دولار سنويا ، ولقد وصفت إحدى الصحف الهندية وسائل الإعلام هذه بأنها"النمل الأبيض تقوض قيمنا وعاداتنا" 0
(5)
والعولمة الثقافية التى تمتد من فرض لغات الآخرين والأقوياء إلى تغيير أنماط الحياة اليومية والسلوك لمجتمعات بكاملها لم تعد تهدد البلدان النامية والصغيرة فحسب ، بل إن دولا كبرى ومجتمعات عريقة الحضارة تتخوف من مظاهر هذه العولمة ، ففرنسا الدولة الكبرى فى عالم اليوم تتحرك تحت غطاء الليبرالية الاقتصادية على حد تعبير الرئيس الفرنسي السابق فرانسوا ميتران ، الذي ختم قوله بالتساؤل "هل تحقق قوانين المال والتكنولوجيا ما أخفقت الأنظمة الشمولية فى تحقيقه ؟"، ومعروف أن فرنسا تنازعت مع الولايات المتحدة الأمريكية فى موضوع "الغات" حول "الاستثناء الثقافي" لدرجة أن أحد الأوربيين تحفظ على النجاح الذي أحرزه فيلم"الحديقة الجوراسية " للمخرج "ستيفن سبيلبرج" لدرجة وصفه هذه الظاهرة بأنه"إمبريالية ثقافية أمريكية"(12)0
ولا يخفى الفرنسيون انزعاجهم من الهجمة الثقافية الأمريكية ، وهم الذين طالما تغنوا بثقافتهم "الراقية" ولغتهم "الأنيقة" خاصة وأن هذه الثقافة بدأت تشعر بمحاصرة الثقافة الأمريكية لها فى مناطق كانت ، إلى وقت قريب ، تصنف ضمن مناطق النفوذ الفرنسي ، مثل كثير من الدول الأفريقية وبعض مناطق آسيا0
وإذا كان هذا شأن دول تجمع بينها قواسم ثقافية مشتركة ، فكيف يمكن تصور الحال مع دول تختلف اختلافا جذريا فى ثقافتها عن"ثقافة العولمة"(13)0 ومن الإنصاف القول أن بعض الكتاب فى الغرب قد طالب بنظرية للتبادل لنجاح العولمة تنادي بتقديم العلوم والتكنولوجيا للدول النامية ، ومنها الدول العربية ، مقابل الحصول على منظومة التنمية الاجتماعية وخبرات البناء الثقافي والقيمي من الدول عريقة التراث مثل مصر والعالم العربي والصين0 فيشهد التاريخ أن التراث والثقافة والتاريخ لا تخضع للعولمة وفق حكمة الله سبحانه وتعالى فى توافر التنوع الإنساني البشري Human Diversity ) HD )0 ولكن ما زالت أيضا بعض الكتابات تدعو إلى بث وتسويق سلوكيات الآخرين عالميا لأغراض اقتصادية ، وينادي هؤلاء الكتاب المغرمون بالعولمة إلى ضرورة أن تسرع الدول النامية للحاق بالدول الصناعية بإلغاء هويتها الثقافية وهياكلها الاجتماعية وجذورها التاريخية ، حتى تصبح تلك الدول مراكز استهلاكية تابعة لمحطات الانتاج العالمية لا حول لها ولا قوة0
العقلانية تفقد سيطرتها : يتضح إذن أن العولمة دعوة صريحة لإلغاء التعددية وإلغاء "الخصوصية " ، وهذا هو المأزق الحقيقي للغرب فى هذه المرحلة ، والفكر الرأسمالي الليبرالي الذي هو فكر تعددي من الناحية الفلسفية والنظرية، لكنه لا يعترف بالتعددية عند مواجهة "الآخر" له0 ومن ثم فإن التأصيل العلمي لهذا التطور منذ الستينات يقودنا إلى أن هناك صراعا بين"العالمية" و"العولمة" ، فالعالمية تعني بالحفاظ على التعددية والخصوصية الثقافية، وتدعو إلى تبني قضايا مشتركة تعم البشرية جمعاء ، دون تمييز باعتبار أن المصير مشترك، فالتنمية والعدل الاجتماعي قضية بالغة الأهمية، لأن تضييق المسافة بين أغنياء العالم وفقرائه تعني الطرفين ، وخفض الصراعات العالمية ، واحتواء الصراعات الإقليمية ، وإنهاء التوترات مسألة مشتركة فى نطاق الأمن العالمي والإقليمي ، مسألة مهمة ومشتركة بالإضافة إلى قضية البيئة، وحقوق الإنسان دون تمايز ومراعاة الحدود الثقافية للشعوب ، أما التجزئة المتعمدة من الغرب للاهتمام بقضايا محدودة كالمرأة والسكان والفقر والفساد وغيرها، وتوجيه الاهتمام إلى قضايا الأقليات ومسائل الحدود الجغرافية بين الدول فهو اهتمام يدعو إلى التساؤل والاستغراب ، بل يدعو إلى الشك والريبة فى حسن نوايا تلك الدول0
