في11 أكتوبر سنة1977 م, وأمام الرئيس أنور السادات, وفي مناسبة وضع حجر الأساس لمستشفي مارمرقس بالقاهرة ألقي البابا شنودة خطابا, تجلت فيه ثقافته التاريخية الواعية. حتي لقد جاء شهادة من هذا الحبر الكبير للتاريخ الإسلامي في الوحدة الوطنية بين المسلمين والمسيحيين.. بل وشهادة للقرآن الكريم في السماحة والإنصاف للنصاري.. ولأن الكثير من وسائل الإعلام تركز الأضواء علي عوامل الشقاق, وتتجاهل عوامل الوفاق ومنها هذه الشهادة المهمة للبابا شنودة لزم التنبيه علي عناصر هذه الشهادة, ليقرأها المسلمون والمسيحيون جميعا, وليتعلموا الاحتفاء بأقوال العقلاء, بدلا من أقوال الدهماء.. ولزم التقديم لمعالم هذه الشهادة, وبالنصوص الحرفية لصاحبها. ففي هذا الخطاب الوثيقة شهد البابا شنودة بأن القرآن قد وضع اليهود الذين أشركوا في ناحية ووضع النصاري في ناحية أخري, مميزا بينهم وبين المشركين.. وأن القرآن حينما يتكلم عن المسيحيين من أهل الكتاب إنما يطلب أن تكون المجادلة بينهم بالتي هي أحسن.. وفي هذه الشهادة أثني البابا شنودة علي تاريخ الإسلام في السماحة والعيش المشترك بين المسلمين والنصاري, وقدم الصور الرائعة لواقع هذا التاريخ ووقائعه منذ صدر الإسلام وعبر مراحل هذا التاريخ.. ومما قاله هذا الحبر الكبير علي سبيل المثال : في تلك العصور نجد تمازجا قد حدث بين المسلمين والمسيحيين, وظل هذا التمازج ينمو شيئا فشيئا حتي وصل إلي حالة من الوحدة.. فلنا في التاريخ الإسلامي صداقات كثيرة بين حكام المسلمين وبين المسيحيين, ونراهم قد اعتمدوا عليهم في ميادين عدة لعل من أبرزها التعليم والطب والهندسة والأمور المالية. فالتاريخ الإسلامي بشهادة البابا شنودة قد صنع نسيجا واحدا, امتزج فيه المسلمون والمسيحيون.. ووصلت علاقات الحكام المسلمين بالنصاري إلي درجة الصداقة, وليس فقط القبول. وتحدث البابا شنودة عن عمر بن الخطاب(40 ق.ه 23 ه584 644 م) الذي تعرض تاريخه لافتراءات أهل الشقاق فقدمه كنموذج مثالي للسماحة الإسلامية, فقال: لقد رأينا في التاريخ الإسلامي أمثلة واضحة للسماحة الإسلامية.. نذكر منها أن الخليفة عمر بن الخطاب حينما اقترب من الموت أوصي من يأتي بعده في الخلافة من جهة أهل الكتاب بأمرين: الأمر الأول: وفاء العهود التي أعطيت لهم.. والأمر الثاني قال فيه: ولا تكلفوهم فوق ما يطيقون. ثم يمضي البابا شنودة في الحديث عن عمر بن الخطاب, فيقول: في إحدي المرات, حينما كان الوليد بن عقبة واليا علي بني تغلب ومن فيهم من النصاري.. رأي عمر أن الوليد هدد هؤلاء الناس وتوعدهم, عزله عمر من الولاية حتي لا يلقي بهم شرا.. وهناك قصة طريفة تروي عن عمر بن الخطاب, أنه حينما كان خليفة للمسلمين, اختلف علي بن أبي طالب مع رجل يهودي, وجاء الاثنان أمام الخليفة عمر, فقال عمر لعلي: يا أبا الحسن اجلس إلي جوار خصمك لنبحث الأمر, فجلس علي وقد تأثر قليلا .. وبعد أن قضي بينهما, قال عمر لعلي: هل استأت أني أجلستك إلي جوار خصمك؟ فقال له علي: كلا.. أنا استأت لأنك ناديتني بكنيتي يا أباالحسن.. وفي هذا نوع من التعظيم, خفت أن يشعر معه اليهودي بأنه لا يوجد عدل بين المسلمين.. فلم لم تساو بيننا, وإنما رفعتني عنه بأن ناديتني بكنيتي؟. ثم يعقب البابا شنودة علي هذا العدل الذي جسده عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب, فيؤكد أن ذلك إنما كان خلقا عاما وسائدا في الحكم الإسلامي, ويقول: هكذا كان المسلمون يسلكون في العدل بين رعاياهم, أيا كان مذهبهم. ثم يؤكد البابا شنودة أن هذا العدل الإسلامي لم يقف عند دولة الخلافة الراشدة, وإنما امتد روحا سارية وسنة مرعية عبر تاريخ الإسلام, فيقول: لقد انتهت حياة عمر بن الخطاب علي الأرض, وانتهت مدة خلافته, ولكن الخير الذي عمله لم يمت بموته إطلاقا.. ولايزال حيا الآن يملأ الآذان ويملأ الأذهان.. ويحيا مع الناس علي مدي الأزمان. ثم يمضي البابا شنودة فيضرب الأمثال علي استمرار السماحة الإسلامية والعدل مع النصاري علي امتداد التاريخ الإسلامي, فيقول عن معاوية بن أبي سفيان(20 