مثلما توقف الخبراء والسياسيون وأصحاب الضمير، أخيراً، عن ترديد أسطوانة الوحدة الوطنية، واعترفوا أن المشكلة عميقة، نحتاج أيضاً إلى وقف الأسطوانة الحمضانة عن أوهام التعايش السلمى بين المسلمين والمسيحيين فى مصر طوال 14 قرناً، ووقف استعمال كلمة الفتح العربى لمصر، لنقول المصطلح الأدق «الغزو العربى لمصر». ولن أذهب بعيداً فى الاجتهادات، إذ تكفى هنا الاستعانة بما جاء فى خطط «المقريزى» وهو شيخ مؤرخى مصر، ومسلم طبعاً. يقول «المقريزى» إن عمرو بن العاص أعلن لأهل مصر: أن من كتمنى كنزاً عنده فقدرت عليه قتلته. وقيل له إن قبطياً من الصعيد اسمه بطرس لديه كنز فرعونى فاستولى عليه وقتل المصرى وعلق رأسه على باب المسجد، ويذكر «المقريزى» أن من مجموع هذه المصادرات تضخمت ثروة «عمرو» الشخصية، وحين حضرته الوفاة استحضر أمواله فكانت (140) أردباً من الذهب. ويذكر أن الاضطهاد فى عهد أولاد مروان بن الحكم، طال البطاركة الأقباط والرهبان أنفسهم، ففى ولاية عبدالعزيز بن مروان على مصر صودر البطرك مرتين، وأمر «عبدالعزيز» بإحصاء الرهبان وأخذ منهم الجزية، وهى أول جزية أخذت من الرهبان. وتولى مصر عبدالله ابن الخليفة عبدالملك بن مروان فاشتد على النصارى، واقتدى به الوالى التالى قرة بن شريك فأنزل بالنصارى شدائد لم يبتلوا بمثلها من قبل، على حد قول «المقريزى». وأقام الأمويون مذبحة للأقباط سنة 107 هجرية حين ثاروا فى شرق الدلتا بسبب جشع الوالى عبدالله بن الحبحا.. وفى خلافة يزيد بن عبدالملك تطرف الوالى أسامة بن زيد التنوخى فى اضطهاد الأقباط، فصادر أموالهم ووسم أيدى الرهبان بحلقة من حديد، وكل من وجده منهم بغير وسم قطع يده، وفرض غرامات على الأقباط، وصادر الأموال من الأديرة، ومن وجده من الرهبان فى تلك الأديرة بلا وسم ضرب عنقه أو عذبه، وهدم الكنائس وكسر الصلبان. وفى خلافة هشام بن عبدالملك تشدد الوالى حنظلة بن صفوان فى زيادة الخراج، وأحصى الأقباط وجعل على كل نصرانى وشماً فيه صورة أسد ومن وجده بلا وشم على يده قطع يده. وثار العرب المسلمون سنة 117 بسبب قيام الأقباط ببناء كنيسة يوحنا، وكان ذلك فى ولاية الوليد بن رفاعة. وأدت زيادة المظالم إلى قيام الأقباط بثورة عارمة فى الصعيد سنة 121 هجرية، وانتقلت الثورة إلى سمنود سنة 132 وإلى رشيد فى نفس العام وتولى الأمويون إخمادها بالعنف الشديد. فى سنة 150 هجرية ثار الأقباط فى سخا وطردوا ولاة الضرائب فأرسل لهم العباسيون جيشاً يقوده يزيد بن حاتم، وحاصر الأقباط وهزمهم، وامتد الانتقام إلى حرق الكنائس. واضطر الأقباط إلى دفع غرامة قدرها خمسون ألف دينار للوالى العباسى سليمان بن على لكى يكف عن حرق الكنائس لكنه أبى. فى سنة 156 هجرية عاد الأقباط للثورة فى بلهيت، فأرسل لهم الوالى موسى بن عيسى جيشاً فهزمهم وحكم بقتل الرجال وسبى النساء والذرية. وكانت ثورة 216 هجرية هى آخر ثورات الأقباط الحربية، وبعدها اتبعوا طريق المقاومة السرية، ويعلق «المقريزى» بقوله «ومن حينئذ ذلت القبط فى جميع أرض مصر ولم يقدر أحد منهم على الخروج على السلطان، وغلبهم المسلمون على عامة القرى». وسنتابع..