أنا حقّاً أحب رائحة التراب الرطب الطازج، كلما رأيته سعيت إليه لا إرادياً، أخلع حذائى وأسير عليه، وكثيراً ما أتذكر مقولة شيخى: «السنبلة الممتلئة قريبة من الأرض دائماً يا عزيزتى». نعم، إنه يأخذنى إلى عالَم آخَر أعيشه بداخلى، عالَم لم يهجرنى قَطّ، عالَم طفولتى وأيام لم يعُد بإمكانى أن أعيدها. وأنت يا صديقى، ما الذى بقى لك من ذكريات طفولتك؟ هل ما زلت تُغلِق عينيك وأنت تستدعى ذلك الصوت الهامس الذى كان يصلِّى من أجلك كل ليلة وهو يُودِعُك عالَم الملائكة، الصوت الذى طالما خاط لك أجنحةً لتطير بها حيث أبطال حكاياتهم المثيرة الدافئة؟ هل ما زلت تتذكر مَذاق الطعام الذى كنت تركض إليه عندما تعود من المدرسة؟ هل ما زلت تتذكر ابتسامة أمك وهى تقدّمه لك، وجلستكما معاً وحواركما حوله؟ إذا كنا نعيش على هذه الذكريات البسيطة، فلماذا نعمل إذن على أن نحرم أطفالنا إيّاها؟! عندما نتلقّى التهانى بحضورهم إلى الدنيا ندرك أن للدنيا متعة جديدة لم نكُن نعرفها من قبل، ولكننا لا نعرف كيف نستمتع بها، ببساطة لأننا لم نتعلم كيف نستمتع بها. كم أحزن حقّاً لهؤلاء الذين يُنفِقون أعمارهم بعيداً عن لذة هذه البراءة وهم يعتقدون أنهم يعملون هذا من أجلهم! نحن نخطئ يا سادة لأننا لم نقف يوماً لنفهم احتياجاتهم، نحن دائماً نقرّر ماذا نعطى، ولم نسأل يوماً ماذا يريدون فعلاً. هم يريدون ما سيصنع ذكرياتهم ويشكِّل شخصياتهم غداً، ما سيبنون عليه بيوتهم وحياتهم المقبلة. نعم، هم لا يريدون أصناف الطعام التى تملأ موائدهم ليأكلوها وحدهم، هم لن يتذكّروها، لن يتذكروا عدد الملابس فى دواليبهم قلّت أم كثُرَت.. سيتذكرون فقط يدَكم وهى تُغلِق أزرار القميص أو تمشّط شعرهم، كلّ حوار جمعكم بهم، اليوم الذى افترشوا فيه الأرض للّعب معكم، وكيف تشابكت ضحكاتكم فى فضاء المنزل. لا تحرموهم إيّاها، فهى لهم حياة فى بُعدكم، ولكم عمرٌ بقلوبهم بعد رحيلكم. بيوتنا جميعاً متشابهة، تنقصها أشياء كثيرة، فلِمَ لا نملأ فراغها بالحب؟ هل تعرفون قيمته، قيمة ألا تترك ابنك ينام دون أن تهمس فى أذنه أنك تحبه، ودون أن تُطمْئِنَه بدعائك له؟ لا أذكر أن أمى قرأت لى كتاباً قبل النوم، ولكنها أطعمتنى الحكمة الليلية بحكاياتها التى أدمنتُها حتى النخاع، والتى ما زلت استمدّ منها دفء ليلى حتى الآن.. حتى الموت.. نعم، احْكُوا لهم من قلوبكم، اختصروا عليهم الزمن، امنحوهم تجاربكم، قُصّوا عليهم ذكرياتكم.. سيعرفونكم أكثر وسيتعلمون أسرع. هذا القلب الطازَج يريد أن يستمتع بك أباً وأُمّا، يريد أن يكبر على يديك، وأنت إن تَفكّرت قليلاً فلن يُطرِبك شىء أكثر من وَقْع خُطَاهم المسرعة نحوك، ونغمات أصواتهم المرتعشة.. احترموا هذه الدموع التى سقطت منهم كلما أخطؤوا، فما هى إلا ثمار ضَعف، هم لم يتعلموا شيئاً من قِبَلكم، فلماذا تعاقبونهم على ما لم يتعلموه؟ مُدّوا لهم أصواتكم الحانية ليتسلّقوا عليها إلى عقولكم، حينها فقط سيتعلمون حقّاً. واعلموا أنكم ستتذكرون يوماً هذه الأخطاء لتضحكوا عليها معهم. استمتعوا ببراءة السؤال، وتَفَكّروا جيداً قبل الجواب، لأن ما سيتعلمونه منكم لن ينسوه أبداً. هذه الأشياء رغم بساطتها لها مذاقٌ عَمِيق لو تعلمون، ولو تعلمون كم يتمناها من لم تُكتَب له هذه المتعة، ومن أُخِذَت منه رغماً عنه، ومن -لا أرانا الله- مات عنه ولده، تَعَلّمُوا إذن يا أصحاب النعم كيف تستلذّون بها، فليس أكبر من متعة أن يكبر ولدك أمامك. أعلم أنكم مُجهَدون، ولكنهم جاؤوا إلى الدنيا برغبتكم أنتم، لم يكُن قرارهم، فلماذا تحرمونهم وتعاقبونهم على ذنوب لم يقترفوها؟ وأعلم أيضاً أن منا مَن أُجبِرَ على زوج لسبب أو لآخَر، ومنا من أنجب رغماً عنه.. حياتك قاسية، كيف إذن يطاوعك قلبك فتقسو على من لا ذنب له؟ أعلم أن منا أيضاً مَن تَزَوّج صاحب طفل، أو صاحبة طفل، ليس هذا ذنبهم.. كونوا رحماءَ بهم، فمن لا يَرحَم لا يُرحَم. ارتدوا ثوب الرحمة، فأنتم جديرون به. أحبوهم جميعاً، وعلّموهم أن الحب لغة الله فى الأرض، وأن قلباً لا يعرف الحب قلبٌ لا يعرف الله. ابحثوا عن الحلم الطازج بداخلهم، وافتحوا لهم النوافذ ليُطِلّوا على الدنيا بأعيُنِكم، استكشفوا ما بداخلهم من قدرة على الإبداع، ومن رغبة فى الحياة والمرح.. علِّموهم، فهذا البيت الذى ستلجؤون إليه وتحتمون فيه من وجع الشيخوخة وألم الوحدة لن يكون سوى هذه الخطوط البسيطة التى ترسمونها الآن، فأحسنوا وأحِبّوا يرحَمْكم الله وترحَمْكم قلوبهم.