هل يُطبق نظام البكالوريا في الثانوية الأزهرية؟ جامعة الأزهر ترد    وزارة العمل تعلن عن وظائف جديدة للعمالة المصرية في الأردن    استعدادًا للعام الدراسي.. لجان ميدانية بالمنوفية لمتابعة جاهزية المدارس والتأكد من انتهاء أعمال الصيانة    الفيدرالي الأمريكي يخفض الفائدة لأول مرة خلال 2025    وزير البترول يبحث مع توتال إنرجيز تعزيز منظومة النقل الآمن للمنتجات    رئيس الفلسطيني للبحوث: الاتحاد الأوروبي يراجع مواقفه من العدوان على غزة (فيديو)    "الخارجية" تعرب بأشد العبارات عمليات توغل قوات الاحتلال الإسرائيلي في قطاع غزة    «أوقفوا قنابل ترامب النووية».. احتجاجات عارمة في لندن ضد زيارة الرئيس الأمريكي    إنتر ميلان يواجه أياكس بقوته الضاربة    الاتحاد السعودي يحدد موعد السوبر الإيطالي    مفارقة غريبة في تعادل يوفنتوس ودورتموند بدوري أبطال أوروبا    تأجيل محاكمة 7 متهمين بقتل شخص والشروع في قتل آخر بالخانكة    ماستر كلاس لفتحي عبد الوهاب بالدورة الثالثة من مهرجان إيزيس الدولي لمسرح المرأة    إجمالي إيرادات فيلم «ضي» بعد أسبوعي عرض في مصر (أرقام وتفاصيل)    أحمد السقا يسلم محمد هنيدي تكريمه في ختام مهرجان الإسكندرية المسرحي الدولي    دليل مواقيت الصلاه فى المنيا الاربعاء17سبتمبر2025    هل الحب بين شاب وفتاة حلال؟.. أمين الفتوى يُجيب    لجنة مشتركة من الصحة لفحص واقعة وفاة توأم عقب التطعيم في المنوفية    تحلمين بالأمومة..أقوى 8 أطعمة لتحفيز التبويض وزيادة فرص الحمل بشكل طبيعي    بوتين يبحث هاتفيًا مع رئيس وزراء الهند الأزمة الأوكرانية وتطورات العلاقات الثنائية    لأول مرة.. ترشيح طالب مصري من أبناء جامعة المنيا لتمثيل شباب العالم بمنتدى اليونسكو للشباب 2025    أرتيتا يتفوق على فينجر بعد 25 مباراة في دوري أبطال أوروبا    ياسمين الحصرى ل"الستات": والدى جاب العالم لنشر القراءة الصحيحة للقرآن    بالذكاء الاصطناعي.. رضوى الشربيني تستعيد ذكريات والدها الراحل    "الأرصاد": أمطار غزيرة على منطقة نجران    مصرع شخص والبحث عن آخرين في ترعة بسوهاج    عاجل.. استمرار تدفق المساعدات عبر معبر رفح وسط تصعيد عسكري غير مسبوق في غزة    "بسبب إسرائيل".. إسبانيا تهدد بالانسحاب من كأس العالم 2026    إصابة شاب بإصابات خطيرة بعد أن صدمه قطار في أسوان    حقيقة اختفاء 5 قطع أثرية من المتحف اليوناني في الإسكندرية    كيليان مبابي يعلن غيابه عن حفل الكرة الذهبية 2025    تعيين نائب أكاديمي من جامعة كامبريدج بالجامعة البريطانية في مصر    مدارس «القليوبية» تستعد لاستقبال مليون و373 ألف طالب    أيمن عبدالعزيز يعلن تمسكه بعدم العمل في الأهلي.. وسيد عبدالحفيظ يرد    إحالة شكاوى مرضى في وحدة طب الأسرة بأسوان للتحقيق    80%ملكية أمريكية.. ملامح الاتفاق الجديد بين الولايات المتحدة والصين بشأن "تيك توك"    بعد نشر صورة مع جدها الفنان محمد رشدي.. من هي البلوجر فرح رشدي؟    