«سأخبركِ سرّاً»، ثم مال نحوى هامساً: «كل هذه النعم التى فقدها الجاحدون تجعلنى أحزن من أجلهم». هكذا علّق الشيخ الطيب على موقف رأيناه معاً فى أحد شوارع مدينتنا الساحلية.. وكانت واقعة لا تُنسَى، فقد وقف ذلك الشاب المفتون بقوته، المأخوذ بعمره الفتىّ، وبصوته الرنان فى ذاك اليوم الشتوى الغائم، ليصنع مسافات من الآلام بينه وبين أبيه.. التفّ جميع المارة والبائعين وأصحاب المحالّ التجارية والأطفال فى الشارع، وأطلّت النسوة من شرفات المنازل يتقصّون الحدث الجلل.. ماذا يحدث؟! وما هذا الهرج؟! علا الصوت أكثر كأنها مسرحية هزلية، أمسك بجلباب أبيه مستعرضاً، ووقع قلبى أنا! حينها تضرعت إلى الله أن يرقّ القلب الأعمى. أغمضت عينَى ورحلت، وجزمت أنى أكاد أسمع صهيل الحزن فى عينَى الأب البائس المُهان. كيف يمكن أن نتحول إلى طواغيت أمام مَن منحنا ما لن يعيده ثانيةً من قوته وعمره؟ نتحمل ونسامح ونساعد الغريب دائماً، ونلتمس العذر لمن يؤلموننا، ونتحمل غضب هذا وذاك.. ونقدم فروض الطاعة والولاء للقادر القوى.. أليسوا هم أحقّ بهذا؟! لا تُسقِطوا هذا الجدار الشامخ بينكم وبين زيف الحياة والناس، لا تتركوا هذه القلوب التى تحبكم حقّاً، وتحتاج إليكم قريبين مطمْئِنين، مجروحةً منكم فتبتعد وتذبل، اركضو إليهم، امنحوهم بعض ما منحوكم.. قولوا فيهم حبّاً وزهواً وعرفاناً.. فهم سركم وسندكم، فكل هذه الحروف والأفعال الطيبة التى تصدر منك تدفئهم فى خريفهم. لا أعرف كيف لهذه الحياة أن تلهينا عمّن هم عون لنا، واليد التى تمتدّ لتمشط الأحزان عن قلوبنا حين تضمنا وتربت على أكتافنا، اليد التى تمطرنا بالدعاء والتضرّع. أنتم إليهما أقرب كلما اجتمعتم حولهما ولو لساعة أسبوعيّاً، كُلّما جمعتكم بهما مائدة الطعام التى تربيتم حولها. ألم تشتَقْ مثلى إليها! إلى الطبق الشهى الذى يُصنَع لك بالمحبة والدعاء! اذهب إذن وشاركهما وجبة غداء صُنعت ابتهاجاً بك. هرول إلى غرفتهما لتحضِّر شيئاً نسياه، اركض إلى الشارع لتشترى شيئاً اشتهياه، احمل لهما خبراً أسعدك؛ سيُسعِدهما حتماً. ضُمّهما بشدة وارحمهما قدر ما تريد أن تُرحَم، وتذكر، الروح أبداً لا تكبر وإن شاخ الجسد.. تبقى معلقة بما وبمن أحبّت. إنهما قلبان آخَران لك ينبضان، خارج جسدك، يشعران بك دون أن تتحدث إليهما، يأتيان إليك بالعفو دون أن تطلبه. منّا مَن فقد أحدهما أو كليهما.. نحن فعلاً نعلم -ولا أتمنى لمن لم يعلم أن يعلم- أنه فى اللحظة التى نوقن فيها أننا لم نعد نستطيع لثم الجبين الدافئ أو تقبيل الكفّ الحانية، أو لم نعد نستطيع سماع الصوت الذى طالما جاءنا داعياً ومباركاً، عندما تعيش هذه اللحظة يسقط عنك مذاق الحياة الحقيقى، وتعلم أنك صرت وحيداً. سارعوا، اقتسموا معهم الحياة، شاركوهم أيامهم وحكاياهم واستمتعوا بنظراتهم وأكفهم الحانية.. ستمتعكم قدر ما أمتعَهُم لهْوُكم ونجاحكم ووجودكم. إذا أردت أن تحسبها من جديد فأخبرنى: هل تذكر آخر مرة أخذت أبناءك وزوجك إليهم وطرقت بابهم؟ متى كان آخر تليفون وزيارة ولقاء؟ كم مرة أخطأت وذهبت، فوجدت باب العفو مفتوحاً؟ سأذكِّرك: للعفو والرحمة بابان فقط لا يغلقان، باب رب السماء، وبابهما فى الأرض. أنت غنىّ حقّاً بهما، وبالدعوات التى خرجت من قلبيهما قبل فميهما لتدثِّرك أينما كنت ومهما فعلت. هذان هما الشريك الأبدى لك الذى لن يتخلى عنك مهما فعلتَ أو فعلَت بك الدنيا، فكُن لهما أيضاً سنداً.. أشبعهما حبّاً، وازرع فى خريفهما ابتسامة تليق بكل ما قدّماه لك يوماً.. اقترب أكثر فهما الآن أكثر احتياجاً، وعاملهما كما تحب أن يعاملك أولادك، ولا تنسَ مقولة شيخى الطيب: «كل هذه النعم (والسعادة) التى فقدها الجاحدون.. تجعلنى أحزن من أجلهم». اذهب إليهم الآن أيها الصالح الطيِّب ولا تسأل هل بابهما مفتوح لى الآن.. فالباب يا عزيزى لم يُغلَق قَطّ، ففى القلبين مأواك.. فبالقلبين إحساناً..