رئيس جامعة حلوان يحسم الجدل: لا صحة لتعيين سامح حسين    «وزير الري»: الدولة المصرية تبذل جهودًا كبيرة لتحقيق أهداف التنمية المستدامة    وزارة التضامن تقر قيد 4 جمعيات في محافظتي أسوان والقاهرة    عاجل| مصرتدخل سباق المعادن النادرة    أسعار الخضراوات والفاكهة اليوم الثلاثاء 2 ديسمبر 2025    بسبب الشبورة المائية وأعمال الصيانة، ارتفاع تأخيرات القطارات على خط بورسعيد    سعر الريال القطرى اليوم الثلاثاء 2 ديسمبر 2025 فى بداية التعاملات    وزير الزراعة ومحافظ الوادي الجديد يبحثان تعزيز الاستثمار في مجال الإنتاج الحيواني    أسعار الحديد والأسمنت اليوم الثلاثاء 2 ديسمبر 2025    3 قرارات جديدة لوزارة التضامن لإزالة تعديات على أملاك بنك ناصر الاجتماعى    سعر صرف الدولار في البنوك المصرية ببداية تعاملات الثلاثاء    منظمة الصندوق المركزي الإسرائيلي أسخى ممول أمريكي للاستيطان بالأراضي المحتلة    استشهاد فلسطيني برصاص الاحتلال الإسرائيلي في مدينة الخليل    قوات الاحتلال تنسف منزلي أسيرين فلسطينيين في نابلس وطوباس    قوات الاحتلال تتوغل فى ريف القنيطرة بسوريا وتفجر سرية عسكرية مهجورة    واشنطن لا ترى ضرورة لحضور روبيو اجتماع وزراء خارجية الناتو    وسط موجة من عمليات الخطف الجماعى.. استقالة وزير الدفاع النيجيرى    منتخب مصر يواجه الكويت في بداية مشواره بكأس العرب 2025.. اليوم    مشاهدة مجانية.. القنوات الناقلة لكأس العرب 2025 ومباراة مصر والكويت    محامي رمضان صبحي: الأهلي وبيراميدز لم يتواصلا معي.. وهاني أبوريدة عرض المساعدة    مواعيد مباريات اليوم الثلاثاء 2 ديسمبر 2025 والقنوات الناقلة    سيد منير حكمًا لمواجهة بيراميدز وكهرباء الإسماعيلية    5 ديسمبر، موعد محاكمة 3 عاطلين بتهمة حيازة أسلحة نارية وبيضاء في الأزبكية    أمطار متفاوتة الشدة.. الأرصاد تكشف تقاصيل طقس اليوم    إصابة 5 أشخاص في حادث تصادم ميكروباص وميني باص بالطريق الزراعي بطوخ    ضبط مواد مخدرة وأسلحة نارية وتحرير 1480 مخالفة مرورية بكفر الشيخ    في اليوم الخامس من البحث.. العثور على جثمان الشاب الغارق في بحر سنتريس بالمنوفية    صحتك في خطوتك| فوائد المشي لإنقاص الوزن    وزير الصحة يبحث مع محافظ البحيرة إنجاز المشروعات الصحية والتوسع في الخدمات    بدء تصويت الجالية المصرية في الأردن لليوم الثاني بالمرحلة الأولى    من أوجاع الحرب إلى أفراح كأس العرب.. فلسطين تنتصر وغزة تحتفل.. فيديو    طقس اليوم: معتدل نهارا مائل للبرودة ليلا.. والعظمى بالقاهرة 23    محافظ البحر الأحمر ووزيرا الثقافة والعمل يفتتحون قصر ثقافة الغردقة وتشغيله للسائحين لأول مرة    البديل الألماني يطرد عضوا من كتلة محلية بعد إلقائه خطابا بأسلوب يشبه أسلوب هتلر    الحكم بحبس المخرج الإيراني جعفر بناهي لمدة عام    أدعية الفجر.. اللهم اكتب لنا رزقًا يغنينا عن سؤال غيرك    ما حكم الصلاة في البيوت حال المطر؟ .. الإفتاء تجيب    بنصف مليار دولار وإلغاء أكثر من 18% من الوظائف، جوتيريش يقترح خفض ميزانية الأمم المتحدة    أصل الحكاية | «تابوت عاشيت» تحفة جنائزية من الدولة الوسطى تكشف ملامح الفن الملكي المبكر    المخرج أحمد فؤاد: افتتاحية مسرحية أم كلثوم بالذكاء الاصطناعي.. والغناء كله كان لايف    أصل الحكاية | أوزير وعقيدة التجدد.. رمز الخصوبة في الفن الجنائزي المصري    سر جوف الليل... لماذا يكون الدعاء فيه مستجاب؟    