يتبادر إلى ذهن القارئ حينما يتطلع على عنوان كتاب الباحث في الإسلام السياسي الكاتب حسام الحداد والذي يحمل عنوان «هكذا تحدث فرج فودة»، والصادر حديثًا عن مركز إنسان، هذا التساؤل.. لماذا فرج فودة الآن؟ عن عقلٍ اشتبك، وسؤالٍ لم يُغلق، ومثقفٍ دفع حياته ثمنًا لأفكاره! في محاولة للحصول على إجابة، لكن المؤلف نفسه يؤكد على أن «فوده» هو الآخر لم يقدم أي إجابات بل ترك الأمر منفتحًا لإعمال العقل. فنجده في ختام المقدمة يقول: «فودة لم يكن يقدّم إجابات نهائية، بل كان يطرح أسئلة غير مألوفة، يحرّك الساكن، ويضع أصبعه في جرح العقل العربي الذي طالما خاف من المساءلة»، وأن «قراءة فودة من هذا المنظور تعني تجاوز الاكتفاء بالاقتباس منه، أو التغنّي بجمل مأثورة له، إلى الانخراط الحقيقي في جدله، ومساءلته كما كان هو يطالب بمساءلة الجميع: المؤسسة، والجماعة، والتاريخ، والنص».
لماذا فرج فودة الآن؟ لم تعد العودة إلى فرج فودة اليوم مجرّد استدعاء لاسم ارتبط بمأساة اغتيال أو بصورة مثقف دفع حياته ثمنًا لجرأته، ومع صدور كتاب هكذا تحدث فرج فودة، يصبح السؤال أكثر إلحاحًا وعمقًا: لماذا نقرأ فرج فودة الآن؟ ولماذا يبدو حضوره الفكري، بعد كل هذا الزمن، كأنه لم يغادر ساحة النقاش؟ فهذا الكتاب لا ينطلق من منطق التأبين، ولا من الرغبة في تحويل فودة إلى أيقونة جامدة، بل من وعي نقدي يرى فيه مشروعًا فكريًا لم يُستنفد بعد، كما يوضح «الحداد» منذ السطور الأولى أن الدافع وراء هذا العمل لم يكن لحظة عاطفية، بل مسارًا فكريًا واعيًا، حيث يؤكد أن فرج فودة «لم يكن مجرد كاتب تنويري، بل نموذجًا نادرًا لمثقف واجه الظلامية من قلب المعركة، لا من الأبراج العاجية، مسلحًا بشجاعة عقلانية نادرة، وخطاب مباشر لا يهادن». بل لم يقتصر الباحث في الإسلام السياسي «حسام الحداد» إلى تلك المنطقة فقط بل أكد على أن كتابه هو محاولة لفتح هذا الجدال من جديد، وضرورة التعامل مع نصوص فرج فودة كوثائق انتهى زمنها، أو كأصوات مرحلة التسعينيات التي يُخيّل إلى البعض أنها انتهت، مؤكدًا على أن تلك الأصوات لا تزال تتحرك في نفس البنية التي كان فودة يحذر منها في كتاباته والتي منها «تديين السياسة، اختطاف المجال العام باسم الشريعة، إعادة إنتاج الوصاية الدينية على الضمير والمجتمع، لذلك، فإن قراءة فكر فودة اليوم هي شكل من أشكال المقاومة، هي استعادة لصوت كان يحذّر من السقوط قبل أن يسقط الجميع في براثن التبرير أو التطبيع مع الأصولية». كيف كان فرج فودة يعمل العقل؟ ما يعيد هذا الكتاب ترسيخه في الوعي أن فرج فودة لم يكن صاحب موقف سياسي فقط، بل صاحب طريقة تفكير، فالعقل عند فودة لم يكن أداة زينة معرفية، ولا خطابًا تجريديًا، بل ممارسة يومية تقوم على الشك، والتفكيك، والسؤال المتكرر، فكان يرى أن أخطر ما في الفكر المنغلق ليس عنفه، بل منطقه المغلق على نفسه، ذلك المنطق الذي يُحوّل اليقين إلى سلاح، والنص إلى سلطة، والسؤال إلى جريمة. ولهذا أكد الحداد على ضورة العودة إلى قراءة أعماله إذا قال: «دعونا نقرأه الآن، لا بوصفه بطلًا فرديًا، بل بوصفه مفكرًا عضويًا ما زال في قلب المعركة»، وهو الأمر الذي قد يحيلنا إلى منطقة أخرى هل نحن الآن داخل المعركة؟ كما أكد على ضرورة العودة لكتاباته وأفكاره من منظور آخر والذي لا يقتصر فقط على مواجهة "فودة منفردًا في محاربة الفكر المتطرف وإنما أيضًا باعتباره قارئ للمشهد الراهن ومستشرفًا للمستقبل، إذ قال:« نحن بحاجة إلى أن نستعيد فكر فودة من تحت ركام الحكاية الأسطورية، لنضعه في سياق الحوار النقدي المعاصر، بوصفه عقلًا ساخرًا، متوترًا، مقاومًا، لا بوصفه ضحية صامتة تذكّرنا فقط بخطورة التكفير». لذلك، لم يكن فودة يواجه خصومه بالصراخ أو الإدانة الأخلاقية فقط، بل بإجبارهم على التفكير. كان يسألهم: ماذا تعنون بالشريعة؟ كيف تُدار الدولة؟ كيف يُبنى اقتصاد؟ كيف يعيش الفن؟ كيف تُحترم المرأة؟ فأسئلته لم تكن بريئة، بل كاشفة، لأنها كانت تُخرج الخطاب الإسلاموي من عموميته المريحة إلى تفاصيله العاجزة. بين التنوير النخبوي والتنوير الاشتباكي يميز هذا الكتاب بوضوح بين فرج فودة وبين كثير من رموز التنوير العربي. فودة لم يشتغل على النص الديني بوصفه موضوعًا معرفيًا معزولًا، بل واجه النص المؤدلج في المجال العام. كما يرد في المقدمة: «ما يميز فودة أنه لم يشتغل على النص الديني كمجال معرفي محايد، بل واجه النص المؤدلج في المجال العام، بالنقد والتحليل والسخرية». هذا الاختيار لم يكن بسيطًا ولا آمنًا، فودة اختار أن يخاطب الناس بلغتهم، وأن يُنزل التنوير من برجه النظري إلى الشارع، لم يُثقل القارئ بمصطلحات فلسفية معقّدة، بل هز يقيناته الزائفة، وساءل المقدس حين يتحول إلى أداة قمع، ولهذا السبب تحديدًا كان أكثر خطرًا من كثير من المفكرين الذين بقوا داخل دوائر أكاديمية محمية.
