يقول الشاعر العباسي أبو فراس الحمداني في قصيدته: "أراك عصي الدمع": "سيذكرني قومي إذا جد جدُّهم/ وفي الليلة الظلماءِ يفتقد البدرُ"، وهو بيت بلغ حد الحكمة، والأقوال المأثورة، ومن وحي هذا البيت، تذكرت الشاعر العباسي، أبا العلاء المعري، في هذه الليالي الحالكة التي نعيشها نحن المصريين، والمعري لم يكن شاعراً فحسب، بل حكيماً وفيلسوفاً، فتن به الكثيرون، فكتبوا عنه، ومن بين ما قرأت مما كُتب عنه؛ كتاب العقاد: "رجعة أبي العلاء"، وهو كتاب استوحاه العقاد من خبر قرأه في الصحف، آنذاك، عن أن الحكومة السورية ستعمل تابوتاً في معرة النعمان، مسقط رأس الشاعر، وتبني له مزاراً، ليقصده الناس، فتخيل العقاد أن أصحاب الشأن انتدبوه، أي انتدبوا العقاد، ليذهب إليه في لحده، وينبئه بالخبر، ويطلب منه أن يقوم من مرقده، ليري مدي التغيير الذي طرأ علي الدنيا، بعد مرور ألف عام علي وفاته، ويستأذنه أن يكون في صحبته، ويطوف به الكرة الأرضية، وهي فكرة استوحاها العقاد من كتاب أبي العلاء الشهير: "رسالة الغفران"، التي تخيل فيها نفسه وقد بعث من مرقده، وزار الجنة، وطاف بأرجائها، فقابل هناك شعراء الجاهلية، وبعض الشخصيات التي أحب أن يقابلها، كالمتنبي وعمر الخيام وغيرهما، وقد استوحاها منه أيضاً الشاعر الإيطالي دانتي أليجري، في عمله الرائع: "الكوميديا الإلهية"، الكتاب قائم علي حوارات بين العقاد، وهو القائم بدور رسول القوم إلي المعري، وتلميذه ومريده، وبين شيخنا الأستاذ، وهو أبو العلاء، وبالطبع، لم يختلق العقاد كلامه، بل هي مقتطفات من أقواله وأشعاره، التي تركها لنا قبل وفاته، مما شد انتباهي في هذه السياحة الفكرية، آراء أبي العلاء العصرية، في بعض الأمور الاجتماعية والسياسية والدينية، وأصول الحكم، والتي تنم عن عبقرية فذة. رجعة أبي العلاء صدر كتاب "رجعة أبي العلاء" لعباس محمود العقاد، سنة 1967، عن دار الكتاب العربي ببيروت، وقد قال العقاد في مقدمته: "فخطر لنا أن أبا العلاء قد دُعي من حظيرة الخلود، إلي شهود ذكراه، وأن الأمد لايزال فسيحاً بيننا، وبين ذلك اليوم المشهود، ففي ذلك الأمد، متسع لرحلة عائلية حول الكرة الأرضية، يري فيها ما يعنينا أن يراه، ويقول فيها ما ينبغي أن يقول، أو نتولي نحن، عن لسانه، ما يشبه مقاله في أوانه، قياساً علي ما صنع في السماء، حين حدثنا في "رسالة الغفران"، بلسان الأدباء والشعراء، وجعل لهم من كلامهم وأخبارهم دليلاً له في كلامه وأخباره، فكتبنا، يومئذ، سلسلة هذه الفصول، التي سميناها: "رجعة أبي العلاء"، وعرضنا فيها حوادث الدنيا، كما تتمثل له، ولمن ينظرون إلي أمور العصر الحاضر، مثل نظرته في سائر الأمور، ونحسب أننا أتينا بصفوة الآراء التي توافقه، وتُستخلص من جملة تفكيره، ما لم يكن قد تغير نظره بعد موته، وهو مستحيل!". ويؤكد العقاد أن ردود الشيخ كلها من أقواله المحفوظة، فيما عرض له من خطوب في زمنه، وهو لم ينحل عنه رأياً ينكره، ويظن أن الشيخ لو عاد مرة أخري في هذا الزمان لن يغير فكره، وسيظل علي مبادئه، فيقول: "ونحسب كذلك أننا لم ننحله رأياً ينكره، لو أنه عاد إلي هذه الحياة الدنيا، في زماننا هذا، لأننا