خالد الجندى: الإنسان غير الملتزم بعبادات الله ليس له ولاء    البنك المركزي: القطاع الخاص يستحوذ على 43.3% من قروض البنوك بنهاية النصف الأول من 2025    منال عوض: خطة شاملة للمحافظات للتعامل مع مخاطر الأمطار    عاجل- رئيس الوزراء: مصر ثابتة على مواقفها السياسية والإصلاح الاقتصادي مستمر رغم التحديات الإقليمية    بالفيديو.. ميسرة بكور: زيارة ترامب إلى لندن محاولة بريطانية لكسب الاستثمارات وتخفيف الضغوط السياسية    «المشاط»: إنشاء وتطوير 21 قصر ثقافة في 11 محافظة خلال 2025-2026    ضبط المتهم بذبح زوجته بسبب خلافات بالعبور.. والنيابة تأمر بحبسه    هل يجوز لى التصدق من مال زوجى دون علمه؟.. الأزهر للفتوى يجيب    مفتى الجمهورية: ما يجرى فى غزة جريمة حرب ووصمة عار على جبين العالم    معاش للمغتربين.. التأمينات تدعو المصريين فى الخارج للاشتراك    تحديث بيانات المستفيدين من منظومة دعم التموين.. التفاصيل    المنيا.. تنظيم قافلة طبية مجانية في بني مزار لعلاج 280 من المرضى غير القادرين    وزارة الصحة تطلق أول مسار تدريبى لمكافحة ناقلات الأمراض    وزير الري: الاعتماد على نهر النيل لتوفير الاحتياجات المائية بنسبة 98%    شاب يلقى مصرعه حرقًا بعد مشادة مع صديقه في الشرقية    وزير التعليم يبحث مع وفد الشيوخ الفرنسي تعزيز التعاون المشترك    بن عطية يفتح جراح الماضي بعد ركلة جزاء مثيرة للجدل في برنابيو    ملكة إسبانيا فى زيارة رسمية لمصر.. أناقة بسيطة تعكس اختياراتها للموضة    اجتماع طارئ للمكتب التنفيذي لاتحاد المحاكم والمجالس الدستورية العربية    منال الصيفي تحيي الذكرى الثانية لوفاة زوجها أشرف مصيلحي بكلمات مؤثرة (صور)    بهدف ذاتي.. توتنام يفتتح مشواره في دوري الأبطال بالفوز على فياريال    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



يوم الشهيد يعانق أربعين شهداء ثورة 25 يناير
نشر في الشروق الجديد يوم 09 - 03 - 2011

قبيل قدوم يوم الشهيد (9 مارس) فى مصر هذا العام.. قرر شبابها الانتصار على القهر.. على الخوف.. على الموت.. فزرعوا بدمائهم شجرات الحرية الأبدية.. وأضاءوا بصمودهم شموع العزة والكبرياء.. فى محيط ميدان التحرير وكل الميادين بطول البلاد وعرضها.
يهل علينا يوم الشهيد، وهو يوم استشهاد الفريق عبد المنعم رياض على الحد الأمامى للدفاعات المصرية على الشط الغربى لقناة السويس عام 1969، متعانقا مع ذكرى الأربعين لشهداء ثورة الحرية.. التى كان هو شاهدا على وقائعها لحظة بلحظة.. ثانية بثانية.. بحكم وجوده فى ميدانها الأشهر.. ببذته العسكرية ونظارة الميدان التى يمسكها بيديه.. وهو ما أشعر الثوار الذين احتشدوا فى ميدانه بأنه لا شىء فى هذا البلد خارج مجال رؤية عدسات هذه النظارة المعظمة.. أشعرهم بأن لديهم حارسا أمينا على أرضهم وعرضهم.. وعندما تحين ساعة الخطر انحيازه والمؤسسة العسكرية التى ينتمى إليها يكون لهم وحدهم.. فهى منهم وهم منها.
سيرة الشهداء فى كل العصور واحدة.. رائحة دماؤهم الزكية لا تتغير.. حرصهم على سمو ورفعة أوطانهم لا يتبدل أو يتزعزع.. راية الفداء يسلمونها جيلاً من بعد جيل.. مهما اختلف العدو.. أو تفنن فى إخفاء وتمويه وجهه القبيح.. سواء فى الخارج أو الداخل.
