اسمع معى يا صديقى، المسألة جد لا هزل فيها، وكفانا سكوتاً وصبراً على ذلك الدين المزيف، الذى يقدمونه للعالم على أنه الإسلام وما هو هو، هو فقط الدين الرابع الذى يقدمونه للأمة منذ قرون ويقومون بدراسته وتدريسه وصناعة حواريين له وأصنام بشرية بديلة للات والعُزَّى وهُبل ومناة، تقربهم إلى الله زلفى! إذا كان فى إمكانك يا صديقى أن تصمت، فأنا لا طاقة لى بذلك، لذلك سأظل أكتب مدافعاً عن دين النبى، ليعرف الناس أنه أبعد ما يكون عن دين التراث، وليكن ما يكون. يقول التراثيون يا صديقى منذ قرون طويلة ومن خلال المنابر والدروس والمجلدات وكتب السيرة وكتب الحديث إن أبا الرسول، صلى الله عليه وسلم، فى النار! وإن أمه التى حملته ورأت قبل أن تلده أن نوراً خرج منها أضاء العالم، ثم ماتت أمامه فى رحلة عودتها من زيارة لأهلها فى يثرب وهو بعد طفل صغير، فرآها تلفظ أنفاسها الأخيرة، فبكى عليها وانفطر قلبه حزناً على فقده أحن قلب عليه فى الوجود، وبفقدها وفقد والده الذى لم يره أبداً أصبح يتيماً ضعيفاً فقيراً يعيش فى كنف جده، ثم عمه من بعد ذلك، هذا الأب الذى كان أرق وأجمل وأطيب أبناء عبدالمطلب ألقاه التراثيون فى النار! لماذا؟ لأنه لم يكن مسلماً!! ولكن الإسلام لم يكن قد جاء بعد، وأهل الجزيرة العربية كلها لم يكن الله قد أرسل لهم رسولاً مصداقاً لقوله: «لتنذر قوماً ما أنذر آباؤهم»، فيقول التراثيون: ولو، سندخله النار وبئس المصير، فإذا قلت لهم: إذن، هل من الممكن أن نستثنى أم الرسول، صلى الله عليه وسلم، السيدة آمنة بنت وهب، سيقولون لك هى أيضاً فى النار، وسيقولون لك ذلك وعلامات السعادة الشديدة تبدو عليهم لأنهم استطاعوا بسهولة إدخال والدى المصطفى، صلى الله عليه وسلم، إلى النار! وعذراً يا رب العزة سننحى جانباً ما قلته فى القرآن من أنه «وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا»، لأن أتباع دين التراث قد راودتهم أنفسهم على إدخال والدى الرسول اللذين لم تصل لهما رسالة إلى النار، ومن أجل ذلك سنتغاضى قليلاً يا الله عن قولك «لِتُنذِرَ قَوْمًا مَّا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ»، لن نفهم يا رب أن والدى الرسول، صلى الله عليه وسلم، هما من ضمن «مَّا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ»، إذ المهم أن ندخلهما النار حتى يرضى أتباع «صحيح مسلم» الذى زعم أن رجلاً قال: يا رسول الله أين أبى؟ قال فى النار، قال فلما قَفَّا دعاه فقال إن أبى وأباك فى النار»، ومن أجل التوفيق بين هذا الذى زعموا أنه حديث وبين آيات القرآن التى تنفى العذاب حتى يبعث الله رسولاً لا مانع أن يقول الحافظ بن كثير «إنه يمكن الجمع بين هذه الأدلة وبين الحديث، بأن يكون الله تعالى أعلم نبيه، صلى الله عليه وسلم، أنهما لا يؤمنان إذا امتحنا يوم القيامة وبهذا يستوجبان النار»، فالحافظ بن كثير هنا يستنتج أمراً ظنياً، ليؤكد به ما يخالف القرآن! ويزعم أن الله سيجرى «امتحانات ملحق» فى الآخرة لمن لم تصل لهم الرسالة!! وهذا من أعجب ما قاله أحد، وهو يفتقر لأدنى درجات المنطق والفهم الصحيح!. ولنا الآن يا صديقى أن ننسى من أجل عيون أهل التراث أن العقل مناط التكليف، وأنه لا يكلف الله نفساً إلا ما أتاها فى استعدادها الأزلى، فهو خالقها، وهو الذى يعلم بواطنها وخوافيها، فلا تكليف على من عجز عقله عن الوصول إليه، فإذا كان ذلك كذلك، فليعلم أتباع دين التراث أن من قال إن عبدالله بن عبدالمطلب والد الرسول فى النار، فقد أخطأ وضل وذل، فوالد الرسول من أهل الفترة، إذ قال الله سبحانه فى سورة المائدة «قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِّنَ الرُّسُلِ»، والرسول ليس هو صاحب الرسالة فقط، ولكن الرسول أيضاً هو الدليل، فكل نبى أرسله الله كان يأتى قومه بآية أو علامة، فيعرفون أنه مرسل من قبل الله. وكون أن