كيف واجه الفكر الواحد؟ الفكر الأُحادي لم يكن فرج فودة عدوًا للدين، بل كان خصمًا جذريًا لتوظيفه سياسيًا. الكتاب يؤكد هذه النقطة الحاسمة حين يوضح أن فودة «حرص على الفصل بين الدين كعقيدة روحية وأخلاقية، وبين توظيفه كأداة للسلطة السياسية والاجتماعية». من هذا الموقع، كان نقاشه مع أصحاب الفكر الواحد نقاشًا عقلانيًا لا عدائيًا، لكنه بلا مجاملة، لم يرفض الإيمان، بل رفض احتكاره، لم يسخر من العقيدة، بل من تحويلها إلى برنامج حكم، وكان يرى أن أخطر ما يفعله الفكر المنغلق هو مصادرة حق الإنسان في التفكير باسم الطاعة، وحقه في السؤال باسم التوقير.
نحن بحاجة إلى أن نستعيد فكر فودة من تحت ركام الحكاية الأسطورية، لنضعه في سياق الحوار النقدي المعاصر، بوصفه عقلًا ساخرًا، متوترًا، مقاومًا، لا بوصفه ضحية صامتة تذكّرنا فقط بخطورة التكفير.
السياق الذي واجهه... والثمن الذي دفعه يضع الكتاب فكر فرج فودة داخل سياقه التاريخي بدقة وهو ما أكده الحداد في مقدمه الكتاب قائلًا:«صعود الإسلام السياسي، تراجع اليسار، صمت النخبة، وميوعة موقف الدولة. في هذا المشهد المرتبك، اختار فودة المواجهة في لحظة كان الصمت فيها هو القاعدة«. فقد كتب قبل السقوط، كما يصفه المؤلف، «وتحدث عن الخطر وهو يزحف، لا حين أصبح واقعًا، فلم ينتظر اكتمال الكارثة، ولم يكتب من موقع آمن بعد وقوعها». ولهذا السبب لم يكن اغتياله حدثًا عابرًا، بل نتيجة منطقية لمسار فكري اختار فيه الوضوح بدل السلامة، والمواجهة بدل التكيّف.
لماذا نحتاج فرج فودة الآن؟ وهنا تأتي الإجابة اليقينية على السؤال الرئيس لماذا فر فودة الآن؟ ذلك لأن الفكر الواحد لم يختفِ، بل غيّر لغته، ولأن التطرف لم يعد دائمًا عنيفًا، لكنه صار أكثر مكرًا، ولأن الخطاب الذي كان فودة يفضحه ما زال يعمل، لكن بأدوات رقمية، وبقناع الاعتدال، وبشعارات الهوية والتنمية. وكما يشير الكتاب بوضوح، فإن قراءة فكر فودة اليوم «ليست ترفًا فكريًا، بل ضرورة نضالية في مواجهة نسخة جديدة من الاستبداد». العودة إليه ليست بحثًا عن إجابات جاهزة، بل استعادة لمنهج: الشك بدل التسليم، العقل بدل الطاعة، والسؤال بدل الخضوع.
قراءة من خلال فودة لا عنه وهنا تأتي القيمة الحقيقية لهذا الكتاب لأنه لا يقدّم فرج فودة بوصفه قديسًا عقلانيًا، ولا بوصفه ضحية فقط، بل كمفكر حيّ، مشروعه مفتوح على النقد والتطوير. وهو دعوة لإعادة تشغيل العقل الذي لم يتوقف عن الاشتباك، لا لترديد العبارات المأثورة، وأن فرج فودة لم يكن حكاية انتهت باغتياله، بل سؤالًا لم يُغلق بعد، ولهذا السبب تحديدًا، نحتاجه الآن.