فالعولمة هي فى الحقيقة عولمة نمط معين من الحياة ، وشاع الاعتقاد بضرورة تبنيه واتباعه لمجرد أنه يندر أن تثار مسألة خصوصيته وارتباطه بثقافة معينة ونظرة معينة إلى الحياة والكون0 ومسألة الخصوصية هي نادرا ما تثار بسبب طول عهدنا باكتساح هذا النمط لحياتنا ، وبسبب اشتداد هذا الاكتساح وسرعته فى العقود الأخيرة 0 وبسبب وجود مصالح أكيدة لأصحاب الثقافة والمنتجات التي
(6)
تجري عولمتها فى افتضاح خصوصيتها، واستخدامها مختلف وسائل القهر المادي والسياسي والنفسي والعقلي ، لتصدير ما هو خاص على أنه إنساني وعام(14)0
وفى كتاب هام للكاتب البريطاني الكبير"أنتوني جيدينز" الذي صدر عام 2000 بعنوان"العالم الهارب، أو المنفلت" Run Away World : How globalization is reshaping our lives ويعد واحدا من أهم الكتب التى أثارت الكثير من عواصف الجدل طوال عام 2001 حول مستقبلنا العالمي المشترك شئنا أم أبينا فى ظل العولمة ، التى يسميها "جيدينز" بصراحة "الأمركة"0
ولا يتمتع الكتاب ولا يرجع الاهتمام به إلى مجرد أهمية مؤلفه ومكانته البارزة فى "مؤسسة التفكير الرسمية الأنجلو أمريكية فحسب، وإنما ترجع أهمية الكتاب إلى أن"جيدينز" هو أحد كبار المفكرين المؤثرين فى رسم الاستراتيجيات الشاملة وبعيدة المدى فى الغرب0 وقد أنطلق فى كتابه من ادراكه تأثير الاقتصاد الكوكبي أو الموحد على مستوى الكوكب تحت تأثير القوة الطاغية للاقتصاد الأمريكي وآلياته إلى بحث تأثير هذا الاقتصاد الكوكبي شبه"الموحد" على الحياة اليومية للناس الذين ينتمون إلى ثقافات وحضارات مختلفة على مستوى الكوكب كله ! أي تأثير هذا الوضع الاقتصادي والسياسي على الثقافات المختلفة ، وعلى مختلف أنواع التقاليد والمواريث الثقافية ، والأوضاع السياسية أو العلاقات الاجتماعية بدءا من التكوين الأسري أو العائلي على علاقات الأجيال إلى أساليب العمل والسكن ..إلخ إن العولمة بهذا الشكل ، تبدو من خلال تحليل "انتوني جيدينز"قوة تأثير أو"سلطة ثقافية" يراها هنا وهي تعيد تشكيل "حياة " البشر بالمعنى الشامل والتفصيلي لكلمة "حياة"0
والمؤلف يتحدث عن تغيير شامل بالعالم الذي خلفته الحداثة الأوربية (الغربية) فى أوربا القرنين 17، 18 عالم التنوير الذي كما يقول "نما تحت تأثير العلم والتكنولوجيا والفكر العقلاني" هذه الثقافة الصناعية التى قامت على العلم والتكنولوجيا والفكر العقلاني يسيطر لمدة من الزمان على المستقبل وعلى العالم ، ولكن العالم فى رأيه راح بشكل متزايد يهرب أو يفلت من هذه السيطرة الغربية0 خاصة وأن العولمة هي العامل أو الفاعل الرئيس فى عملية تغيير العالم أو انفلاته وهربه من ضوابط العقلانية ، رغم أنها هي نفسها من النتائج المؤكدة لهذه العقلانية : فالعولمة ليست سوى نتاج"طبيعي" لانتصار الثقافة الصناعية الليبرالية ، المستندة إلى العلم والتكنولوجيا والتنظيم العقلاني الصارم لعمليات إنتاج كل شيء وتوزيعه0