أبا الرسول ليس فى النار هو من تمام عدل الله، فالله سبحانه، قال: «وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا»، فهو بعدله الذى منع التعذيب قبل إرسال الرسل، ولكن لكى يتقن التراثيون «حبك» إدخال من يريدون إلى النار، لذلك زعموا أن الله سيمتحن أهل الفترة، وسيكون هذا الامتحان الملحق يوم القيامة! فيسندون للرسول، صلى الله عليه وسلم، أنه قال: «يؤتى بأربعة يوم القيامة بالمولود وبالمعتوه وبمن مات فى الفترة وبالشيخ الفانى كلهم يتكلم بحجته، فيأخذ الله مواثيقهم ليطعنه، فيرسل إليهم رسولاً أن ادخلوا النار، قال: فمن دخلها كانت عليه برداً وسلاماً، ومن لم يدخلها يسحب إليها». روى التراثيون هذا الحديث اللامنطقى ليضيقوا رحمة الله الواسعة، فقد شق عليهم أن يفلت منهم أحدٌ فيدخل الجنة، فنسبوا إلى الرسول، صلى الله عليه وسلم، أن المجنون الذى ليس له عقل، والطفل الذى مات ولو كان ابن ساعة أو أقل، والرجل الذى ولد أصم فلم يسمع عن دين، وغيرهم ممن يقال عنهم «أهل الفترة» سيأتى الله بهم يوم القيامة، ويبدو أن الله سيحكم عليهم بدخول النار! فيجادلون الله: كيف ندخل النار ونحن كذا أو كذا، أى لم نعلم شيئاً عن الدين من الأصل! فيرسل الله لهم رسولاً يقول لهم أنا رسول الله لكم وأقول لكم ادخلوا النار، فمن دخلها كان آمناً ثم يخرج منها معززاً مكرماً ليدخل إلى الجنة، ومن رفض فسيسحب إلى النار لتكون مثواه!. هذا الذى زعموه حينما نسبوه إلى الرسول، صلى الله عليه وسلم، تغاضوا فيه أن الدنيا وحدها هى دار اختبار وابتلاء مصداقاً لقوله تعالى: «تَبَارَكَ الَّذِى بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، الَّذِى خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ» الله يقول لنا إنه خلق الموت والحياة فى الحياة الدنيا للاختبار، ثم اسمعوا قوله «إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا»، هل نسوا أن الدنيا هى دار العمل، أما الآخرة فهى دار حساب وجزاء ومسئولية وليست دار امتحان مصداقاً لقوله «فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ»، والإنسان سيسأل عن عمله، سواء كان مؤمناً أو جاهلاً غافلاً، فالله قال: «فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ»، وقال: «مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ» وهذا من تمام عدل الله. ثم يا سادة يا أهل التراث يا من تقسمون جميعكم بصحة حديث الامتحان هذا، أو بصحة حديث والدى الرسول فى النار، ألم تعرفوا شيئاً عن منهج الله فى تكليف الناس؟! الله عدل، وطلب منا أن نعبده بالعدل، وإذا كان الامتحان التكميلى الملحق هذا صحيحاً فكان من الواجب أن يكون الامتحان متفقاً مع النوازع التى خلقها الله فى النفس البشرية، والفطرة التى فطره عليها، وأن يكون هذا التكليف من التكاليف المستطاعة لا المستحيلة، إذ «لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا»، ثم يجب أن يكون تكليف دخول هؤلاء فى الآخرة النار للامتحان مساوياً لتكليف الله للناس فى الحياة الدنيا، فقد يقول الواحد منهم يا رب هذا ليس عدلاً، أعدنى إلى الحياة الدنيا وهب لى عقلاً أفهم به وأرسل لى رسولاً، ثم حاسبنى كما حاسبت من وهبت لهم عقلاً، أو يقول آخر يا رب هات كل البشر الآن وأرسل لهم رسولاً يطلب منهم دخول النار! ولكن ماذا قال الله فى الرد على التراثيين من أصحاب الامتحان التكميلى؟ قال لهم «يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ»، أى أن الناس، كل الناس، المسلم وغير المسلم، سيخرج من قبره يوم القيامة ليرى عمله، ليرى عمله يا أهل التراث، والله العادل الرحمن الرحيم قال إن الذى يعمل مثقال ذرة خيراً من كل الناس سيأخذ خيراً، وإن الذى يعمل مثقال ذرة شراً من كل الناس سيأخذ شراً، أى أنه لا يوجد امتحان ولا ملحق ولا غيره، ولله الأمر من قبل ومن بعد.