قلت إن الخوف فى قلوب المصريين كان أسوأ من الاحتلال.. أليس كذلك؟ - بالطبع، وهذا هو الملمح الجديد الذى ظهر على الشخصية المصرية بعد 25 يناير. فنحن أمام جيل أسقط «حائط الخوف». لكن الاحتلال الإنجليزى ظل أكثر من 80 عامًا وخلعه كان صعبا. - الخوف بقى، ولم يبرح مكانه، لولا طيرانه مثل العصافير فى فضاء «ميدان التحرير» وميادين مصر، كان من الممكن أن نظل محبوسين وراء جدرانه مئات السنين. وهل سقوط «حائط الخوف»، الذى تعنيه، له دورٌ فى تشكيل نظام مصر القادم والرئيس؟ بالتأكيد. أنت الآن أمام شعب لا يخاف؛ وعليك أن تعرف -إذا كنت رئيسًا لمصر- أن شعبها لن يركع مرة أخرى ويترك فسادك واستبدادك. لن يترك أولادك يظنون أن مصر «عزبة» من الممكن وراثتها. وفى ظنك، إلى أى أنظمة الحكم تتجه مصر؟ - «ترمح زى ما هىّ عايزة!»، مصر فى النهاية تغيرت، تبدلت، وسقط ورقها الأصفر الذى شاخ، ونبت ورق أخضر، كله خير وعزة وكرامة وشرف. تقصد شباب الثورة؟ - نعم، الذى كان فى طليعة الصفوف، ثم انضم إليهم الشعب كله، يطالب بالحرية والكرامة والعدالة، وهذا ما تستحقه مصر. البعض يرى مصر فى طريقها ليكون رئيسها القادم ونظامه على الطريقة الإيرانية أو الباكستانية. - من يقول ذلك لا يعرف مصر؛ مصر يا جماعة «فرعونية، لا شرقية ولا غربية، لا أمريكية ولا وهابية، مصر لا باكستانية ولا خومينية.. مصر هتفضل مصر». هذا فى الأدبيات المتعارف عليها أو الماضى، لكن الواقع يقول عكس ذلك. - والواقع «بتاعك» بيقول إيه؟ بيقول إن الغلبة حاليا لتيار الإسلام السياسى. - هذا واقع مغلوط، ومشكوك فى صحته. ومن أين يأتى الشك، فالتيار جاء بإرادة شعبية عبر انتخابات برلمانية نزيهة؟ - مين قالك إنها نزيهة؟ يا عم احمد.. أنا هنا أسأل. - «ما انا عارف يا سيدى»، وأنا أيضًا أرد عليك.. «قولّى من فضلك: من قال لك إنها انتخابات نزيهة؟». إذ لم تكن كذلك، فماذا كانت؟ - كانت «مزورة» ومدبرة بين العسكر والإخوان. من أين يأتى التزوير؛ على الرغم من وجود قاضٍ على كل صندوق؟ - التزوير كان فى الفرز؛ فنحن -كشعب- لم نر الفرز. وحتى إن لم يكن كذلك؛ فالمؤكد أن ما دُبِّر ليلا بين الإخوان والمجلس العسكرى، هو ما تسبب فى ارتداء البرلمان «العمة»، وأخرج مصر من سياقها الحضارى الممتد عبر آلاف السنين. أنا هنا لا أهاجم الإسلام ولا أقول هذا يُدخل الجنة وهذا يُدخل النار، مثلما يقولون. هل بينهم من يقول ذلك؟ - «أومّال إيه؟»، هم يوزعون «صكوك الغفران»، ويوهمون الشعب أن مفاتيح الجنة فى أيديهم، على الرغم من أن أيديهم لا تحمل إلا «علب السكر والدقيق والزيت». تقصد «الإخوان»؟ - الإخوان وغير الإخوان؛ أنا كلامى لكل تيارات الإسلام السياسى التى هبطت على مصر بعد 25 يناير، وتحاول خطف الثورة بمساعدة «العسكرى» من الشعب. لكن المجلس العسكرى ساعد فى حماية الثورة. - المجلس العسكرى من «الفلول»؛ لم ينقذ الثورة إلا من أجل إنقاذ نفسه فقط. من حمى الثورة هو جيش مصر العظيم. وما الفارق بين «المجلس العسكرى» و«الجيش»؟ - «الجيش حاجة، والمجلس حاجة تانية». الكل يعلم أن الجيش هو الحماية للوطن والمنقِذ وقت الأزمات؛ لذلك يحتفظ بمكانته داخل قلوب المصريين ويعيش فى وجدانهم منذ أيام محمد على، «ويمكن من أيام مينا موحد القطريين». أهناك تخوفٌ من أن يكون الرئيس القادم لمصر نسخة من أحمدى نجاد، ويكون فى خلفيته نظام آية الله الخامنئى؟ - لن يحدث. «علىّ الطلاق مصر هتفضل مصر»، وبعد 25 يناير لن يحكمها الإخوان أو العسكرى. يا سيدى، ألم أقل لك مصر «خلاص مابقتش تخاف». لماذا الخوف إذن من الإخوان؟ - لأنهم يريدون مصلحتهم و«يركبوا البلد». ولماذا الخوف من العسكر؟ - لأنهم مثل «الإخوان» يحاولون إجهاض الثورة ووقفها عند هذا الحد؛ وأن يظلوا كما هم فى سدة الحكم، وهذا لن يحدث وعليهم معرفة أن نظام مبارك سقط ولن يعود. بمناسبة مبارك ونظامه.. كيف رأيته نظاماً ورئيساً؟ - «نظام إيه؟ هو ده كان نظام؟ دول كانوا «شلة» لصوص وحرامية». و«مبارك»، كيف رأيته؟ - لم يكن رئيسا بالمعنى المتعارف عليه؛ فالرئيس الذى يذهب و«يبوس» قدم رئيسه، ليس رئيسا. من الذى «قبّل» قدم من؟ - مبارك عندما عُين نائباً للسادات، ذهب إليه و«باس» قدمه. «مش للدرجة دى يا عم احمد». - «أنا باقولك كده واسمع كلامى»، عندما عيّنه السادات، فعل ذلك. ومصيبة «السادات» الكبرى هى تقديمه لأسوأ رئيس لمصر. ماذا عن «السادات» كرئيس ونظامه؟ - كان أسوأ ممن قبله. دبّر -بمعرفة هيكل- أحداث 71 وقضى على رجال عبدالناصر، حتى ينفرد بالحكم. إذا كان هو من فعل ذلك لينفرد بالحكم، فلماذا يساعده الأستاذ «هيكل»؟ - ليظل الآمر الناهى بجوار الرئيس، كما كان يفعل أيام «عبدالناصر». ف«هيكل» كان رئيساً آخر جوار «عبدالناصر» طيلة فترة حكمه. لو سلمنا بذلك؛ فاللوم هنا يقع على «عبدالناصر» وليس على الأستاذ «هيكل». - ليست تلك هى القضية؛ فأنا أقول إن عبدالناصر كان بالفعل رئيسًا، وأنا لست «ناصريا»؛ لكن هذه هى الحقيقة. المشكلة أنه أراد القول «أنا النظام، والنظام أنا.. أنا الرئيس والرئيس أنا»، ومن هنا انهار مشروعه، الذى حاول فيه مناصرة الفقراء و«الغلابة». وهل نجح الأستاذ «هيكل» فيما هدف إليه -حسب قولك- فى علاقته بالسادات؟ - لا، لم ينجح. ولماذا؟ - لأن السادات كان «ديب»؛ نجح فى حمل هيكل على التخطيط له، وتدبير حكاية 71 -أُطلق عليها وقتها «ثورة التصحيح»- ثم أبعد السادات مراكز القوى تلك التى كانت تكبل يديه. وعاد وانقلب على «هيكل»، وأقصاه من الأهرام، وبعدها انفرد بالحكم. لكن الأستاذ هيكل كان -كما يحب دائماً أن يقول- «جورنالجى»، ولم يسع للحكم. - ألا تسأل أنت عن «عبدالناصر» و«السادات» ونظاميهما؟ نعم.. سألت. - «طيب»، أنا أقول لك إن «هيكل» كان جزءاً من نظام «عبدالناصر»، وظله السياسى. وحاول إكمال مشواره بجوار السادات، لكنه فشل. نعود للرئيس «عبدالناصر» ونظامه، لماذا بكت والدتك على رحيله؟ - بكت مثل كل المصريين؛ ف«عبدالناصر» يمثل لهم رب الأسرة وكبير العيلة والأخ الكبير. كان يمثل لهم كل شىء، لذلك فهى بكت، وأنا رأيت عينيها وهى تبكى، وكنت وقتها فى السجن، وجاءت زيارة لى ودموع حزنها على عبدالناصر تملأ عينيها. تبكى عليه على الرغم من أنه وضعك فى السجن؟ - قلت لها: «يا أم أحمد، إنتى بتبكى وحزينة على الراجل اللى دخلنى السجن أكتر من مرة؟»، فأجابت: «يا عبيط عمود الخيمة وقع!». هذه كانت أهم ميزة فى شخصية الرئيس عبدالناصر، فعلى الرغم من كل أخطائه، لا تكرهه، بل يفرض عليك حبه واحترامه. وماذا تتمنى أن يأخذ الرئيس القادم لمصر من الرئيس «عبدالناصر»؟ - أن يأخذ منه حبه للفقراء؛ فعبدالناصر كان يحبهم، وبداخله كان يحب أن يجعلهم سعداء. لكن هذا الحلم لم يتحقق لأسباب كثيرة؛ أهمها حبه الشديد للانفراد بالسلطة، وفرض رأيه هو، والسير على نظامه هو. ومن السادات؟ - لا، أرجو من الرئيس القادم ألا يأخذ منه شيئا. كيف وهو بطل الحرب والسلام، الذى أعاد لنا سيناء؟ - «طيب»، ومن أضاع سيناء؟ أليس هو وزملاؤه من ضباط يوليو بقيادة «عبدالناصر» و«عبدالحكيم عامر»؟ حرب أكتوبر أعادت لنا سيناء؛ ثم قام السادات باتفاقية السلام وأضاع مجدها. حسب فهمى لكلامك؛ أنت تريد لمصر رئيسا يحب الفقراء ولا يفرض علينا نظاماً بعينه؟ - بالفعل، هذا ما أريده. نريد رئيسا شعاره القضاء على الفقر ومساعدة «الغلابة»، تختفى فى فترة حُكمه مشاهد الناس التى تبحث عن «لقمة» العيش فى صناديق الزبالة. أما نظامه؛ فعلى الرئيس القادم أن يعرف أن الشعب المصرى بعد 25 يناير لن يعطى الحرية المطلقة له ليضع القوانين على مزاجه، ولن يتركه يغير أو يبدل سياساته حسبما تقول له «شلة المصلحجية». عليه معرفة أن الشعب المصرى لن يسمح مرة أخرى أن يأتى وزير دفاع مثل عبدالحكيم عامر، ولا وزير لمجلسى الشعب والشورى مثل كمال الشاذلى، ولا أحمد عز ولا رئيس لمجلس الشورى مثل صفوت الشريف. خلاص مصر لن تسمح بقيادات مثل هذه التركيبة السياسية. البديل لهؤلاء لم يأت من الميدان، لكنه جاء من التيار الإسلامى؟ - «مش مهم». الأهم أن من جاء به هو الشعب. ذهب بإرادته، وقف طوابير -مثل طوابير العيش- ليدلى بصوته فى انتخابات. أنا ما زلت أقول إنها «مزورة» وهو -الشعب- الذى سيخرجهم فى الانتخابات القادمة، ليعودوا من حيث أتوا. ولماذا سيرفضهم الشعب المرحلة المقبلة؟ - لأن من يستحق مكانهم هم شباب التحرير؛ أصحاب الدم النازف والجسد المحترق و«العيون اللى راحت»، والقلوب العامرة بحب البلد. لكن هؤلاء النواب يحبون البلد أيضا؟ - نعم، يحبونها على طريقتهم. ومصر لا تقبل بذلك. «مصر تحب أن تحبها على هواها هى، لا على هواك أنت». مصر تحب من يحب أقباطها، وهؤلاء لا يحبونهم. مصر تحب أصلها الفرعونى، وهؤلاء لا يحبون إلا السعودية وقطر. مصر تحب الإسلام الوسطى وهؤلاء يحبون المتشدد الغليظ. مصر تحب التسامح وهؤلاء يحبون العنف. مصر تحب الصدق، وفى هؤلاء من يحب الكذب. إذا أردت قول كلمة للنظام والرئيس القادم، ماذا تقول؟ - أقولها أفضل للشعب المصرى: يا شعب مصر المحروسة، «متخافوش مصر هتبقى عظيمة، شامخة، هتفضل فرعونية، لا سعودية ولا إيرانية، ولا كل أموال النفط تستطيع أن تغير طعم كباية مياه من نهر النيل العظيم». يا شعب مصر المحروس ستظل «السيد»، وسيظل جيلك الجديد هو طليعة المستقبل. لا خوف على مصر لا من العسكر أو السلفيين أو الإخوان أو «الجن» الأزرق، والأيام بيننا. توقف الفاجومى عن الكلام عند كلمة «الأيام بيننا»، وسحب سيجارة جديدة من علبة سجائره التى نفد نصفها أثناء الحوار، وسحب «نفسا» ثم أطلق دخانه فى الهواء، واعتدل فى مقعدة وقال: «يا جماعة، مصر أكبر من كل هؤلاء، وبكرة الأيام تأكد كلامى». وبعد أن أنهيت التسجيل، طلب زميلى المصور أخذ صور أخرى؛ فاستجاب «عم أحمد» ثم ودعته عائدا من المقطم وفى أذنى ترن كلماته: «مصر يا امه يا بهية.. يا ام طرحة وجلابية.. الزمن شاب وانتى شابة، هو رايح.. وانتى جاية». صدقت نبوءة «الفاجومى»، وجاءت مصر يوم 25 يناير، بعد أن شيّبت الزمن؛ لتبقى شابة، قوية؛ «عيونها على المستقبل».