شفعنا آراءه الحاضرة، بأقواله المحفوظة، فيما عرض له من خطوب زمانه، فتشابهت الأقوال، وتقاربت الأحكام"، ويتخيل العقاد أن أبا العلاء ينكر عليهم بناء تابوت له، وهو القائل: "إن التوابيت أجداث مكررة/فجنّب القومَ سجناً في التوابيت"، وعندما يخبرونه أنهم بذلك يكرمونه لمنزلته، فيجيب: "لا تكرموا جسدي إذا ما حلّ بي/ريبُ المنون فلا فضيلة للجسد"، ويركب الشيخ مع مريده بساط الريح، وتبدأ الرحلة، فيختار أن يعود لوطنه في المعرة أولاً، ويسترجع قوله: "وماء بلادي كان أنجحَ مشربا/ولو أن ماءَ الكرخ صهباءُ جريالُ.. فيا وطني إن فاتني بك سابق/من الدهر فلينعم لساكنك البال"، والصهباء هي الخمر الصافية، والكرخ بلد في بلاد فارس، وحريال من أجرت البئر صارت جروراً أي بعيدة القعر وذلك دليل علي عذوبة مائها، وعندما يتعجب التلميذ من أنه يحمل كل هذا الحب للمعرة، وهو الذي عاف الدنيا بأسرها في حياته، فيرد عليه الشيخ قائلاً: "ما أكثر عجب الناس مما لا عجب فيه! إنما يحب الوطن الصغير من يعاف الوطن الكبير، ومن كَره الدنيا، كُره المتقلِّب فيها، وكَره السعي وراءها في نواحيها.. فإلي أي منقلب يصير غير المكان الذي لا غناء فيه يتجشمه، ولا جديد فيه يفاجئه بما يسوءه، ولايزال فيه قريباً من عهد صباه قبل أن يذوق مرارة العيش وىُمتحن ببلواه"، ومن بين البلاد التي زارها الشيخ مع تلميذه، بلاد تُحكم بالسيف، وسماها "الحكومات العسكرية"، كما تحدث مع المستشرقين، وسمع آراءً عن المرأة ومكانتها، فأقر بضرورة تعليمها وخروجها للعمل، بل للحرب، وهو رأي قاله أفلاطون، من قبل، وقد أيده المعري، ثم زار بلاد الغرب، أو الجرمان، وبلاد الشيوعية، وبلاد الشمال، ويقصد بها غرب أوروبا، المليئة بالمخترعين العظماء، مثل النرويج والسويد وغيرهما، كما زار بلاد الإنجليز، وبلاد الأندلس، وإيطاليا، بلد دانتي، وبلاد العرب، وما بها من شعر وأدب، ثم اتجه لأقصي المغرب، وأقصي المشرق، وأنهي المطاف بمصر. الحكومات والشيوعية ومن بين الأماكن التي أرهقته، وطلب من تلميذه ألا يذهبا إليها ثانية، بلاد الحكومات العسكرية، وبلاد الشيوعية، فقال لتلميذه: "ألعلك ذاهب بنا إلي معشر الناس، كأولئك الذين كنا بينهم؟ إن كان ذاك، فعد بنا إلي المعرة، واختصر بنا مسافة هذه السياحة، فلا طاقة لي بسخافة قوم آخرين، كأولئك الذين فارقناهم في بلاد الشيوعيين، ولا بسخافة قوم، كأولئك الذين فارقناهم في بلاد الطغاة العسكريين"، فلماذا كره المعري هذين المكانين؟ فأما بلاد الشيوعية، فهو يري أن تلك العقائد، إنما هي مصالح الطبقة الحاكمة، تصوغها علي هواها، لتدعم سلطانها، والغلبة علي من دونها، وقال في بيت له: "إنما المذاهب أسبا/ب لجلب الدنيا إلي الرؤساء"، فهو يرفض فكرة أن يأتي زمان، ينقطع فيه الفقر، ويبطل فيه الغني، وتؤول السيادة إلي العاملين المستضعفين، علي سنّة التساوي، وشرعة المزاملة، ثم قال: "يقال أن سوف يأتي بعد عصرنا/يرضي، فتضبط أُسدَ الغابة الخطم..هيهات هيهات.هذا منطق كذب/في كل صقر زمان كائن قطمُ..