ق. ه 60 ه603 680 م) وعن الدولة الأموية: لقد كان الطبيب الخاص للخليفة معاوية نصرانيا.. واختار رجلا مسيحيا لكي يؤدب ابنه زياد.. وزياد هذا اختار كاهنا مسيحيا لكي يؤدب ابنه خالدا.. والخليفة عبدالملك بن مروان(26 68 ه646 705 م) كان يأخذ يوحنا الدمشقي(55 122 ه675 740 م) مستشارا له.. وقد اختار رجلا معلما مشهورا اسمه( أطانا سيوسي) لكي يؤدب أخاه عبدالعزيز.. ولما صار عبدالعزيز بن مروان حاكما لمصر أخذ( أطانا سيوسي) معه كمستشار له.. ونجد أن الأخطل(19 90 ه640 708 م) كان من الشعراء المسيحيين المشهورين, واندمج في مجموعة متلازمة مع( جرير)(28 110 ه640 728 م) و(الفرزدق)(110 ه728 م) واشتهرت هذه المجموعة في العصر الأموي.. وكان الأخطل المسيحي حينما يدخل إلي مساجد المسلمين يقوم المسلمون له إجلالا لعلمه وأدبه كما يروي التاريخ الإسلامي. كذلك يشهد البابا شنودة للخليفة الأموي هشام بن عبدالملك(71 125 ه690 743 م) فيقول: إنه ابتني للبطريرك في أيامه بيتا إلي جوار قصره, وكان يستمع منه إلي صلواته وعظاته.. ويشهد البابا شنودة لعدل الإسلام في العصر العباسي, فيقول عن الخليفة أبوجعفر المنصور(136 158 ه753 774 م): إن طبيبه الخاص كان مسيحيا اسمه جرجس بن بختيشوع.. وكان الخليفة هارون الرشيد(149 193 ه766 809 م) يقول للناس: من كان منكم له حاجة عندي فليكلم فيها جبرائيل, لأني لا أرد له طلبا.. وكان يوحنا مشهورا من أيام الرشيد إلي أيام المتوكل(206 247 ه821 861 م).. وكان هؤلاء الخلفاء يدعونه إلي موائدهم, وما يأكلون شيئا إلا في حضرته.. وكان حنين بن إسحق(192 259 ه808 873 م) من أشهر الأطباء في العصر الإسلامي, حتي قيل عنه إنه أبوقراط عصره وجالينوس دهره.. وحنين بن اسحق هذا تعلم كذلك اللغة والفقه علي يد الإمام أحمد بن حنبل(164 241 ه780 855 م) وعلي يد سيبويه(148 180 ه765 796 م) ونبغ في اللغة العربية نبوغا عظيما. وفي شهادة البابا شنودة لعدل الإسلام والتاريخ الإسلامي مع غير المسلمين حيث امتزجوا أمة واحدة, وثقافة واحدة, عرج الرجل علي التاريخ المصري والعدل الإسلامي مع الأقباط.. فتحدث عن انتشار اللغة العربية في مصر, التي تعلمها وأتقنها أقباط مصر, فكانت هذه اللغة مجالا كبيرا للتوحيد بين الناس. وتحدث عن أحمد بن طولون(220 270 ه835 884 م) الذي كان من المحبين للأقباط كثيرا, وقد اختار مسيحيا لكي يبني له مسجده.. واختار مسيحيا لكي يبني القناطر وكثيرا من منشآته.. وكان يذهب كثيرا لزيارة دير القصير, وكان علي صلة وثيقة برهبانه هناك.. فلقد كانت الأديرة المصرية دائما مجالا لالتقاء الخلفاء والولاة, وكانوا يحبونها, ويقضون فيها الكثير من الوقت, ويصادقون رهبانها وأساقفتها. وتحدث البابا شنودة عن عدل الإسلام مع أقباط مصر في ظل الدولة الإخشيدية والدولة الفاطمية.. فمحمد بن طنج الإخشيد(268 334 ه882 946 م) كان يبني الكنائس بنفسه, ويتولي ترميمها.. وكنيسة أبي سرجة في مصر القديمة اهتم ببنائها الخلفاء المسلمون.. وكنيسة أبي سيفين.. القديس مارقريوس بمصر القديمة تولي الاهتمام بها الخليفة الفاطمي العزيز بالله(365 386 ه975 996 م).. ولا أستطيع أن اذكر مقدار اهتمام الخلفاء الفاطميين بالكنائس وبنائها وترميمها.. وإنما أترك ذلك لعالمين كبيرين من علماء الإسلام, هما المقريزي(766 845 ه1365 1441 م) في( الخطط) والمسعودي(346 ه957 م) في( مروج الذهب).. كما تولي الخلفاء والحكام إقامة الوحدة الوطنية ورعايتها. هكذا شهد الحبر الكبير البابا شنودة لعدل القرآن الكريم مع النصاري.. ولعدل التاريخ الإسلامي مع المسيحيين, منذ عمر بن الخطاب.. وكيف أن عدل عمر لم ينقض بموته, وإنما استمر عبر التاريخ الإسلامي.. وبعبارة البابا شنودة: فإن الخير الذي عمله عمر لم يمت بموته إطلاقا, ولايزال حيا الآن يملأ الآذان ويملأ الأذهان, ويحيا مع الناس علي مدي الأزمان. إنها شهادة بل وثيقة تحتاج إلي أن تقرأ مرات ومرات.. لتتحول إلي دعامة للتماذج الوطني, وإلي سلاح نصد به كيد الأعداء وجهالات الغوغاء. المزيد من مقالات د. محمد عمارة