هذا هو يوم الشهيد في تاريخنا الحديث. ففي مثل هذا اليوم من سنة 1969 وكان يوم أحد. استشهد الفريق عبد المنعم رياض. والذي سمي بالجنرال الذهبي. استشهد البطل في أبعد مكان وصل إليه قائد كبير في القوات المسلحة المصرية في الجبهة. في اليوم السابق السبت 8 مارس كانت لديه خطة مصرية أشرف عليها من أجل هدف وطني نبيل هي تدمير خط بارليف. جري ذلك خلال حرب الاستنزاف التي يعتبرها الجميع حرباً عربية إسرائيلية كاملة. وربما كانت من الحروب النادرة التي حقق فيها الجيش المصري العظيم انتصاراً كبيراً. ولكن لأنها تقع بين صدمة يونيو 1967 ويقظة أكتوبر 1973 لا نتوقف كثيراً أمام دلالاتها. ولا نعطيها ما تستحقه كحرب قائمة بذاتها في سلسلة هذا الصراع العسكري الطويل. جري هذا يوم السبت 8 مارس. لكن يوم الأحد 9 مارس توجه عبد المنعم رياض بنفسه ليري علي الطبيعة ما أسفرت عنه المعركة ويكون وسط جنوده كأي قائد عظيم. وهكذا وفي لحظة نادرة تقدم إلي أبعد مكان لم يكن يبعد عن مرمي النيران سوي 250 متراً. وكان هذا الموقع يحمل رقم 6 وكان أول موقع يفتح نيرانه علي دشم العدو في اليوم السابق بتركيز غير عادي. ما إن كان هناك عبد المنعم رياض حتي فتح العدو نيرانه عليه. ساعة ونصف من الحرب الحقيقية كان يقودها عبد المنعم رياض. يجب ألا ننسي أبداً أنه كان رئيس أركان حرب القوات المسلحة المصرية. وأنه قاد هذه الحرب بنفسه. ثم انفجرت إحدي طلقات المدفعية بالقرب من الحفرة التي كان يقود المعركة منها. ونتيجة للشظايا القاتلة وتفريغ الهواء استشهد عبد المنعم رياض. متوجاً بدماء الاستشهاد النبيلة والذكية والطاهرة سنوات تصل إلي الربع قرن من الخدمة العسكرية الشريفة والعظيمة. حتي آخر لحظة في حياتي لا أنسي جنازته في ميدان التحرير. كان يتقدمها عبد الناصر بملابسه البسيطة. لا ينسي الإنسان قِدَمْ ما كان يرتديه من ملابس. ربما كان بعضها قد عرف طريقه إلي الرفّة. وعندما أدركت الناس أن عبد الناصر يتقدم الجنازة. تجمعوا من كل مكان وذاب النعش ومن حوله ومن كان في المقدمة وسط بحار من المصريين الذين حولوا الجنازة إلي مطلب جماهيري بالثأر من العدو. في المساء كان عبد الناصر بذات نفسه يقف علي رأس صفوف من يتقبلون العزاء في عبد المنعم رياض في مسجد عمر مكرم. ورغم مقدمات مرض عبد الناصر. إلا أن الرجل ظل أكثر من أربع ساعات يصافح كل من أتي ليقدم العزاء في شهيد العسكرية المصرية. كانت مصر في حالة حرب. وكان العدو عدواً حقيقياً. ومازال هذا العدو حتي الآن. إلا أن عبد الناصر وقف بدون أي ترتيبات أمنية يصافح كل من وصل إلي المكان معزياً. لن أنسي حتي آخر لحظة في العمر سيارة عبد الناصر السوداء وهي في طريقها من عمر مكرم حتي منزله في منشية البكري. كنت أقف في شارع رمسيس قبيل ميدان غمرة. لم يكن في الميدان ذلك الكوبري الحالي الذي يقلل من شكله واتساعه. وكانت سيارة عبد الناصر تتهادي في طريق شبه خالٍ وكان الشتاء يستأذن في الانصراف. والربيع لم يعلن عن نفسه بعد. وكان صالون السيارة مضاء. وكان عبد الناصر يجلس علي المقعد الخلفي وبيده أوراق ينظر فيها. ثم ينصرف عن الورق ليحيي الجماهير القليلة التي كانت موجودة في ذلك الوقت الذي كان يسبق لحظة انتصاف الليل. لكن العزاء والجنازة أكدا معاً تصميم أهل مصر علي الثأر من العدو الصهيوني. أنا متأكد الآن من خلال ذاكرة المشهدية أن سيارة عبد الناصر لم يكن يسبقها سوي موتوسيكل وحيد. ولم يكن ثمة موكب ولا حراسات ولا جنود يملأون الشارع. ولا مخبرون يقفون في الشرفات وفوق أسطح المنازل لحراسته. إن التاسع من مارس يمر علينا كل عام. لكن له في هذا العام أكثر من دلالة. فالميدان الذي يحمل اسم عبد المنعم رياض شهد فصولاً شديدة الأهمية من الثورة الشعبية. ثورة شعب مصر كله ابتداءً من 25 يناير حتي الآن. كان ميدان عبد المنعم رياض هو المدخل إلي ميدان التحرير. وهو المخرج منه. وشهد الكثير من الأحداث البالغة الأهمية. ورغم أن تمثاله لا يرقي لمستوي بطولته. ولا يصل لمشارفها. لكن الرجل شاهد من الغيب فصولاً مهمة تكمل ثورته من 1968 حتي 2011 تكون قد مرت بمصر 43 سنة من عمر مصر. لكن كلمتي الثورة والشهيد تشكل رابطاً عبر التاريخ بين شهيد الأمس وشهداء اليوم. في ضمير مصر وتاريخها مكان لشهداء الخامس والعشرين من يناير. إنهم 365 شهيداً. هذا غير المفقودين منهم الذين مازالوا في علم الغيب. يجري البحث عنهم كما يبحث الإنسان عن إبرة في كوم من القش. لأن الخصم كان مخيفاً وكانت لديه قدرة نادرة علي إخفاء آثار جريمته. ما أقصد إليه أننا من الآن علينا أن نحتفل بشهدائنا جميعاً. سواء الشهداء الذين استشهدوا في حروبنا مع عدونا الإسرائيلي. أو شهداء الشباب. شهداء الداخل المصري الذين قدموا حياتهم شهداء في حربهم ضد الديكتاتورية والفساد والنهب المنظم لثروات مصر. وأعتقد أن أعداء الداخل لا يقلون شراسة عن أعداء الخارج. أتذكر أنني عندما كتبت في روايتي: الحرب في بر مصر. أن كل رصاصة انطلقت في حرب السادس من أكتوبر باتجاه العدو الصهيوني كان لا بد أن ترافقها رصاصة أخري تطلق علي الداخل. علي سلبيات الواقع التي كانت موجودة. وهذه السلبيات لو قرأناها في صفحات التاريخ الآن سنكتشف أنها أقل مليون مرة مما كنا قد وصلنا إليه قبل الخامس والعشرين من يناير. وما زال الخطر ماثلاً ما لم تكمل الثورة فصولها وتستكمل أحداثها وتعلن حرب اليوم والغد والزمن الآتي علي ما حاربنا ضده منذ سنوات بعيدة.