ومن هنا فلا نرى عجبا فى التشابه بين شهيد مصر الأبرز (عبد المنعم رياض)، وفيمن هم فى عمر أحفاده من شهداء ثورة 25 يناير.. لعل أبرز مظاهره أن استشهاده فتح باب العبور الأول.. وزاد رجاله إصرارا على النصر.. وتحرير الأرض فى أكتوبر 1973.. الذى خطط له واستعد.. ولم يره وهو فى حياته الدنيا.. وباستشهاد شهداء الثورة يوم 28 يناير (يوم جمعة الغضب) وما بعده زاد الشعب المصرى إصرارا على بلوغ الهدف بإزاحة النظام الفاسد.. وتحقيق العبور الثانى.. وتحرير الوطن والمواطن من القهر والظلم فى 11 فبراير بتنحى الرئيس السابق حسنى مبارك.. كما أرادوا بخروجهم للتظاهر السلمى.. ولم يكتب لهم أن يروه وهم بيننا.. وإن كانوا أحياء عند ربهم يرزقون.
نشأة عسكرية
شهيد مصر الأبرز هو واحد من أعظم من أنجبتهم العسكرية المصرية فى العصر الحديث.. المسافة التى قطعها بين قرية سبرباى، وهى إحدى ضواحى مدينة طنطا فى 22 أكتوبر 1919، حيث ولد.. وبين الموقع رقم 6 على الشط الغربى لقناة السويس شرق الإسماعيلية حيث استشهد بين رجاله، قدرها 50 عاما من العطاء والنبوغ والتفانى لأجل رفعة هذا الوطن.
نزحت أسرته إلى الفيوم.. وكان جده عبدالله طه على الرزيقى من أعيانها، وكان والده القائم مقام (رتبة عقيد حاليا) محمد رياض عبدالله قائد بلوكات الطلبة بالكلية الحربية، وتخرج على يديه الكثيرون من قادة المؤسسة العسكرية.
التحق رياض بالكلية الحربية يوم 6 أكتوبر عام 1936.. وبدأت ملامح القيادة لديه مبكرا.. منذ أن كان طالبا.. فلم يمض عليه وقت طويل حتى وصل إلى أعلى مرتبة بالكلية.. وهى رتبة «الباشجاويش»، حيث كان ترتيبه الثانى بالكلية.
فى 21 فبراير عام 1938 تخرج فى الكلية الحربية ليبدأ حياته العسكرية برتبة الملازم ثان، ويصفه تقرير كبير معلمى الكلية الحربية بأنه «طالب جيد جدا من جميع الوجوه.. ويمكن الاعتماد عليه.. ويبذل كل جهده».
عين الملازم ثان رياض بعد تخرجه فى سلاح المدفعية بإحدى بطاريات المدفعية المضادة للطائرات، فى المنطقة الغربية، حيث اشترك فى الحرب العالمية الثانية ضد ألمانيا وإيطاليا.
وفى ديسمبر عام 1944 بعد 6 سنوات من تخرجه حصل على شهادة الماجستير فى العلوم العسكرية من كلية أركان الحرب، وكان ترتيبه الأول، ثم جاء عام 1948 واندلعت الحرب العربية الإسرائيلية، وكان عبد المنعم رياض يخدم بإدارة عمليات وخطط الجيش، وكوفئ فى 20 فبراير 1949 بمنحه نوط الجدارة الذهبى تقديرا لجهوده خلال هذه الحرب.
الجنرال الذهبى
خلال السنوات التى أعقبت ثورة 23 يوليو 1952 فى مصر تدرج البكباشى (المقدم) عبدالمنعم رياض فى مختلف المناصب بالقوات المسلحة، فتولى قيادة مدرسة المدفعية المضادة للطائرات فى 1 مايو 1952، ثم بعدها بعام عين قائدا للواء الأول المضاد للطائرات، وفيما بين 9 أبريل 1958 و31 يناير 1959 أتم العميد أركان حرب عبدالمنعم رياض دورة تكتيكية تعبوية فى الأكاديمية العسكرية العليا بالاتحاد السوفييتى، وحصل على تقدير امتياز.
وبمناسبة تفوق رياض فى الاتحاد السوفييتى، لدرجة تلقيبه هناك ب«الجنرال الذهبى» يقول الأستاذ محمد حسنين هيكل فى مقال له عن رياض بعد مرور شهر واحد على استشهاده «مرة فى موسكو.. وكنت أزور كلية (فوروشيلوف العسكرية)، وقد أصبح اسمها فيما بعد (أكاديمية القيادة العامة العليا للقوات المسلحة السوفييتية) قال لى أحد الدارسين المصريين فيها: إن عبدالمنعم رياض الذى درس هنا قبل سنوات جعل مهمة الذين جاءوا بعده بالغة الصعوبة.. إن الجنرال يابتشنكو وهو من كبار المعلمين السوفيت هنا، وكان له تاريخه فى الحرب العالمية الثانية لا يمل دائما من أن يكرر للدارسين العرب: على هذا المقعد الرابع، «فى الدورة الأولى التى اشترك فيها دارسون عرب فى هذه الأكاديمية كان يجلس الجنرال رياض».
