جاء الإسلام العظيم ليضبط حركة الإنسان وسلوكه على هذه الأرض، بل وضبط حركة الحياة في شتى المجالات، جاء الإسلام لينظم العلاقات الإنسانية على أسس سليمة رشيدة بانية، وإعداد الناس للقاء ربهم يوم القيامة... جاء الإسلام العالمي لإدارة الحياة والكون.. إدارة في شتى الجوانب والمجالات.. إدارة متوازنة بانية.. تحقق مصالح العباد برؤية ربانية شاملة.. لا يعتريها أبدًا أي خلل أو نقص عطب أو قصور مهما تواترت الأزمان والدهور.. وإذا كان البعض يقود حملة يطلقون عليها يوم اليتيم مدعومة بالشو الإعلامي -مع عدم التشكيك في نواياهم الطيبة- ومصحوبة بمن ببعض الممثلين ولاعبي كرة القدم...إلخ، وهذه الحملة تستمر يومًا يَنعم فيه اليتيمُ بالفرح والمرح والهدايا.. وبعد هذا اليوم سرعان ما يعود أدراجه؛ ليعيش واقعًا ملئ بالهضم والقضم.. يعود اليتيم أدراجه ليعيش عيشة القهر والحرمان، يعيش قسوة جوع البطن إلى المطعم الجيد والشراب الجيد... ويعيش قسوة جوع الوجدان إلى الحب والحنان وعاطفة الأبوة... يعيش قسوة جوعه إلى الأيدي الحانية التي "تطبطب" عليه... يعيش جوعه إلى حضن أبيه الدافئ.. وملمس يد أبيه وهي تمس جلده تحت ملابسه لتنشر الحب والرحمة والأمن والحنان في أسمى معانيه... يعيش قسوة الخوف والرعب إذا طرق باب بيته طارق طرقة شديدة بعض الشيء، فمن يحميه بعد الله...؟!. جاء الإسلام ليرعى اليتيم قبل العالم بأربعة عشر قرنا من الزمان.. اليتيم شخص ضعيف فقد مصدر الأمن والحنان والحماية.. فقدت عيناه ابتسامة وجه أبيه في وجهه.. فقد نظرة الرحمة الحانية من أبيه أو أمه.. فقد متعة اليد الحانية التي تمر طولا وعرضا على جسده.. فقد العاطفة.. فقد الرحمة.. فقد اللباس الجيد.. فقد الطعام الجيد.. فقد الشراب الجيد.. فقد التعليم الجيد.. فقد لعب أبيه معه... فقد أبيه في البيت والنادي والشارع وفي المسجد.. فقد أباه في المدرسة.. إنه حقًّا مسكين ذلكم اليتيم.. اليتيم حينما يبكي يهتز لبكائه عرش الرحمن... ويقول الله –عز وجل- حينها: (مَن الذي أبكى هذا الغلام الذي غيبت أباهه في التراب). لقد حثَّ الإسلامُ على كفالة اليتيم، ورعايته عاطفيا ووجدانيا، حتى ينشأ سويًّا ومحبًا للخير... فخير بيت في المسلمين بيت فيه فقير يحسن إليه، وشر بيت في بيوت المسلمين بيت فيه يتيم يُساء إليه.. فإذا كانت خير بقاع الأرض المساجد، وهي بيوت الله في الأرض، فإن خير البيوت بعد بيوت الله هي البيوت التي فيها يتامى يُحسن إليهم... هذا هو الميزان السليم.. أما الميزان في دنيا الناس أمسى مقلوبًا، فخير البيوت في نظر الكثيرين، بيت فيه ثري أو غني أو صاحب سلطة أو جاه...!!. إن واقع اليتيم الضعيف في دنيا الناس أليم ومؤلم.. فلم يزده الناس إلا ضعفًا على ضعفه.. وخوفًا على خوفه، صورها الشاعر الحكيم في الأبيات التالية: يمشي اليتيم وكل شيء ضده والناس تغلق دونه أبوابها وتراه ممقوتا وليس بمذنب ويرى العداوة لا يعرف أسبابها حتى الكلاب إذا رأت رجل الغني حنَّت إليه وحركت أذنابها وإذا رأت يتيمًا يومًا ماشيًا نبحت فيه وكشرت أنيابها هذا اليتيم الضعيف الذي فقد في دنياه حماية أبيه ورعايته وأمنه.. عظَّم اللهُ –تعالى- من شأنه، وجعل له مكانة كبيرة في