لم يحر الناس في معرفة آراء حكيم من الحكماء مثلما حاروا في اثنين أولهما: أبو العلاء المعري، وثانيهما: عمر الخيام. فأبو العلاء المعري: هو أحمد بن عبدالله بن سليمان المعري، نسبة إلي «معرة النعمان»، وهي قرية بالشام بين حلب وحمص، ولد شاعرنا الكبير في معرة النعمان عام 363ه - 979م. والشاعر الفارسي عمر الخيام، هو عمر بن إبراهيم الخيام النيسابوري أبو الفتح، فيلسوف فارسي، مستعرب، من أهل نيسابور، ولد عام 433ه - 1040 ميلادية، وتوفي عام 517ه- 1122م. بلغت شهرة الخيام ذروتها بمقطوعاته الشعرية «الرباعيات» التي نظمها شعرًا بالفارسية، وترجمت إلي العربية واللاتينية والفرنسية والإنجليزية والألمانية والإيطالية والدانمركية، وغيرها.. تلقي الخيام دراسته في نيسابور «عاصمة إيران» في ذلك الوقت، نبغ في العلوم الإلهية، والفلسفة، والمنطق، والطبيعة، والطب، وتوفر علي دراسة الرياضيات، وأخصها الجبر... ورغم كل ذلك، ف «الخيام» لا يعيش إلا في رباعياته التي هي مقاطع الشعر، والتي لا يستطيع الإنسان أن يعرف تاريخ نظم كل منها. أما شاعرنا العربي «أبو العلاء المعري»، فقد ورد في دائرة المعارف الإسلامية، أنه ينحدر إلي أسرة عربية من قبيلة «تنوخ»، وفي تجديد ذكري «أبي العلاء» يقول عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين، إن «أبا العلاء» من «قضاعة»، وقد ولي جده القضاء، ويظهر أن أباه كان علي شيء من العلم... أصيب «أبو العلاء» وهو في الرابعة من عمره بالجدري، ففقد بصره. وإذا كان الأدب الإنجليزي يقدم لنا «وليم شكسبير» في عالم الأدب، وفي الأدب الروسي «مكسيم جوركي»، والأدب اليوناني «أبيقور»، فمن حق الأدب العربي أن يفخر ب «أبي العلاء المعري»، ذلك الشاعر الفيلسوف، رفيع الشعر، عميق الفلسفة، رؤاه صادقة في أمور الحياة والناس، أديب وعي من الأدب ما لا نعرف أن أحدًا من أدباء العرب وعي مثله، ويكفينا مقولة عميد الأدب العربي عنه- الدكتور «طه حسين».. «إنه صاحب خيال نفاذ، يصعد إلي أرقي ما يستطيع الخيال أن يبلغ، وينفذ إلي أعمق ما يستطيع الخيال أن ينفذ». عاش «أبو العلاء» أول شبابه، في عصر مضطرب في الشام، حيث كان يحكمها «بنوحمدان»، وكان هؤلاء مهددين بغزوات الروم من الشمال، والفاطميين من الجنوب، ومع ذلك فإن أبا العلاء قد أصاب شهرته منذ صدر شبابه، فقد تلقي دراساته في: حلب، وطرابلس، وأنطاكية علي تلاميذ ابن خالوية النحوي، ثم عاد إلي المعرة، وظل فيها حتي سنة 401ه، ثم ذهب إلي بغداد، ورجع بعد عام وسبعة أشهر إلي المعرة مرة أخري، وذلك لمرض أمه، وحاجته إلي المال.. وما كاد يصل المعرة حتي بلغه نعي أمه، فحزن عليها حزنًا شديدًا، وندم علي عودته من بغداد، وعاش في كهف لا يقابل أحدًا، وسمي رهين المحبسين: «محبس الدار، ومحبس الظلمة».. أما هو فقد سمي نفسه رهين سجون ثلاثة، حيث قال: أراني في الثلاثة من سجوني.. فلا تسأل عن الخبر النبيث لفقد ناظري، ولزوم بيتي.. وكون النفس في الجسم الخبيث وكذلك عاش عمر الخيام بعد أن ناصبته طائفة كبيرة من المتصوفة العداء، وهددوه بالقتل، فهرب من وجوههم، ولزم الصمت عهدًا طويلاً، وأقفل بابه في وجوه زواره، وأضمر سره، لا يظهره للناس. وأما مشابهة عمر الخيام لأبي