وفى رتبة العميد درس رياض الرياضة البحتة فى كلية العلوم، حتى يظل متابعا لتطورات العلم فى مجال تخصصه عن فن المدفعية المضادة للطائرات، وهو فى رتبة اللواء درس فى دورة خاصة بالصواريخ بمدرسة المدفعية المضادة للطائرات ليقف على أدق أسرارها وأشكالها، وحصل فى نهاية الدورة على تقدير امتياز. وفى عام 1964 عين رئيسا لأركان القيادة العربية الموحدة.
خلال الفترة من 6 مارس عام 1965 وحتى 2 يونيو 1966 أتم الفريق عبدالمنعم رياض دورته بكلية الحرب العليا، وترقى إلى رتبة الفريق خلال دراسته بالكلية فى 21 أبريل 1966، وإلى هذه اللحظة لم يتوقف نهم رياض للعلم، فبعد حصوله على رتبة الفريق درس بكلية التجارة جامعة عين شمس، علاوة على دراسته بالمراسلة بجامعات لندن فى أفرع الرياضة والاقتصاد، لأنه كان يرى أن الاقتصاد هو أساس الاستراتيجية.
وحصل الفريق رياض على العديد من الأنواط والأوسمة ومنها ميدالية الخدمة الطويلة والقدوة الحسنة، ونوط الجدارة الذهبية، ووسام الأرز الوطنى بدرجة ضابط كبير من لبنان، ووسام الكوكب الأردنى من الطبقة الأولى، ووسام نجمة الشرق.
حياة بسيطة جدا
لم يكن عبدالمنعم رياض من أولئك الرجال الذين يجيدون النفاق أو الانطواء تحت جناح رئيس أو قائد من باب التملق، فخلال الفترة ما بين عامى 1964 و1966، رصد هيكل من خلال صداقته القوية برياض ضيقه من بعض الممارسات داخل صفوف الجيش، الذى كان تحت قيادة المشير عبدالحكيم عامر.
وفى هذا الصدد ذكر هيكل فى مقاله الذى أشرنا إليه توا قوله «فى تلك الفترة كانت أحاديث عبدالمنعم رياض تعكس من بعيد تململه من بعض الأوضاع السائدة فى القوات المسلحة فى ذلك الوقت، وكانت مشكلته أنه لا يستطيع أن يسكت ببساطة! وكانت مشكلة الآخرين حياله أنهم لا يستطيعون الخلاص منه وإسكاته تحت أى غطاء، فلقد كان امتيازه فى عمله لا ينازع، ولم تكن له مطالب شخصية».
ويتحدث هيكل عن حياته الشخصية فيقول «لم يغير (رياض) مسكنه الذى كان فيه بمصر الجديدة، وهو شقة من أربع غرف فى شارع جانبى صغير، وكانت تشاركه فيها شقيقته، وهى أستاذة بكلية العلوم بجامعة عين شمس. ولم يتزوج هو لأن السنوات التى كان يستطيع فيها الزواج قد انقضت وهو فى دراسات بعيدة أو فى مواقع خدمة فى المعسكرات، ولم تتزوج هى الأخرى، لأنها أحست أن واجبها خدمته، وكانت أحاديثه دائما عن «الدكتورة»، نابضة بحنان عميق وأصيل.. وعُرض عليه منصب سفير فى تلك الأيام واعتذر، لأنه على حد تعبيره «ضابط وابن ضابط»، ثم إنه الآن لا يستطيع أن يترك «الدكتورة» التى أعطته أحلى سنوات حياتها طواعية وحبا.
ويؤكد أن تعيين رياض فى القيادة العربية الموحدة، رئيسا لهيئة أركان حربها، جاء «حلا موفقا وسعيدا بالنسبة لكل الأطراف، بقى فى الجندية، مهنته وعمله، وابتعد عن أسباب التململ، ثم ظلت حياته مستمرة فى شقته الصغيرة تحت رعاية «الدكتورة» وفى حماها».