الإسلام... وكفالة اليتيم في الإسلام ليست في كفالته ماديا فحسب، بل الكفالة تعني القيام بشئونه من التربية، والتعليم، والتوجيه، والنصح، والإرشاد، والتهذيب، والقيام بما يحتاجه من حاجات تتعلق بحياته الشخصية من المأكل والمشرب والملبس والعلاج، وتأمينه على جسده، ونفسه، وعرضه، وماله، وعقيدته، ودينه، وأخلاقه.. فاليتيم الذي قرر الله –عز وجل- له حق الحياة، وحق النسب إلى أبيه لا إلى غيره، بقوله: (ادْعُوهُمْ لِآَبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آَبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ...) (الأحزاب: 5) وقرر له حق الرضاعة، وحق النفقة، وحق الولاية على الحضانة والنفس والمال، وحق الرحمة.. هذا الشخص ليس يحتاج فقط إلى طعام البطون؛ بل يحتاج إلى غذاء العقل، وغذاء النفس، وغذاء الوجدان.. يحتاج إلى التعليم والتهذيب.. والمسلم مأمور أن يعلمه مما علمه الله، يجود عليه بخبراته الحياتية الأمينة، حتى لا يصطدم بأشواك الحياة، وهو الضعيف عديم الخبرة، ومفتقر إلى الموجه!! وياله في حاجة إلى ديمومة التوجيه في مجتمع متلاطم الأمواج سريع التغير.. وكفالة اليتيم نوعان: إما أن يضمه الكافل إلى أسرته وإما أن ينفق عليه وهو مع أمه أو في دور الأيتام، والنوع الثاني من الكفالة أدنى منزلة من النوع الأول.. والكفالة الحقيقية هي التي تُشعر اليتيمَ بأنه يعيش حياة كريمة، ولا يشعر بفرق بينه وبين أقرانه ممن ليسوا أيتامًا. دستور القرآن في رعاية اليتامى: والرؤية القرآنية ترى أن كفالة اليتيم ورعايته وصيانته والقيام على أموره، من أعظم أبواب الخير والبر والرحمة، وفي ذلك يقول مولانا تبارك وتعالى: (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا َبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا) (النساء: 36)، ويقول: (يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ) (البقرة: 215) والناظر المدقق في الآيات السابقة يلحظ أن الله -عز وجل- قد عطف بحرف (الواو) والعطف بالواو يفيد مطلق الجمع بين المتعاطفين أي (الاشتراك)، وكأن الإحسان إلى الوالدين وذي القربى واليتامى...إلخ من عبادة الله عز وجل، ولا يقل عنها بل يأتي مرتبا بعدها مباشرة.. وإذا كانت الرؤية القرآنية قد حفزت النفوس والهمم على كفالة اليتيم، وصيانته، ورعايته، وتحقيق أمنه بمعناه الكبير، إنها في الوقت نفسه، حذرت من إيذائه بأي صورة من صور الإيذاء، سواء أكان حسيا أم معنويا، مباشرا أم غير مباشر، بالقول أو بالفعل، بالهمز أو باللمز.. بصريح العبارة أو كنايتها.. يقول تعالى: (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ) (الضحى: 9) وحذرت من إيذائه في ماله وهو الضعيف الذي لا يقوى على حمايته؛ بل جعلت الاعتداء على أموالهم خطًّا أحمر، يستوجب العقاب الشديد في الدنيا والآخرة، بل جعلت من يحتسى ولو شربة ماء من مال اليتيم بغير حق كمن يحتسى سائل النار في بطنه، ومن يأكل لقمة خبز من أموال اليتيم بغير وجه حق كأنه يأكل نارا تتأجج في البطون.. ويالها من حسرة، وياله من إنذار شديد، يستدعي منّا العناية والحذر والحفاظ على كل قطمير من مال اليتيم. والرؤية القرآنية المغلظة في ذلك، تنبع من