ولكن المشكلة هي أن التطور الطبيعي لتطبيقات تلك الثقافة يؤدي إلى تفكك "الصرامة العقلانية"، وانهيار الانضباط المنطقي ؛ والشاهد الأكبر على ذلك هو انهيار البيئة الطبيعية للكوكب نتيجة انتشار الصناعة وأدواتها (من مداخن المصانع إلى عوادم الآلات ..إلى القنابل الذرية إلى إبادة الغابات لإنتاج الورق أو لزراعة محاصيل مطلوبة لإطعام البشر)0 وفى الثمانينات تجلت مظاهر عالمية للإختلالات أبرزها انسحاق كبير فى غابات الأمازون أمام المناشير الكهربائية للشركات العابرة للقارات، ثم ثقب الأوزون الذي كان بداية نذير بزوال محتمل للغطاء الواقي للكرة الأرضية الذي يحميها والكائنات التى تعيش فيها من خطر تسرب أنواع من الإشعاعات الكونية الضارة0
هذا فضلا عن هطول الأمطار الحمضية من جراء انبعاث الغازات السامة من مباخر المصانع0 وشهدت المدن تلوثا غير مسبوق وتزايدا فى نسبة ثاني أكسيد الكربون ، واستمرت هذه الظواهر إلى يومنا هذا0 لأن كل التدابير والإجراءات المحلية والإقليمية والعالمية لم تتمكن من إقناع طغاة المال والاستثمار ممن لم يتنازلوا قد أنملة عن مؤشرات الأرباح والتدمير المنظم للطبيعة وتلويث البحار والأنهار، بل والمياه الجوفية(15)0
(7)
والعولمة التى يقودها الاقتصاد والإعلام والثقافة الأمريكية أو السياسة الأمريكية لا تؤثر فقط على العالم ، ولكنها تؤثر أيضا على أمريكا نفسها؛ ومثلما تفقد العقلانية سيطرتها على الأمور فى العالم ، فإنها تفقدها أيضا فى أمريكا ، وأكبر ساحات الانفلات فى هذه الحالة هي ساحة "السوق" الذي لم يعد سوقا عاديا يضم المنتج والبائع والزبائن معا؛ ولكنه سوق لا يوجد فيه ولا يسمح بوجود غير الزبائن0
إن البيان القصير والمقتضب الذي صدر عن اجتماعات "سياتل" أدان المواقف والسلوكيات الأمريكية فى النطاق الدولي ، وطالب بفتح النوافذ وإعادة التقييم للنظام التجاري الدولي حتى ولو أدى الأمر للخروج على المظلة الأمريكية0 فى الوقت نفسه تضمن مشهد سياتل الرغبة الأكيدة فى مراجعة جدول أعمال اجتماعات المنظمة من الألف إلى الياء ، ومحاولة ضمان أقصي قدر ممكن من الشفافية والكفاءة للاجتماعات ، فى إشارة رفض للمحاولات الأمريكية لتمرير القرارات التى تتفق مع مصالحها ، دون اعتبار لمصالح الآخرين(16)0
ولكن هل يعني ذلك أن العولمة بدأت فى السقوط ؟ وبعبارة أخرى: هل يعني سياتل وما سبقها ، وما أعقبها من أحداث بداية تغير عصر الزعامة الأمريكية وتربعها على عرش العالم ؟ هل توجد فى العالم "قوى أخرى" بارزة ومؤثرة أصبحت تمتلك القدرة على تحويل المشيئة الأمريكية ؟
إن هذه التساؤلات هي فى حقيقتها عناوين لموضوعات أساسية فرضت نفسها بقوة على العلماء والمفكرين ، وأصبحت فى حاجة إلى إجابات شافية علها تضيء المساحات المعتمة ونقاط الضعف التى لا تزال تقيد حركة الدول والشعوب ، بعد الدخول فى ألفية جديدة من عمر الزمن0