حرب الوعي.. كيف يواجه المجتمع فوضى الشائعات الصحية على السوشيال ميديا؟    لغز صاحب "القناع الأسود" في قضية مدرسة سيدز الدولية وجهود أمنية مكثفة لضبطه    لغز مقتل قاضي الرمل: هل انتحر حقاً المستشار سمير بدر أم أُسدل الستار على ضغوط خفية؟    رئيس قضايا الدولة يؤكد تعزيز العمل القانوني والقضائي العربي المشترك | صور    شيري عادل تكشف كواليس تعاونها مع أحمد الفيشاوي في فيلم حين يكتب الحب    كيف تكشف المحتوى الصحي المضلل علي منصات السوشيال ميديا؟    بالأدلة العلمية.. الزجاجات البلاستيك لا تسبب السرطان والصحة تؤكد سلامة المياه المعبأة    أول ظهور لأرملة الراحل إسماعيل الليثى بعد تحطم سيارتها على تليفزيون اليوم السابع    تقرير الطب الشرعي يفجر مفاجآت: تورط 7 متهمين في تحرش بأطفال مدرسة سيدز    جيمي فاردي يسقط بولونيا على ملعبه في الدوري الإيطالي    شاهد، مكالمة الشرع ل بعثة منتخب سوريا بعد الفوز على تونس بكأس العرب    مدرب منتخب الناشئين: مندوب برشلونة فاوض حمزة عبد الكريم.. واكتشفنا 9 لاعبين تم تسنينهم    بيان جديد من المدرسة الدولية صاحبة واقعة اتهام عامل بالتعدي على تلاميذ KG1    أقوى 5 أعشاب طبيعية لرفع المناعة عند الأطفال    موعد صلاة العشاء.... مواقيت الصلاه اليوم الإثنين 1ديسمبر 2025 فى المنيا    انطلاق المؤتمر التحضيري للمسابقة العالمية للقرآن الكريم بحضور وزير الأوقاف    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



هل تمثل مجموعة الدول الصاعدة بديلا للعولمة الفجة؟
نشر في الأهرام اليومي يوم 28 - 09 - 2014

سأتناول فى هذا المقال وفى المقالات التالية، موضوع أزمة النظام القائم عالميا ومصريا، وفحص المشروع المطروح للخروج منها، ألا وهو «المشروع الوطنى المستقل» المعروف بالانجليزي (Sovereign project) وهو ذلك المشروع الذى طرحته مجموعة الدول الخمس الصاعدة BRICS (البرازيل، روسيا، الهند، الصين، جنوب إفريقيا).
أبدأ بمناقشة مفهوم الصعود الذى يمثل العمود الفقرى للمشروع المعني، ومعاينة مكوناته فى أوجهها المختلفة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وهو موضوع هذا المقال الأول.
وسوف أقدم فى المقال الثاني، ما توصلت إليه فى تقديرى عن مدى نجاح تنفيذ المشروع، وبالتحديد على ضوء المعايير التى سوف أحددها فى هذا المقال الأول، وذلك لكل واحدة من الدول الخمس المذكورة، إذ أن أوضاعها متباينة من جميع الوجوه، وأخيرا سأقدم فى المقال الثالث إجابتى على السؤال المطروح فى عنوان هذه السلسلة، ألا وهو: هل يمثل هذا المشروع للصعود بديلا محتملا فعالا لنظام العولمة القائمة حاليا، وبالتالى قدرته على أن يصبح مخرجا من الأزمة الراهنة، كما سوف أتناول احتمال توجه مصر فى هذا الاتجاه وشروطه.
ماذا نعنى ب «الصعود»؟
لقد استخدم هذا المصطلح فى سياقات مختلفة، وذلك غالبا دون حذر أو تدقيق لمضمونه، من ثم أقوم هنا بتعريف المعنى الذى أضيفه على مجموعة التحولات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية، التى تسمح لنا بالحديث عن «صعود» دولة وبلد وشعب ما فى تخوم المنظومة العالمية القائمة (أى دول آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية وروسيا).