عدمية خبرة اليتيم لرعاية ماله، ولضعفه، ولفقده من يحميه.. وهكذا أحاط الله أموال اليتيم بأسوار حفظه، من فوق سبع سموات، وجعل لها حمى مقدسًا، يقول تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً)(النساء:10) وياله من إنذار عنيف شديد اللهجة، تنخلع له القلوب الحية..!!. دستور السنة النبوية في رعاية اليتامى وكفالتهم: ولقد قاسمت السنةُ النبويةُ الشريفةُ القرآنَ الكريمَ في الدعوة إلى الإحسان إلى اليتيم، فهناك السنة العملية وهناك السنة القولية التي أحاطت اليتيم بالرعاية والعناية بأساليب متنوعة، تحفز النفوس، وتُهيّج عناصرَ الخيرِ في قلوب المسلمين للنهوض بدورهم نحو اليتيم.. فعن سهل بن سعد (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله : (أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا وأشار بالسبابة والوسطى وفرج بينهما) (رواه البخاري) في إشارة وبشارة أن من يرعى اليتيم سيكون قريبًا منه في الجنة؛ بل سيكون ملاصقًا لحضرته في الفردوس الأعلى، كما أن السبابة والوسطى متلاصقان، في اختيار بلاغي كنائي معجز.. أي كما أن هذين الأصبعين متلاصقان جدًّا أكثر من غيرهما، وهكذا فإن مُكرِم اليتيم سيكون ملاصقًا للنبي في الفردوس الأعلى من الجنة.. واستكمالا لرعاية النبي لليتيم، فإنه جعل علاج قسوة القلب وأمراض القلوب، في المسح على رأس اليتيم، وإطعام المسكين.. صندوق لرعاية اليتامى: إنني من هذا المنبر أناشد المسئولين في هذا البلد، بإنشاء صندوق ضخم لتقلي الأموال لرعاية اليتيم، وحث المسلمين على وقف بعض أموالهم لهذا الغرض، فعدد اليتامى في مصر وحدها حوالي 2.5 مليون طفل يتيم، معظمهم من الفقراء، وهذا الصندوق المقترح يمكن أن يكون نواة لمشروعات كبرى، يعود جزء من ريعها على كفالة اليتيم، والبعض الآخر يكون في صورة شهادات استثمار لليتامى تنمو مع مرور الزمن؛ لتكون في المستقبل ثمنًا لمشروع ينشؤه عندما يكبر، أو يكون مقدمة لشقة الزوجية، والبعض الثالث ينشأ به مشروعات يعمل فيها اليتامى في المستقبل، حسب حاجتهم، والبعض الرابع ينشأ به وحدات سكنية لليتامى يتم تأجيرها مؤقتًا لتنمية صندوق رعاية اليتيم.. وهذا المقترح ليس مستحيلا، فبلادنا تعج بالخير والعطاء، وكما قال النبي (لَا تَزَالُ أُمَّةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلى الْحَقِّ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ ظَاهِرُونَ عَلَى النَّاسِ) (أخرجه أحمد في مسنده). وفي هذا الصدد فإننا في حاجة ماسة إلى إنشاء قاعدة بيانات عن كل اليتامى في بلادنا، وعن أحوالهم المادية والاجتماعية..إلخ. إنني من هنا أناشد العلماء الكبار أمثال الدكتور علي جمعة مفتي الجمهورية، وصاحب الفكر الرائد في مثل هذه المشروعات، وتاريخه حافل بالعطاء.. أناشد سماحته أن يقود هذه الدعوة، من خلال وسائل الإعلام، وتحت رعايته... وحينها سوف ترون مجتمعنا العطَّاء المعطاء.. وسترون أن كل خير يمكن أن يتحقق بالإرادة والعزيمة، وبإخلاص المخلصين.. ويتحقق فينا قول الله تعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) (آل عمران: 110).. • المدير التنفيذي لرابطة الجامعات الإسلامية [email protected]