فى السادس من أكتوبر من العام القادم (2013) تكمل حرب السادس من أكتوبر أربعين عاماً من عمرها، أى أن الطفل أو الطفلة الذى ولد فى السادس من أكتوبر 1973 يكمل أربعين عاماً من عمره فى أكتوبر القادم. وهى سن الرشد، أو بداية سنوات الرشد. فماذا نحن فاعلون بأكتوبر ابتداءً من هذا العام وحتى العام القادم؟ بالتحديد أتحدث عن ذاكرة أكتوبر التى أوشكت أن تتوه منا وتبتعد عنا ويصيب الكثير من تفاصيلها قدر كبير من التشوش. وقد حدث بعد حرب السادس من أكتوبر 1973 بعامين أن أصدرت إحدى دور النشر اللبنانية، بالتحديد الدار العربية للدراسات والنشر، كتاباً كان عنوانه: «مائة كتاب عن حرب أكتوبر»، فى هذا الكتاب رصد على طريقة الببليوجرافيا لما صدر من كتب ودراسات عن حرب السادس من أكتوبر خلال العامين التاليين لوقوع الحرب. وقد ركز ذلك الكتاب القديم على الدراسات واليوميات والمذكرات، لكنه لم يلتفت إلى الأعمال الإبداعية من دواوين الشعر ومجموعات القصص القصيرة والروايات والمذكرات الشخصية والأفلام السينمائية التى كانت قد بدأ العمل بها ونشر البعض منها. ربما لأن دار النشر احتفت بالدراسات الاستراتيجية والكتابات العسكرية التى تناولت هذه الحرب. من يومها يبقى هذا الكتاب محاولة وحيدة، بل أقول يتيمة، لعمل مشروع يقدم ما جرى فى هذه الحرب من خلال ما نشر عنها فى كل مجالات المعرفة الإنسانية. لقد أطلقنا اسم أكتوبر على أماكن كثيرة فى مصر، وهو أمر جميل، لدينا كبارٍ وطرق ومدن وجامعات ومعاهد ومدارس ومحافظات ومديريات أمن، كلها تحمل اسم السادس من أكتوبر، بل أقامت القوات المسلحة بانوراما حرب أكتوبر التى اكتفت ببعض اللوحات التى تجسد ما جرى فى هذه الحرب، وحتى بعض هذه اللوحات أغفلت رمزاً من رموز حرب السادس من أكتوبر وهو الفريق سعدالدين الشاذلى. ما زلت أتصور أن ذاكرة أكتوبر مشروع كبير يجب أن تتصدى له الدولة المصرية، ولا أقول الحكومة فقط، والمجتمع المصرى، ولا أركز على المسئولين ولا القوات المسلحة لوحدها. ثم لماذا أتحدث عن مصرية حرب السادس من أكتوبر، وهى الحرب العربية الإسرائيلية الأولى التى انتصرنا فيها على العدو الإسرائيلى انتصاراً لا يشك الإنسان لحظة واحدة فى كونه انتصاراً عسكرياً كاملاً؟ لا أريد الاقتراب من ديدان الجرح الغائر، ولا أحب الوصول إلى المربع الذى يقول إن محاولات الاستثمار السياسى لحرب السادس من أكتوبر والهرولة إليها قد أثرت فى صورة الحرب فى الوعى الشعبى الجمعى. وكان على المقاتلين ودماء الشهداء أن يدفعوا ثمن هذه الأخطاء التى وقعت فى معالجة الاستثمار السياسى لحرب تحرير كبرى هى حرب السادس من أكتوبر. حتى الآن ليس لدينا سجل دقيق ولا قائمة علمية للأغانى التى غناها المصريون خلال حرب السادس من أكتوبر، لا أتوقف عند أغانى الإذاعة فقط، ولكن أغانى الوجدان الشعبى التى نسمعها فى الشوارع يرددها الناس وننساها بعد فترة. النكت الشعبية التى قيلت خلال حرب السادس من أكتوبر، وهى جهاز إعلامى كامل ومتكامل متحرك وسط الناس يؤثر فيهم ويلعب دوراً كبيراً فى تشكيل وعيهم بالحرب وإدراكهم لمنجزها. كانت هناك حكايات شعبية كثيرة عن الحرب وعن أبطال الحرب وعن بطولات الحرب، ما لم تكن قد دونت حتى الآن فسنجد صعوبة كبيرة فى تدوينها والحفاظ عليها. ولا يجب أن ننسى أن الحضارة المصرية القديمة قامت من أجل مقاومة النسيان، وهزيمة النسيان، وأن الخلود كان الكلمة الأولى وربما الأخيرة فى هذه الحضارة. مذكرات قادة حرب أكتوبر، التى بدأت من المذكرات العسكرية ووصلت إلى المذكرات السياسية، منشورة هنا وهناك بطريقة متناثرة، بل إن إحدى هذه المذكرات ظلت ممنوعة من النشر والتداول فى مصر حتى الأمس القريب، وهى مذكرات الفريق سعدالدين الشاذلى، التى ظلت تعانى من غربة النشر سنوات طويلة لمجرد أنها اختلفت فى حكايتها للحرب مع رؤية قادة الحرب العسكريين والسياسيين. هل نعرف أنه فى العام قبل الماضى نشر هنرى كيسنجر فى أمريكا كتاباً عنوانه «تليفونات أكتوبر»، فيه تفريغ لكل التليفونات التى أجراها هذا الخصم العنيد مع قادة المنطقة خلال حرب السادس من أكتوبر؟ لا أعرف هل كان فى ذلك الوقت وزيراً للخارجية أم مستشاراً للأمن القومى الأمريكى، لكن فى هذه التليفونات ثرثرة الاتصالات التليفونية والانتقال من موضوع لآخر، مع أهمية أنه فى مثل هذه الاتصالات التليفونية نقرأ جوهر الأشياء وسط هذا الكلام العادى. لا أعتقد أن لدينا نحن، ونحن أصحاب القضية والذين قمنا بالحرب وقدمنا الشهداء، مثل هذه التسجيلات التليفونية حتى يمكن تفريغها ونشرها بأى شكل من الأشكال. هل لدينا قائمة بالروايات التى تناولت حرب السادس من أكتوبر؛ الروايات المصرية أولاً، ثم الروايات العربية ثانياً؟ وأعتقد أن الروائى المغربى مبارك ربيع لديه رواية عن حرب السادس من أكتوبر، والروائى العراقى عبدالرحمن مجيد الربيعى لديه رواية عن حرب السادس من أكتوبر. ثم لا بد أن تكون لدينا قائمة عن الروايات الإسرائيلية المكتوبة بالعبرية عن زلزال أكتوبر العظيم وأثره فى المجتمع الصهيونى. هل لدينا قائمة بدواوين الشعر المنشورة فى مصر وفى الوطن العربى وفى العالم ولدى العدو الإسرائيلى عن حرب السادس من أكتوبر؟ ما زالت ذاكرتى يتردد فيها أبيات من شعر نزار قبانى ومحمود درويش عن حرب أكتوبر، ومحمود درويش لم يكتف بالشعر، لكنه كتب نثراً لا يقل جمالاً عن الشعر عن الحرب التى مثلت حالة من عودة الروح للعرب جميعاً. هل لدينا قائمة بالأفلام السينمائية التى جرى تنفيذها عن حرب السادس من أكتوبر، والتى لا يزيد عددها على عشرة أفلام؟ العدد الأكبر منها تم تنفيذه فى السنوات التالية للحرب مباشرة، ثم نفذت أفلام فى سنوات متباعدة، ربما كان آخرها سنة 1994، بل إن فيلم «حائط البطولات»، الذى نفذه المخرج محمد راضى وأنتجه المنتج عادل حسنى، مُنِع من العرض وما زال ممنوعاً حتى الآن، لسبب بسيط؛ أن البطولة الأساسية فى حرب أكتوبر كانت للضربة الجوية وليست لحائط البطولات. السينما التسجيلية سجلت الكثير عن حرب السادس من أكتوبر، فأهم مخرجى السينما المصرية الآن من جيل السبعينات كانوا مجندين فى القوات المسلحة وقت الحرب، وقد تقدم بعضهم بمشاريع للشئون المعنوية بتصوير العبور، ولم تتم الاستجابة لطلبهم من أجل تنفيذ خطة الخداع الاستراتيجى وخوفاً من تسرب أى معلومات عن الحرب للعدو الصهيونى، وقد نجحت خطة الخداع الاستراتيجى نجاحاً باهراً، لكنها حرمتنا من تسجيل تلك اللحظات العظيمة بالصوت والصورة. حتى الآن لا توجد لدينا دراسة عن معدلات الجريمة فى المجتمع المصرى خلال حرب السادس من أكتوبر، وقد انخفضت الجريمة، بل انعدمت خلال أيام الحرب، ولم تسجل أقسام الشرطة حوادث على الإطلاق، لأن المصريين اكتشفوا أنفسهم وهم يعيشون حالة الكل فى واحد، فلم يعرفوا طريقهم إلى أقسام الشرطة، لا شاكين ولا مشكوا فى حقهم، ومر المجتمع المصرى بحالة تقترب من الجمهورية الفاضلة خلال أيام الحرب. وهذا الموضوع يستحق دراسات اجتماعية وأمنية ودراسات لعلم الجريمة فى المجتمع المصرى، لأنها واقعة ربما لم تتكرر من أكتوبر 1973 حتى الآن. لقد قرأت كلاماً منسوباً للصهاينة، أن الجيش المصرى الآن لا يوجد به شخص واحد حارب فى أكتوبر 1973، وهم سعداء بهذا المعنى الذى لا أحب أن يكون صحيحاً، لكن طرح هذه الفرضية من قبل الأعداء يجعلنا نركز على ذاكرة أكتوبر، وأن نعتبرها مشروعنا الكبير الذى لا بد أن نهتم به، وأن يبدأ الاهتمام فى مصر: هنا والآن.