لا يقاس الصعود بالمعدل المتزايد لنمو الناتج المحلى الإجمالي، أو الصادرات أو الاثنين معا، وذلك عبر فترة طويلة من الزمن، أكثر من عقد، فلا يفيد هذا المفهوم الوصفى المبتذل الذى يلجأ إليه البنك الدولي، حيث ان انجاز معدل مرتفع للنمو يمكن أن يحدث فى إطار سيادة العولمة الفجة القائمة، وذلك دون صعود المجتمع المعني.
ينطوى الصعود على ما هو أكثر من هذا: بناء ولو خطوة بعد خطوة مخطط ومنهجى لمنظومة إنتاجية حديثة وفعالة تشمل تطوير واستعجال عملية تصنيع الاقتصاد من جانب، وإنجاز السيادة الغذائية من الجانب الآخر، عبر سياسات ملائمة محددة من أجل إنعاش القطاع الزراعى الفلاحي، وتمفصل الهدفين بعضهما ببعض، ثم يقتضى مشروع الصعود تطوير القدرة التنافسية للأنشطة الإنتاجية فى الاقتصاد كمنظومة فى مجملها.
علينا إذن توضيح مكونات مفهوم المنظومة الإنتاجية المطلوبة، ومفهوم تطوير القدرة التنافسية.
يقتضى بناء منظومة إنتاجية صناعية أكثر من مجرد وجود عدد ملحوظ من المنشآت الصناعية تقع جنبا الى جانب، بل يقتضى أن ترتبط هذه المنشآت بعضها ببعض فى شبكة كثيفة من التبادلات البينية، حتى تكون نسيجا اقتصاديا متماسكا، فيصبح نمو أحد أطرافها مصدرا لنمو الأطراف الأخري، الأمر الذى يقتضى بدوره رسم خطة منهجية تضع لنفسها هذا الهدف.
ملاحظة تابعة: ينبغى إذن استبعاد الصناعات الاستراتيجية (المعادن، الوقود الأحفوري)، من التعريف، ففى البلدان التى حبتها الطبيعة بهذه الموارد، يمكن أن يحدث نمو متسارع دون أن يكون نتيجة لأنشطة إنتاجية، وقد يكون من الأمثلة المتطرفة على هذا: دول الخليج، فنزويلا، الجابون وغيرها (ومصر منها الى حد ما).
أما الجانب الآخر لإشكالية بناء مثل هذه المنظومة الإنتاجية الوطنية المتكاملة والقائمة بذاتها، فهو يخص إنعاش الإنتاج الزراعى والغذائى حتى تتحقق السيادة الغذائية، بمعنى قدرة الزراعة المحلية على توفير المنتجات الغذائية الرئيسية، الأمر الذى يتطلب بدوره سياسات ملائمة تسعى الى إنعاش الريف، وبالتالى كبح الهجرة الى الحضر التى تصاحب عملية تصفية الزراعة الفلاحية، علما بأن ما نشاهده حاليا فى مصر إنما هو بالتحديد تسارع تصفية الإنتاج الفلاحى لصالح زراعة رأسمالية لا تسعى من الأصل الى إنجاز السيادة الغذائية.
كما أن تمفصل خطة التصنيع من جانب، وإنعاش الإنتاج الفلاحى من الجانب الآخر، يقتضى العمل بسياسات ملائمة فى مجال تحديد الأجور الحضرية وأسعار المنتجات الغذائية، بما يضمن توافق العرض والطلب، ولكن لن ندخل هنا فى نقاش هذه المشكلات المعقدة والمرتبطة بعضها ببعض، آملا أن تعطى لى فرصة أخرى للعودة إليها.