ولكن ما يرشدنا إلى بعض الإجابة هو تذكر نبوءة المؤرخ الكبير"توينبي" والذي عد التوسع الأوربي والهيمنة الغربية "محاولة لصرف الاهتمام بعيدا عن التآكل الداخلي للمجتمع" ، كما رسم صورة للحضارة "عندما تعمل كإشعاع لقوة تدميرية " كما يعبر عن مرحلة الانحلال الحضاري بقوله :"إما أن تتخلى عن طموحاتها الإمبراطورية وتغامر بالانهيار الداخلي الكامل والثورة من الطبقة الدنيا ، أو أن تتحول نفسها إلى دولة عالمية " موضحا :"أن الدولة العالمية مثل روما الإمبراطورية تمثل المرحلة الأهم فى عملية الاضمحلال"0 وذلك من خلال فسادها بالثروات السهلة ، والتفسخ الأخلاقي والانحراف .. والفن الهابط ، واللغة المتدهورة وانتشار السحر والشعوذة والتلفيق فى المسائل الروحية المقدسة"(17)0
وقد توصل" توينبي" إلى حقيقة :"أن تكون الولايات المتحدة و(إسرائيل) هما أخطر دولتين بين المائة والخمس والعشرين دولة التى تقتسم سطح هذا الكوكب الآن" ورأى توينبي أن (الانتصار الإسرائيلي) العسكري و(التفوق الأمريكي) كان من نتائجه المزيد من التفسخ الأخلاقي 0 ولو خسرا لاحتفظا بقدر من المعطى الروحي الذي لا يتجه لتعميم الشر0 وهو ما يؤكده المفكر المعاصر "فرانز فانون" الذي يذهب إلى أن"الولايات المتحدة أصبحت وحشا شديد البشاعة والتشوه ، نمت فيه كل مفاسد وأمراض ولا إنسانية أوربا إلى أبعاد مخيفة"0
(8)
الهوامش والمصادر :
1 د. عبد الله هدية: موجة الكراهية ضد العولمة .. لماذا ؟ الأهرام فى 27 /9/2002
2 انظر د. بركات محمد مراد : ظاهرة العولمة : رؤية نقدية كتاب الأمة العدد 86 قطر 2001م
3 د. سعيد اللاوندي: تحليل لكتاب"العولمة المتوحشة" الأهرام فى 13 مارس عام 2003م وانظر د. محسن الخضيري:العولمة .. مقدمة فى فكر واقتصاد وإدارة عصر اللادولة0 مجموعة النيل العربية ،القاهرة عام 2000م
4 السابق ص 37
5 د. فريد النجار: ثقب فى العولمة ، القاهرة عام 2001م
6 فى إشارة إلى رواية Brave New World لمؤلفها ألدوس هكسلي Huxley والتى نشرت عام 1932م 0
7 وقت إعادة التفكير بكل شيء ، ترجمة إيهاب عبد الرحيم ص 41 مجلة الثقافة العالمية العدد181 مايو عام 2003م
8 د. سعيد اللاوندي : القرن الحادي والعشرون .. هل يكون أمريكيا ، مكتبة نهضة مصر ص 82 2000م
9 حواس محمود : العولمة الثقافية ص 26 المجلة الثقافية العدد49 جامعة الأردن مايو عام 2000م
10 د. عبد الله إبراهيم: الحداثة والعولمة والمجتمع التقليدي ص 11، 1 مجلة البحرين الثقافية ربيع 2003م
11 انظر محمد على حوات: العرب والعولمة : سجون الحاضر وغموض المستقبل، مكتبة مدبولي مصر عام 2002م ، وسعيد حارب : الثقافة والعولمة ، دار الكتاب الجامعي العين ، عام 2000م
12 حواس محمود : العولمة الثقافية ص 27 المجلة الثقافية الأردن عام 2000م 0
13 سعيد حارب : الثقافة والعولمة ص 22
14 إيناس حسني: العولمة : تكريس النمط الغربي ، مجلة العصور الجديدة العدد1 ص 252 سبتمبر 1999
15 د.عمر عبد العزيز: البيئة فى زمن العولمة ، مجلة الرافد العدد70 ص 10 يونيو عام 2003م
16 ثناء فؤاد عبد الله : قضايا العولمة بين الرفض والقبول، مجلة المستقبل العربي ص 91 يونيو2002م
17 حسب الله يحي : فكرة الاضمحلال فى التاريخ ، مجلة الرافد العدد 70 ص 8 يوتنيو 2003م ، وانظر آرثر هيرمان : فكرة الاضمحلال فى التاريخ الغربي ، ترجمة طلعت الشايب المجلس الأعلى للثقافة مصر عام 2000م


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.