يعد التمسك الصارم بالاحتكام إلى العلم وقوانين العلم فى فهم وإدارة شئون الحياة المشكلة الثانية التى تفجر الخصومة بين النخبة المدنية والإخوان، وهو توجه له اعتباره لا خلاف على ذلك، لكنه يصطدم بعقلية جمعية لها تركيبتها الخاصة ووجدان يجلله التدين. مشكلة النخبة المدنية أنها لا تستوعب أن انتشار الإخوان وفكر الإخوان بين المصريين يرتبط بثقافة اجتماعية متجذرة تتأسس على فهم معين للدين لا يستند إلى العقل والعقلانية فى الكثير من المواضع، وأن إصلاح هذه الثقافة يشكل نقطة الانطلاق الرئيسية لوضع مصر على طريق النهضة، لكن للأسف لا تتمتع النخبة المدنية فى مصر بالحيوية التى تساعدها على القيام بهذا الدور، إذ تجدها إلى الكسل أميل منها إلى العمل، وإلى الاتكال على غيرها أكثر جنوحاً من الاعتماد على نفسها. لقد فضلت النخبة المدنية الاعتماد على المؤسسة التى ترتبط بها بحبل متين، وأقصد بها المؤسسة العسكرية التى نشأت تلك النخبة فى أحضانها وأصبحت بمرور الوقت جزءاً منها، يظهر ذلك أشد الظهور فى عدائها البيّن للفاشية الدينية فى الوقت الذى تتسامح فيه أشد التسامح مع الفاشية ذات الوجه العسكرى. ومن الأمور التى تثير حيرة الكثير من المحللين عند النظر إلى علاقة المثقفين اليساريين فى مصر بجمال عبدالناصر ذلك التماهى المفرط من جانبهم بشخص «ناصر»، رغم ما تعرضوا له من ظلم وعسف وسجن وتعذيب وتشريد على يد النظام الناصرى. فأغلب أهل اليسار يحتفون بتجربة جمال عبدالناصر أشد الاحتفاء، ويدافعون عنها كل الدفاع. إن من يقرأ مذكرات سعد زهران -أحد أقطاب اليسار المصرى خلال فترة الستينات- التى جاءت تحت عنوان «الأوردى» -نسبة إلى سجن الأوردى- وعمليات التعذيب الممنهج التى تعرض لها العديد من رموز النخبة اليسارية فى مصر، مثل الدكتور «فؤاد مرسى» والدكتور «إسماعيل صبرى عبدالله» وغيرهما، من يقرأ هذه المذكرات يستغرب أشد الاستغراب من موقف هؤلاء الأساتذة ومواقف تلاميذهم وتسامحهم الملحوظ مع الحكم العسكرى، فى الوقت الذى رفضت فيه هذه النخبة كل الرفض الحكم الدينى، رغم أن كليهما «فاشية»! ولا يرتبط هذا الأمر بأهل «اليسار» من أفراد النخبة فقط، بل ينطبق أيضاً على أهل «اليمين» من المثقفين الليبراليين الذين لم يجدوا غضاضة فى التحالف مع العسكريين من أجل مواجهة الحكم الإخوانى الذى أراد أن يعيد البلاد قروناً إلى الوراء. وفى النهاية لم يستطع أى من الطرفين المدنى والعسكرى فعل أى شىء إلا عندما هب الشعب فى 30 يونيو بالملايين ليطيح بحكم الجماعة. هكذا أورد التعالى على الناس والإحساس بفقدان الثقة فيهم النخبة المدنية هذا المورد، فدفعهم إلى الارتماء فى أحضان المؤسسة العسكرية، والتنسيق الكامل معها من أجل التخلص من الإخوان، رغم أنهم لو وثقوا فى الشعب وتحركوا معه لانتهوا إلى نتيجة أفضل.. ذلك الشعب الحكيم الذى يثبت فى كل المواقف أنه متقدم على النخبة عدة خطوات!