خلف الخطوط فى 1967
يروى هيكل أنه قبل أن تبدأ معارك 5 يونيو 1967 بأيام قليلة، وكان التوتر شديدا على خط الحدود المصرية وعلى خطوط الهدنة، بينما قواتنا تحتشد فى سيناء، وقوات العدو تتدفق إلى النقب الجنوبى، والصدام المسلح محتمل فى أى ساعة، وكان عبدالمنعم رياض رئيسا لهيئة أركان حرب القيادة العربية الموحدة، التى أبعدته إليها عناصر كانت لها السلطة المطلقة فى مقدرات القوات المسلحة المصرية فى ذلك الوقت، لكنه لما أحس باحتمال نشوب القتال على الجبهة المصرية، طلب أن يعفى من انتدابه فى القيادة الموحدة وأن يعود إلى جيشه ليخدم فيه مادامت المعركة تلوح على الأفق وأجيب إلى طلبه.
وفجأة ظهر يوم 27 مايو 1967، سمعت نبأ بدا وكأنه كارثة، حاول من نقله إلىَّ أن يعطيه لى على جرعات. قال أولا: هناك دوريات مسلحة دخلت للاستكشاف فى الأرض الإسرائيلية»، قلت: معقول، ومفهوم»، قال: يظهر أن عبد المنعم رياض دخل بنفسه مع إحدى هذه الدوريات. قلت: هذه مخاطرة لا لزوم لها، ولكن الذروة جاءت حين قال لى محدثى فى ذلك الوقت: ولقد أعلن العدو حالا أن إحدى الدوريات التى دخلت قد وقعت فى كمين العدو، ومن المحتمل كثيرا أن تكون تلك هى دورية عبد المنعم رياض، لأنها شوهدت وفق آخر تقرير فى نفس هذه المنطقة».
ويواصل هيكل روايته بأن «ساعات مضت والقلق فيها يعصر قلبى وقلوب غيرى ممن كانوا يعرفون بالاحتمال الرهيب الذى يمكن أن يتحقق فى أى ثانية إذا ما أعلن العدو عن أسماء الضباط من أفراد الدورية التى وقعت فى الكمين الذى نصبه».
فى اليوم التالى عاد رياض وطمأن هيكل عليه تليفونيا، وقدم له تبريرات معتبرة عن ذهابه فى مهمة استطلاع أرض العدو فى هذا التوقيت البالغ الحساسية، وما يتضمنه من مخاطرة عليه وهو رئيس أركان القيادة العربية الموحدة قائلا: «أريد أن أرى الأرض التى ستجرى من فوقها المعركة، ومع أنى أعرفها من قبل ومشيت عليها بقدمى بقعة بقعة، فلقد كنت أريد أن أستذكر بالنظر ما أعرف.. لا شىء يعوض أن ترى بنفسك الأرض التى ستعمل عليها. والتى على ترابها سوف تتحدد الحياة أو الموت.
ومن ناحية أخرى، فإنه فى بداية احتمال قتال بيننا وبين العدو، فلقد كان يجب أن نبعث ببعض الدوريات للاستكشاف، وفضلا عن أية معلومات قد يعودون بها، فإن دخولهم يكسر رهبة اقتحام أرض للعدو فى بداية مواجهة خطيرة معه، ومن ناحية ثالثة، فلم أكن أتصور أن نقول للضباط والجنود: اذهبوا أنتم إلى الدوريات وعودوا إلينا هنا وقصوا علينا ما رأيتم، تفترق المسألة كثيرا إذا أحسوا أن القواد معهم فى المخاطرة، إلى جانب أنهم رأوا مثلهم ويستطيعون المراجعة عليهم. ثم استطرد عبدالمنعم رياض: إذا حاربنا حرب جنرالات المكاتب فى القاهرة فالهزيمة محققة، مكان الجنرالات الصحيح وسط جنودهم، وأقرب إلى المقدمة منه إلى المؤخرة».
وفى آخر مايو 1967 وبعد مجىء الملك حسين للقاهرة للتوقيع على اتفاقية الدفاع المشترك عين الفريق عبد المنعم رياض قائدا لمركز القيادة المتقدم فى عمان، فوصل إليها فى الأول من يونيو 1967 مع هيئة أركان صغيرة من الضباط العرب لتأسيس مركز القيادة، وحينما اندلعت الحرب عين الفريق رياض قائدا عاما للجبهة الأردنية.
