ألقيت محاضرة بكلية الآداب جامعة عين شمس يوم الخميس الماضى بدعوة من اتحاد الطلبة تحت عنوان «مستقبل المدنية فى مصر بين العسكر والإخوان».. كان الحضور كثيفاً، ليس فقط حضور الأجساد، إنما الهمم والأذهان والأفئدة، وهذا ما طمأننى على أن الماضى لن يعود أبداً، مهما كان الزيف والتدليس، فقد وجدت طلاباً واعين متحمسين، ومصرّين على أن تحقق الثورة أهدافها، يقودهم عميد شجاع مثقف هو الأستاذ الدكتور عبدالناصر حسن محمد، الذى سبق أن هاجمنا النظام أيام حكم مبارك على منصة «دار الكتب والوثائق القومية» حين كان هو رئيساً لها. فى مجمل مداخلتى الأولى وردى على تساؤلات الطلاب، يمكن أن أختصر ما قلته بأننى ليس لدىّ أدنى خوف على مدنية الثقافة فى هذا البلد العريق، فروحه الوثابة العميقة العريقة تميل إلى الوسطية والتحضر وتجفل من الفظاظة والغلظة والتشدد والتزمت والتخلف، وأهله فى الغالب الأعم يتصرفون طيلة الوقت وفق ما يقتضيه عصر العلم المتجدد، ويجفلون من أى رؤى أو تصورات دينية جامدة تجافى هذا، ويرفضون أى رؤى فقهية وفكرية مغلوطة تخاصم المعرفة والتقدم، وهم إن كانوا حريصين على دور الدين فى الامتلاء الروحى والسمو الأخلاقى والنفع العام فإنهم لا يقبلون تحويله إلى أيديولوجيا سياسية تحمل كل ما فى السياسة من عوج وتلاعب ومخاتلة وعوار وتناقض، وهذا ما لم يفهمه الإخوان والسلفيون حين ظنوا أن التصويت لهم فى الانتخابات البرلمانية احتفاء واحتفال بمشروعهم السياسى واحتضان شعبى جارف لمسلكهم ومنظورهم، وليس مجرد الاطمئنان إلى قوة سياسية منظمة يمكن أن تسهم فى حل مشكلات الناس الحياتية، وتخرج البلاد من حالة الارتباك، وتكون أمينة على المال العام. أما فيما يتعلق بالعسكر، فتركزت فكرتى على أن وجودهم فى الحياة المدنية أرسخ وأبعد مما يعتقد الكثيرون، لا سيما بعص من يطالبونهم بالانسحاب الآن من السياسة والعودة إلى الثكنات. فالثقافة الإدارية والبيروقراطية المصرية تعسكرت حين منح المديرون ورؤساء مجالس إدارات الهيئات والمؤسسات صلاحيات مطلقة تضمنها لوائح «شبه عسكرية»، وكثير من المناصب التنفيذية والاقتصادية الكبرى فى البلاد مسندة إلى الجنرالات، وهناك شركات الجيش المتصلة بشركات لرجال أعمال وأخرى متعددة الجنسيات، كما أنهم لهم حضور فى مجال الأمن والتخطيط والإعلام. ومن هنا، فإن السلطة ليست حقيبة يمكن أن يسلمها فرد إلى فرد أو جهة إلى جهة فى لمحة البصر، إنما هى مصالح ومكتسبات وعلاقات وخطابات وتشريعات وشبكات اجتماعية تحتاج تصفيتها إلى وقت وجهد وصبر، ويجب أن يتم هذا بصيغة متدرجة تسمح ب«تخارج» العسكر من الحياة المدنية بمختلف جوانبها دون الانزلاق إلى العنف، ولنا فى التجربتين التركية والإندونيسية نموذج يُحتذى، ولعل انتخابات الرئاسة تكون بداية الطريق حين نختار رئيساً مدنياً.