يأتى مفهوم التنافسية بعد تحديد مشروع بناء المنظومة الإنتاجية ولا يأتى قبله، ينبغى إذن إدراك أن من الضرورى النظر الى القدرة التنافسية للأنشطة الإنتاجية فى الاقتصاد كمنظومة فى مجملها، وليس فقط الى وحدة إنتاج معينة، وبسبب تفضيل الشركات متعدية القوميات العاملة فى الجنوب للتعهيد والتعاقد من الباطن، فإنها يمكن أن تكون قوة دافعة لإيجاد وحدات إنتاج محلية مرتبطة بالشركات متعدية القوميات، أو مستقلة ذاتيا وقادرة على التصدير الى السوق العالمية، ما يمنحها وضعية تنافسية حسب تعبيرات الاقتصاديين التقليديين، ونحن لا نعتد بهذا المفهوم المبتور للقدرة التنافسية، والمستخلص من المنهج الإمبريقي، فالقدرة التنافسية عندنا مرتبطة بوجود منظومة إنتاجية متماسكة، وحتى توجد هذه المنظومة ينبغى أن يقوم الاقتصاد على تداخل وتكامل فروع الإنتاج حيث تصنع نسيجا كثيفا متكاملا.
تعتمد هذه القدرة التنافسية على عوامل اقتصادية واجتماعية متعددة، من بينها المستوى العام لتعليم وتدريب العمال على جميع المستويات، وكفاة مجموع المؤسسات التى تدير الاقتصاد السياسى القومى أى السياسة المالية القوانين المنظمة للأعمال، وقانون العمل، والائتمان، والخدمات الاجتماعية.. الخ، ولايمكن للمنظومة الإنتاجية كما نقصدها، أن تختزل فى أنشطة التصنيع وحدها «برغم أن غيابها ينفى وجود منظومة إنتاجية تستحق هذا المسمي»، وإنما يجب أن تتضمن أيضا إنتاج الغذاء وكذلك الخدمات المطلوبة، كى تعمل المنظومة بشكل طبيعى قادر على التكيف بتطور الظروف، شتان ما بين مفهوم البنك الدولى لتنافسية المنشآت، وبين مفهومه لتنافسية المنظومة الإنتاجية بمجملها.
من ثم تتطلب مسألة الصعود تحريا سياسيا وشاملا، فلايمكن لدولة أن تصبح صاعدة ما لم تتطلع الى الداخل «أكثر من الخارج»، بهدف إيجاد سوق محلية، وبالتالى إعادة التأكيد على السيادة الوطنية على الاقتصاد القومي، ويتطلب هذا الهدف المركب امتلاك السيادة الوطنية على جميع جوانب الحياة الاقتصادية، ويقتضى بشكل خاص تطبيق سياسات تضمن السيادة الغذائية، والسيادة الوطنية على الموارد الطبيعية، والوصول الى الموارد خارج البلاد، وتتناقض هذه الأهداف المتعددة والمتكاملة مع أهداف طبقة قائمة ترضى بنماذج النمو التى تلبى احتياجات المنظومة العالمية السائدة «الدولية الليبرالية» والإمكانات التى تقدمها.
روابط سياسية
إن الروابط بين الجوانب السياسية للصعود من ناحية، والتحول الاجتماعى المصاحب من ناحية أخري، لا تتوقف فقط على التماسك الداخلى للسياسة الاقتصادية، وانما تتوقف بالمثل على درجة تكاملها أو تناقضها مع التحول الاجتماعي، والصراعات الاجتماعية سواء بنيت على أساس طبقى أم سياسى لا تكيف نفسها للتلاؤم مع منطق اضطلاع الدولة بعملية الصعود، بل انها من محددات هذا البرنامج، وتبين الخبرة الحالية تنوع ودينامية هذه الروابط.
وفى أغلب الأحوال، يكون الصعود مصحوبا باختلالات وأوجه لعدم المساواة، ومن الضرورى فحص طبيعتها: هل هى اختلالات يكون المستفيدون منها أقلية ضئيلة أو كبيرة «الطبقة المتوسطة»، وهل تتحقق هذه الاختلالات فى إطار يزيد إفقار أغلبية العمال، أم هى اختلالات أخف، بمعنى أن يجد فيها الشعب بنفسه تحسنا فى نوعية الحياة حتى لو كانت معدلات نمو المقابل الذى يحصل عليه العمال أقل من أهم المستفيدين من النظام؟ بعبارة أخري: هل تربط هذه السياسة الصعود بالإفقار أم لا؟.
إن الصعود لا يتبع مجموعة من القواعد المحددة، وإنما هو سلسلة من الخطوات المتتابعة، ويمكن للخطوات الأولى أن تمهد الطريق للنجاحات التالية، أو أن توصل إلى طريق مسدود.