إعادة بناء القوات المسلحة
فى 11 يونيو 1967 عين الفريق أول محمد فوزى قائدا عاما للقوات المسلحة، وعين عبدالمنعم رياض رئيسا لأركان حرب القوات المسلحة، ليبدأ مرحلة خالدة من تاريخ بلده، وهى مرحلة إعادة بناء القوات المسلحة، بعد أن تكبدت خسائر فادحة فى الحرب، وإعادة بناء قدرات رجالها لمعركة التحرير.
وكان الفريق رياض يؤمن بالأهمية القصوى لمعركة الأسلحة المشتركة، التى تضم مختلف عناصر القوات المسلحة، حيث يمثل أقل جزء فى جهاز الحرب أهمية تعادل فى نظره الأهمية التى يمثلها أكبر أجزاء فى هذا الجهاز، فلكل منهما واجب يؤديه، ويكمل تماما واجب الآخر.
وكان رياض من أوائل الذين طرحوا فكرة الحرب المحدودة، التى تقتضى عبور قناة السويس بالقوة والتمسك برءوس كبارى فى الشرق، وإلحاق خسائر بشرية كبيرة فى القوات الإسرائيلية، خلال معركة تطول أسابيع، ولا تنتهى فى مجرد أيام؛ لأن إسرائيل لا تحتمل بقاء حالة التعبئة العامة طويلا، وهو ما يؤكد الأستاذ هيكل أنه تم تجهيز خطط بهذا المعنى تحت مسمى (جرانيت 1) و(جرانيت 2)، و(جرانيت 200) التى وضعت احتمالات حدوث اختراق للقوات المصرية المتقدمة بطول الجبهة عند منطقة الدفرسوار، وهو ما أنكره الفريق سعد الدين الشاذلى، رئيس أركان حرب القوات المسلحة فى حرب أكتوبر (مايو 1971 إلى ديسمبر 1973)، الذى يعتبر أن خطته «المآذن العالية» التى تم تنفيذها فى حرب أكتوبر، هى أول خطة تحمل معنى الحرب المحدودة، وهى قضية جدلية لا مجال لعرضها فى هذه المساحة.
كانت لدى رياض ثقة كاملة فى إمكانية الانتصار فى معركة تعطى إمكانياتها المناسبة، وإذا أعطيت وقتها الكافى. وكان يقينه، ليس بحتمية المعركة فحسب، وإنما بضرورتها، وهنا ينقل هيكل عنه قوله: «لن نستطيع أن نحفظ شرف هذا البلد بغير معركة، عندما أقول شرف البلد، فلا أعنى التجريد هنا، وإنما أعنى شرف كل فرد، شرف كل رجل وكل امرأة».
اهتمام الفريق رياض بالقيادات الجديدة التى ظهرت فى القوات المسلحة فى هذه الفترة كان زائدا، وهنا يقول: «لا تصدق ما يقال من أن القادة يولدون.. الذى يولد قائدا هو فلتة من الفلتات لا يقاس عليها كنابليون مثلا.. القادة العسكريون يصنعون، يصنعهم العلم والتجربة والفرصة والثقة.. ما نحتاج إليه هو بناء القادة.. صنعهم.. القائد هو الذى يقود، هو الذى يملك مقدرة إصدار القرار وليس مجرد سلطة إصدار القرار، ويدخل التوقيت السليم فى المقدرة على إصدار القرار».
ويواصل قوله: فى الدراسة العملية لتصرفاتنا فى المعركة كانت قرارات الكثير من قوادنا قرارات سليمة، لكنهم ترددوا، لم يعطوها فى الوقت المناسب، ولا فائدة فى قرار مهما كان سليما إذا جاء بعد الوقت المناسب له بخمس دقائق، لأن الموقف الذى يواجهه يكون قد تغير فالمعركة لا تنتظر أحدا.
استشهاد البطل
أشرف الفريق رياض على خطة تدمير خط بارليف أو إعاقة العدو عن إكماله، خلال حرب الاستنزاف، وشهد يوم السبت 8 مارس 1969 أعمالا بطولية للقوات المصرية، التى أحالت الضفة الشرقية للقناة إلى جحيم مقيت، فى هذا اليوم كان الفريق رياض فى بغداد لحضور اجتماعات رؤساء أركان حرب جيوش الجبهة الشرقية.
وصباح الأحد ركب طائرة هليكوبتر فى طريقه إلى أحد المطارات الأمامية للجبهة، ثم ركب سيارة عسكرية معه فيها مرافق واحد غير الجندى الذى يقود سيارة رئيس هيئة أركان الحرب.
