هل تتذكر عزيزى القارئ اسم الذى قدم بلاغاً ضد طه حسين وكفّره بسبب كتابه «فى الشعر الجاهلى»؟ بالطبع لن تذكره ولن يذكره التاريخ وسيظل طه حسين خالداً إلى الأبد. هل يذكر أحد حتى من متخصصى الشعر والنقد أسماء من كفّروا المعرى واتهموه بالزندقة؟ بالطبع لا؛ ذلك لأن التاريخ لا يذكر الأقزام وتسقط من ذاكرته أنصاف المواهب وكل المتسلقين على أكتاف العظماء، ولكن ما سيذكره التاريخ باستنكار وتأفف هو أننا فى ثورة الربيع العربى سمحنا بقطع رأس طه حسين فى مسقط رأسه بالمنيا ورأس أبى العلاء المعرى فى مسقط رأسه بمعرة النعمان فى سوريا! إنها ليست مجرد رؤوس تماثيل ولكنها مقدمة لاجتثاث رؤوس تسكنها عقول ونحن نعرف مدى كراهيتهم للعقل فهو الذى يفضح كذبهم وتجارتهم الدموية، العقل هو عدوهم المزمن الذى باغتياله سيصير الربيع العربى خريفاً مقيماً ذابل الأوراق يعادى الشمس والنور والحرية. ليست مصادفة أن تقطع رأسا تمثالى طه حسين والمعرى فى التوقيت نفسه، وليست مصادفة أن تكون رسالة الدكتوراه الأولى لطه حسين عن أبى العلاء، ووقتها طلب عضو من الجمعية التشريعية قطع المعونة عن الجامعة لأنها خرّجت ملحداً يحضر دكتوراه عن ملحد مثله، فهدده الخديوى بأنه إن لم يسحب الشكوى سيمنع المعونة عن الأزهر لأن طه خريج الأزهر أيضاً! ليست مصادفة أن تجمعهما أشياء كثيرة مشتركة فكلاهما أصابه العمى فى الطفولة بعد الجدرى وبعد الرمد، كلاهما سافر طلباً للمعرفة، الأول إلى أنطاكية وحلب واللاذقية وبغداد والثانى إلى مونبيلييه وباريس، كلاهما كان متيماً وعاشقاً للمتنبى، كلاهما اتهم بالكفر، الأول بسبب «رسالة الغفران» والثانى بسبب «الشعر الجاهلى»، وكلاهما تبنى نظرية الشك وطبقها على الشعر الجاهلى... إلخ، صفات مشتركة كثيرة قادتهما فى النهاية لنفس المصير المشترك بقطع الرأس المتخيلة بمعاول كارهى العقل بعد فشل قطع واغتيال أفكارهما الثورية واقتلاعها من رؤوس القابضين على جمر العقل. المعرى هو الذى قال فى العقل «أيها الغرّ إنْ خُصِصْتَ بعقلٍ فاتّبعْهُ، فكلّ عقلٍ نبى»، وقال «يرتجى الناسُ أن يقومَ إمامٌ ناطقٌ فى الكتيبة الخرساء.. كذب الظنّ لا إمام سوى العقل مشيراً فى صبحه والمساء، فإذا ما أطعته جلب الرحمة عند المسير والإرساء.. إنما هذه المذاهب أسباب لجذب الدنيا إلى الرؤساء»، وطه حسين هو الذى دافع عن الشيخ بخيت عندما حاكمه الأزهر على فتوى إفطار رمضان لمن شعر بمشقة مطالباً بحق الحرية وحق الخطأ وعدم محاكمة إنسان على رأيه مهما كان هذا الرأى. كيف يموت المعرى وطه حسين وقد خلدهما الشعر؟ الأول بقصيدة شاعر العراق الجواهرى والثانى بقصيدة شاعر سوريا نزار، قال الجواهرى عن المعرى: «قِفْ بِالْمَعَرَّةِ وَامْسَحْ خَدَّهَا التَّرِبَا وَاسْتَوْحِ مَنْ طَوَّقَ الدّنْيَا بِمَا وَهَبَا وَاسْتَوْحِ مَنْ طَبَّبَ الدّنْيَا بِحِكْمَتِهِ وَمَنْ عَلَى جُرْحِهَا مِنْ رُوحِهِ سَكَبَا وَسَائِلِ الحُفْرَةَ الْمَرْمُوقَ جَانِبهُا هَلْ تَبْتَغِى مَطْمَعاً أَوْ تَرْتَجِى طَلَبا؟ يَا بُرْجَ مَفْخَرَةِ الأَجْدَاثِ لا تَهِنِى إنْ لَمْ تَكُونِى لأَبْرَاجِ السَّمَا قُطُبَا فَكُلّ نَجمٍ تَمَنَى فِى قَرَارَتِهِ لَوْ أنَّهُ بِشُعَاعٍ مِنكِ قَدْ جُذِبَا». وقال نزار قبانى عن طه حسين: ضوءُ عينَيْكَ.. أم حوارُ المَرايا أم هُما طائِرانِ يحترِقانِ؟ هل عيونُ الأديبِ نهرُ لهيبٍ أم عيونُ الأديبِ نَهرُ أغانى؟ آهِ يا سيّدى الذى جعلَ اللّيلَ نهاراً.. والأرضَ كالمهرجانِ.. اِرمِ نظّارَتَيْكَ كى أتملّى كيف تبكى شواطئُ المرجانِ اِرمِ نظّارَتَيْكَ.. . ما أنتَ أعمى إنّما نحنُ جوقةُ العميانِ أيّها الأزْهَرِىّ.. . يا سارقَ النّارِ ويا كاسراً حدودَ الثوانى عُدْ إلينا.. فإنَّ عصرَكَ عصرٌ ذهبىٌّ.. ونحنُ عصرٌ ثانى سَقَطَ الفِكرُ فى النفاقِ السياسىِّ وصارَ الأديبُ كالبَهْلَوَانِ يتعاطى التبخيرَ.. يحترفُ الرقصَ ويدعو بالنّصرِ للسّلطانِ.. عُدْ إلينا.. فإنَّ ما يُكتَبُ اليومَ صغيرُ الرؤى.. صغيرُ المعانى