ملاحظة مهمة: إن حديثنا هنا عن التنافسية، يعنى أننا لا نعادل بين المشروع الوطني، ورؤية انعزالية قائمة على تصور خاطئ بإمكان الانغلاق على النفس، وقطع العلاقات مع بقية العالم! كلا، فالنجاح فى تنفيذ المشروع الوطنى هو نفسه شرط النجاح فى الوصول إلى تنافسية ذات معني، وتقدم الصين دليلا قاطعا على ذلك.
وبالمثل تمر العلاقة بين الاقتصاد الصاعد والاقتصاد العالمى بتحولات مستمرة، ومن هذين المنظورين المختلفين تأتى السياسات التى يمكن أن تعزز السيادة الوطنية أو تضعفها، وفى الوقت نفسه، تعزز التضامن الاجتماعى أو تضعفه، لذلك لا يعتبر الصعود مرادفا لنمو الصادرات، ولا يمكن قياس زيادة القوة بهذه الطريقة، فنمو الصادرات يمكن أن يقوى أو يضعف السيادة الوطنية لدولة صاعدة إزاء السوق العالمية.
لا نستطيع التحدث عن الصعود بعمومية، كما لا يمكن التحدث عن النماذج (الصينى الهندى البرازيلى الكوري)، بهذا التعميم، يجب القيام بتحليل ملموس فى كل حالة للخطوات المتتابعة فى تطور هذا الصعود، وتحديد نقاط القوة والضعف، وتحليل ديناميكية التطبيق والتناقضات المصاحب له.
طموحات الدول الصاعدة
إن الصعود ليس مشروعا اقتصاديا محضا، وانما هو مشروع سياسى كلي، من ثم يتحدد مقياس النجاح بالحد من الوسائل التى تتمكن من خلالها المراكز الرأسمالية المسيطرة من إدامة سيطرتها، لا قياس النجاح الاقتصادى للدول الصاعدة باستخدام أدوات الاقتصاد التقليدي، وقد قمت بتحديد الوسائل المذكورة فى تحكم القوى المسيطرة فى عدة مجالات: السيادة على التطوير التكنولوجي، والقدرة على الوصول الى الموارد الطبيعية، والهيمنة على المنظومة المالية العالمية، والهيمنة على توزيع المعلومات، واحتكار أسلحة التدمير الشامل، ويرمى الثالوث الامبريالى الجماعى «الولايات المتحدة وأوروبا واليابان» الى استخدام تلك الوسائل للحفاظ على أوضاعه المميزة فى السيطرة على الكوكب، ومنع الدول الصاعدة من تحدى تلك السيطرة.
أستخلص من هذا، أن طموحات الدول الصاعدة تدخل فى صراع مع الأهداف الاستراتيجية للثالوث، وستتحدد درجة العنف المنبثق من هذا الصراع حسب مستوى راديكالية تحدى الدولة الصاعدة للامتيازات سابقة الذكر، التى تتمتع بها المراكز المذكورة.
ولا ينفصل الصعود الاقتصادى عن السياسات الخارجية للدول: هل هى منحازة الى الائتلاف العسكرى والسياسى للثالوث؟ هل تقبل باستراتيجيات ينفذها الناتو أم تعترض عليها؟
ولمشروع الصعود بعد ثقافى أيضا، إذ أنه يخص صعود وطن «شعب» وليس صعودا اقتصاديا فقط، فلابد من التمييز بين الأسواق البارزة والدول البارزة، هذا شرط أن يكون المشروع الحضارى المعنى ينظر الى المستقبل، ولا يسقط فى تصورات ماضوية خيالية، ولكن لن نتناول هذا الوجه من المشكلة هنا.
لعل القارئ يدرك أن تحديدى لبيان مكونات مشروع صعود صحيح لا يمت بصلة بحديث البنك الدولي، وأنصار الليبرالية الجديدة، بل تقوم رؤيتى على نقيض وصفة البنك المطروحة للجميع دون تمييز، ومهما تختلفت الظروف: الانفتاح على الاستيراد وتحركات الأموال دون قيد ولا شرط، الأمر الذى يعطى للشركات العملاقة متعددة الجنسية قدرة على تحويل الأنشطة الانتاجية فى تخوم المنظومة، الى أنشطة للعمل من الباطن لمصلحة استحواذ احتكارات الثالوث الامبريالى على القيمة المضافة محليا.