وانطلق يطوف بالمواقع فى الخطوط المتقدمة، يتحدث إلى الضباط والجنود، يسألهم ويسمع منهم، ويرى ويراقب ويسجل فى ذاكرته الواعية، وفى أحد المواقع التقى ضابطا شابا، وكانت حماسته للشباب مفتوحة القلب ومتدفقة، وقال له الضابط الشاب، ولم يكن هدير المدافع قد اشتد بعد: سيادة الفريق... هل تجىء لترى بقية جنودى فى حفر موقعنا؟ وقال عبدالمنعم رياض، بنبل الفارس الذى كانه طول حياته، وبالإنجليزية التى كانت تعبيرات منها تشع كثيرا سلسة وطيعة على لسانه:
Yes. By all means - أى: نعم، وبكل وسيلة. وتوجه مع الضابط الشاب إلى أكثر المواقع تقدما، الموقع المعروف برقم 6 بالإسماعيلية.
وفجأة بدأ الضرب يقترب، وبدأت النيران تغطى المنطقة كلها، وكان لابد أن يهبط الجميع إلى حفر الجنود فى الموقع، وكانت الحفرة التى نزل إليها عبدالمنعم رياض تتسع بالكاد لشخصين أو ثلاثة.
وانفجرت قنبلة للعدو على حافة الموقع، وأحدث انفجارها تفريغ هواء مفاجئا وعنيفا فى الحفرة التى كان فيها عبدالمنعم رياض، وكان هو الأقرب إلى البؤرة التى بلغ فيها تفريغ الهواء مداه، وحدث له شبه انفجار فى جهاز التنفس، وحين انجلى الدخان والغبار كان عبدالمنعم رياض مازال حيث هو، وكما كان، إلا تقلصات ألم صامت شدت تقاطيع وجهه المعبر عن الرجولة، ثم خيط رفيع من الدم ينساب هادئا من بين شفتيه، وتنزل قطراته واحدة بعد واحدة على صدر بذلة الميدان التى كان يرتديها بغير علامات رتب، كما كان يفعل دائما حين يكون فى الجبهة ووسط الجنود.
ولم يكن لدى أطباء المستشفى فى الإسماعيلية وقت طويل للمحاولة، برغم أمل ساورهم فى البداية، حين وجدوا جسده كله سليما بلا جرح أو خدش، لكنها خمس دقائق لا أكثر ثم انطفأت الشعلة، وتلاشت تقلصات الألم التى كانت تشد تقاطيع الوجه المعبر عن الرجولة، لتحل محلها مسحة هدوء وسلام، ورضا بالقدر واستعد للرحلة الأبدية إلى رحاب الله.
وفى اليومين التاليين 10 و11 مارس، لقن المقاتلون المصريون القوات الإسرائيلية درسا قاسيا فادحا لعبت فيه المدفعية أروع أدوارها، وبلغت خسائر العدو: 5 طائرات مروحية كان يستخدمها فى تصحيح نيرانه، و22 دبابة، و10 بطاريات مدافع ذاتية الحركة، وهاون و10 مواقع صواريخ، غير قتل وجرح عدد كبير من ضباطه وجنوده.
قبل الختام أعود فأذكر أن من قتل الشهيد عبدالمنعم رياض، لا يختلف كثيرا عمن قتل شهداء ثورة الحرية، فإذا كان العدو الأول لم يكن يعبأ بالتوجيه لأن كل طلقة منه يمكن أن تصيب فردا.. بيتا.. مدرسة.. أو مصنعا.. أو أى شىء، نجد أن أعداء الثورة كانوا ماهرين فى توجيه طلقاتهم فى رءوس وصدور فلذات أكباد مصر، الذين خرجوا للمطالبة بالحرية والديمقراطية للوطن.
من أروع ما قيل فى رثاء الشهيد عبد المنعم رياض، والذى ينطبق على كل شهيد من شهداء ثورة 25 يناير ما قاله نزار قبانى:
يا أشرفَ القتلى.. على أجفاننا أزهرتْ
الخطوةُ الأولى إلى تحريرنا.. أنتَ بها بدأتْ
يا أيّها الغارقُ فى دمائهِ
جميعهم قد كذبوا.. وأنتَ قد صدقتْ..
جميعهم قد هُزموا.. ووحدكَ انتصرت


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.