تصاعد النفوذ الأمريكى على المستوى الدولى فى أعقاب الحرب العالمية الثانية، حيث سعت إلى ترويج سياساتها فى مختلف أنحاء العالم باعتبارها ركيزة المجتمع الحر الديمقراطى الذى يتبنى قيم الرأسمالية والاقتصاد الحر ونشر مبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان، ثم دخلت فى سباق تسلح محموم مع الاتحاد السوفيتى السابق ودول الكتلة الشيوعية، وانتهى هذا السباق بتفسخ الاتحاد السوفيتى وانفراد الولاياتالمتحدة بقيادة العالم باعتبارها القطب الأوحد منذ العقد الأخير من القرن العشرين، ومع بداية القرن الحادى والعشرين دأبت الولاياتالمتحدة على التدخل فى الشئون الداخلية للعديد من دول العالم فى مختلف القارات ومحاولة قلب نظم الحكم فى الكثير من البلدان لفرض هيمنتها الكاملة على الشعوب، وابتكرت الولاياتالمتحدة مصطلح «العولمة» الذى يشير إلى عملية متشابكة الأبعاد السياسية والاقتصادية والثقافية، والتكنولوجيا التى تستهدف دمج كافة المجتمعات والثقافات والمؤسسات والأفراد فى بوتقة واحدة يحكمها النظام الرأسمالى الحر والسوق العالمية الموحدة التى تقودها الولاياتالمتحدة، وأصبحت العولمة بهذا المفهوم الأمريكى تقتحم أربعة جوانب أساسية للدولة ذات السيادة وهى: الاحتكار - السلطة - التشريع - الحدود الجغرافية، فهى تقلص دور الحكومات فى إصدار التشريعات داخل الدولة وممارسة سلطة الدولة، وإذا لم تستطع أية دولة أن تحافظ على أمنها الاقتصادى والسياسى والبيئى، فإنها تفقد مصداقيتها، ومن ثم سلطتها. أدى تزايد نفوذ الولاياتالمتحدة فى العالم إلى تضاؤل قوة الدولة المستقلة لتحل الشركات متعددة الجنسية تدريجياً محل الدولة، ولم تعد حدود الدولة القومية هى حدود السوق الجديدة، بل أصبح العالم كله مجالا للتسويق سواء تسويق السلع أو الخدمات أو الأفكار، ولم تعد سياسة الدولة تحظى بحضانة مطلقة، وإنما أصبحت قابلة للانتهاك والاختراق بطرق شتى، وأسفرت هذه التغيرات العالمية التى قادتها الولاياتالمتحدة عن توارى اعتبارات الجغرافيا السياسية لتصعد على أساسها اعتبارات الجغرافيا الاقتصادية، والتى أصبح لها اليد العليا فى رسم السياسات الخارجية للدول، وتحديد مصالحها القومية، وصياغة برامجها للأمن القومى. ومع تنامى القوة الأمريكية تراجعت مكانة الأممالمتحدة ووكالاتها المتخصصة وزاد نفوذ منظمات مثل البنك الدولى، وصندوق النقد الدولى، ومنظمة التجارة العالمية وهى منظمات تخضع تماماً للنفوذ الأمريكى، وساد الحديث عن «القرية الكونية» التى تستهدف دمج الثقافات الوطنية التقليدية ويعرضها لفقدان هويتها، حيث يتم اختراق منظومة القيم الثقافية الوطنية والعمل على تفتيتها من الداخل، ثم إحلال القيم الأمريكية ذات الطابع الاستهلاكى مكانها. وحيث إن لكل فعل رد فعل، فقد أسفر ازدياد النفوذ الأمريكى إلى تفجر التعصب الوطنى فى جميع القارات وهى ظاهرة تستهدف التأكيد على الهوية القومية ومقاومة الاتجاه العالمى نحو التجانس الثقافى. زادت مشاعر الكراهية تجاه التدخل الأمريكى فى الشئون الداخلية للدول المستقلة، وأدرك الأمريكيون ذلك وظهرت دراسات عديدة لرصد مشاعر العداء تجاه الولاياتالمتحدة تحت عنوان «لماذا يكرهوننا؟»، وانفجرت مشاعر الكراهية حتى لدى أصدقاء الولاياتالمتحدة بعد فضيحة التجسس التى كشف عنها «إدوارد سنودن»، الموظف السابق فى وكالة الأمن القومى الأمريكى، لتضع نقطة فى نهاية خط ممتد من الأزمات التى تطحن واشنطن فى عهد أوباما الكئيب والتى أدت إلى فقدان الثقة من جانب أقرب الحلفاء فى السياسة الأمريكية. يحدث كل ذلك فى ظل تصاعد ملحوظ للنفوذ الروسى والصينى فى مواجهة القطب الأوحد الذى بدأ بالفعل رحلة السقوط، ولعل من أبرز دلائل السقوط تقلص نفوذ صناعة الإعلام الأمريكى على المستوى الدولى، ونستكمل لاحقاً.