إن مشروع البنك الدولى هو فى واقع أمره، مشروع تجديد شروط التبعية لكى تتلاءم مع مقتضيات تطور نظام الاحتكارات السائدة فى المراكز الامبريالية، وبالتالى فهو مشروع «تحديث الفقر» (ولا اقتلاع جذوره)، من خلال تعجيل الهجرة من الريف لمصلحة تكتل الفقراء الجدد فى الأحياء الحضرية العشوائية.
التنمية الرثة فى مقابل الصعود
لا يمكن أن يتحقق صعود دون وجود سياسة ثابتة للدولة، تستند الى كتلة اجتماعية مريحة، تمنح المشروعية والقدرة على بناء مشروع متماسك يتطلع الى توجيه منظومة الانتاج الوطنى نحو الداخل، كما يجب أن يضمن مشروع الصعود مشاركة الغالبية العظمى من الطبقات الاجتماعية والفئات التى تحصل على ثمار التنمية، وهو ما يتناقض مع التطور الذى يفرضه الاستسلام لمتطلبات الرأسمالية العالمية والاحتكارات العامة، والذى لا ينتج شيئا أكثر مما أستطيع تسميته «التنمية الرثة».
تأتى «التنمية الرثة» فى يومنا كمنتج للتفكك الاجتماعى المتسارع المرتبط بنموذج «التنمية» (وهو لا يستحق هذا الاسم)، الذى فرضته احتكارات المراكز الامبريالية على المجتمعات الطرفية الواقعة تحت سيطرتها، وهو ما يتبدى فى النمو الهائل لأنشطة البقاء (المسماة المجال غير المنظم)، من جراء الإفقار المرتبط بالمنطق الأحادى للتراكم الرأسمالي.
ومن بين تجارب الصعود، هناك حالات تستحق اهتماما خاصا بسبب عدم ارتباطها بعملية التنمية الرثة، ففيها لم يقع إفقار للطبقات الشعبية، وإنما حدث تقدم فى مستويات المعيشة، حتى لو كان متواضعا، ومن بين هذه الحالات حالتان رأسماليتان بشكل واضح، هما كوريا وتايوان (ولن أناقش هنا الشروط التاريخية الخاصة التى سمحت بنجاح الصعود فى هذين البلدين)، وهناك بلدان آخران ورثا طموحات اقترنت بمسمى الاشتراكية، وهما فيتنام والصين، ومن الممكن أيضا تصنيف كوبا فى المجموعة الأخيرة اذا استطاعت التغلب على التناقضات التى تمر بها حاليا.
لكننا نعرف حالات صعود أخرى ارتبطت بالتنمية الرثة على أوسع نطاق، وتعتبر الهند أفضل مثال عليها، فهناك أجزاء فى هذا المشروع تتطابق مع مقتضيات الصعود، إذ هناك سياسة للدولة تعمل لمصلحة بناء منظومة انتاجية صناعية، وبالتالى هناك توسع مرتبط بهذا فى الطبقات المتوسطة، وتقدم فى القدرات التكنولوجية والتعليم، كذلك هناك قدرة على لعب دور مستقل فى السياسة الدولية، ولكن فيما يتعلق بالأغلبية الساحقة وبالتحديد ثلثا المجتمع نجد عملية إفقار متسارعة، وهكذا نجد نظاما هجينا يجمع بين الصعود والتنمية الرثة، وبالإمكان إلقاء الضوء على الرابطة بين هذه الجانبين المتكاملين فى الواقع، ودون اللجوء الى التعميم المبالغ فيه، أعتقد أن هناك حالات أخرى تنتمى الى ذلك الهجين، مثل البرازيل وجنوب إفريقيا وغيرهما (تركيا وماليزيا وتايلاند والمسكيك..الخ).
ولكن يوجد أيضا فى العديد من بلدان الجنوب، وضع يتسم بغياب عناصر الصعود، بينما تنفرد عمليات التنمية الرثة بالتحكم فى حياة المجتمع، وتنتمى مصر للأسف الى هذه المجموعة، وذلك بعد تصفية التجربة الناصرية، انطلاقا من حكم السادات الى يومنا هذا.
لمزيد من مقالات د. سمير أمين


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.