مادام في الفلَك المريخ أو زحل/فلا يزال عباب الشر يلتطم"، والخطم جمع خطام، وهو ما يوضع في أنف البعير ليقاد به، والقطم اشتهاء اللحم. أما عن بلاد الطغاة العسكريين، فسوف أنقل مقتطفات من النص، كما ورد في كتاب العقاد، لكن قبل نقل النص، أري أنه من الواجب التعريف بالمعري لمن لا يعرفه: هو أبو أحمد بن عبد الله بن سليمان القضاعي التنوخي المعري (363-449ه)، (973-1057م)، شاعر وفيلسوف وأديب عربي، من العصر العباسي، ولد في معرة النعمان، شمال سوريا، لقب برهين المحبسين، ويقصد بهما: محبس العمي، ومحبس الوراثة، اشتهر بآرائه وفلسفته المثيرة للجدل، هاجم الأديان، فقد بصره نتيجة لمرضه بالجدري، قال الشعر وهو في الثانية عشرة تقريباً، ذهب للدراسة في حلب وانطاكية، وغيرها من المدن السورية، وتتلمذ علي يد مجموعة من القضاة والفقهاء والشعراء، سافر إلي بغداد، ثم عاد لموطنه، فاعتزل الدنيا، وجمع عدداً كبيراً من التلاميذ، يستمعون لمحاضراته عن الشعر والفلسفة والنحو، كان يعلي من شأن العقل، ضد ادعاءات العادات والتقاليد والسلطة، لازم بيته، معتزلاً راهباً في الدنيا، معرضاً عن لذاتها، لا يأكل لحم الحيوان، حتي قيل إنه ظل لا يأكل اللحم طيلة خمس وأربعين سنة، وما ينتجه من سمن ولبن وبيض وعسل، لا يلبس من النبات، إلا الخشن، يؤمن بالربوبية، ولكنه يري أن الأديان خرافة، ابتدعها القدماء، وأولئك الذين يستغلون السذج من الجماهير. درس علي يد أبي العلاء كثير من طلاب العلم، ممن علا شأنهم في العلم والأدب، منهم: أبو القاسم علي بن الحسين التنوخي، وأبو الخطاب العلاء بن حزم الأندلسي، وأبو الطاهر محمد بن أبي الأصفر الأنباري، وأبو زكريا يحيي بن الخطيب التبريزي، ثم ظهرت دراسات عنه، بعد موته، أشهرها: "مع أبي العلاء المعري"، لطه حسين، و"رجعة أبي العلاء" للعقاد، وغيرهما. يحذر من بلاد العسكر والآن، هذه مقتطفات من فصل زيارة الشيخ لبلاد "حكم السيف"، وهو يحمل العنوان نفسه، ونظراً لعدم اتساع المقام للنص بأكمله، سأكتفي بأهم ما جاء فيه، يقول: "قصاري ما يملك المرء في هذه الدنيا، عمر واحد، يعلم فيه كل ما قدر له من العلم، ويعمل فيه كل ما وسعه العمل، ويختبر فيه اختباره، ويستوفي منه أحواله وأطواره، فإذا قضاه، فتلك حصته من الزمن، لا حصة له بعدها، ولا نصيب له من أعمار الدنيا وراءها، قال الرسول: والشهرة يا أستاذ، أليست هي عمراً متجدداً، وحصة مزدادة؟ قال أبو العلاء: كلا يا بني، الشهرة استطالة لعمر الشهير، فيها تكرار له وليس فيها تجديد لشيء منه، قال الرسول: إذن يا مولاي أنا أعلم رأيك في الحكومات العسكرية التي تركنا بلادها، أو هذه الأمم التي يجرون علي وتيرة لا يشذون عنها، ونظام لا يهاودون فيه، فأصغي أبو العلاء طويلاً، ثم قال: "ومن شر البرية رُبّ مُلكٍ/يريد رعية أن يسجدوا له!"، وهؤلاء الحاكمون يقولون إنهم معصومون، وإنهم لا ىُحاسبون، وإنهم أرباب ىُدان لها بطاعة الساجدين الراكعين، فقال الرسول: إن هؤلاء القوم لا يخضعون علي كره منهم، ولكنهم يخضعون لأنهم يؤمنون إيمان الحاكمين، ويفكرون تفكيرهم..قال أبو العلاء: "وما أعجبتني لابن آدم شيمة/علي كل حال من مسود وسائد"، ذلك أدهي وأمر، وليتهم فكروا وخالفوا وخضعوا مرغمين، فذلك أكرم لعقل الإنسان، وأدني إلي الرجاء في الخلاص.