العلاء، فمما لا شبهة فيه، فإن أفكار الشاعرين الحكيمين واعتقاداتهما متماثلة، فلا عجب أن نقول بأن الشاعر الخيام تتبع أسفار أبي العلاء الذي سبقه إلي عالم الخلود بستين أو سبعين سنة، ولم يستطع أن يفلت من تأثيرها فيه. اختلاف ورغم تشابههما في كثير من المسائل الفلسفية، والاعتقادية، إلا أنهما يختلفان في بعض وجهات النظر... نظرهما... حتي يخيل أنهما شخصيتان متباينتان، وقد يرجع ذلك إلي اختلاف مزاجيهما الذي أثر في نظرتهما إلي الدنيا وإلي حل قضية الحياة، وتعيين دستور العمل من أجلها، فكان من جراء ذلك أن وقعا في نتائج عملية متباينة كل التباين، فقد كان أبو العلاء وقورًا في تفكيره، جديًا، صحيح النظر في رؤاه، ولذلك أتي شعره وقورًا فلسفيًا، علي أسلوب متين موجز بليغ. وعاش أبو العلاء ما عاش، زاهدًا متقشفًا، بعيدًا عن الملذات والشهوات، فكان ينظر دائمًا إلي لذات الدنيا نظر ازدراء، ويحض بأقواله الفلسفية الأخلاقية علي العيش في ظلال القناعة والزهد.. عفيف النفس والخلق والرأي والعقل جميعًا. أما الشاعر عمر الخيام، فهو من هواة الانهماك باللذات والمفتونين بالجمال، ومن الذين يعرفون كيف يستمتعون بمتع الحياة ولذاتها، فرباعياته تحض علي ما تقتضيه هذه الأيام القليلة من العمر في اللذات والنيل من حظوظ الدنيا... ومن أروع ما كتب في هذا المعني قوله: «إن احتساء الخمرة والفرح من عادتي، وديني ترك الكفر اوالدين، قلت لعروس الدهر: ما مهرك؟ قالت: قلبك الفرح هو مهري!!». التشاؤم ولقد سيطر التشاؤم علي حياة الشاعرين، وإن اختلفت درجة ومعني التشاؤم بينهما، فقد كان التشاؤم عند عمر الخيام نتيجة اعتقادية لفلسفته التي تجره حتمًا إليه، لأنها تميت الأمل، وتدخل علي القلب اليأس، ومن كان يعتقد أن لا فائدة من أعماله، وأن لا ثواب ولا عقاب عليها في عالم غير هذا العالم، فلا مندوحة له عن الاستسلام إلي الطيرة والارتماء في أحضان التشاؤم.... والذي لا يؤمن بالبعث تكتنف ظلمات القنوط نفسه، وتستولي عليها، ويجره تأثره إلي التشاؤم... فالتشاؤم بهذا الاعتبار ليس تشاؤمًا غريزيًا أو تشاؤمًا فطريًا، وإنما هو تشاؤم عارض، يتسلط علي الذهن، وخاصة الذهن المفكر، فيتطير من كل شيء، ولا يدري من جميع ما يراه إلا صفحة الشر... وفكرة التشاؤم هذه ساقت «الخيام» إلي «العدمية»، كما تنطق بذلك رباعياته، والتشاؤم من فلسفة «الخيام» النظرية، أما فلسفته العلمية فإنها فلسفة سعادة وهناءة، وفلسفة شهوات ولذات. أما تشاؤم شاعرنا «أبي العلاء المعري» لم يكن كتشاؤم «الخيام» نظريًا وعلميًا، بل كان تشاؤمًا حقيقيًا قاهرًا مظلمًا، فقد كان «أبو العلاء» سييء الظن بنفسه، سييء الظن برأيه، سييء الظن بالناس، محبًا لهم، ورفيقًا بهم، ينصحهم ما وجد إلي نصحهم سبيلا، يلين لهم حينًا، ويعنف بهم أحيانًا، وهذه آية الفطنة، وذكاء القلب، والعمق لحقائق الأشياء. لقد كان أبو العلاء يحب أن يقدم علي الخير، لأنه الخير، وأن يحجم عن الشر، لأنه الشر، كما لم يكن يكره شيئًا، كما كان يكره انتظار الجزاء.. فسار سيرة نقية، لم يسرها أحد من المسلمين، فارتفع عن الصغائر إلي أقصي ما يستطيع أن يرتفع، وتنزه عن الشر والإثم كأحسن ما يستطيع الإنسان أن يتنزه عنهما. الزندقة ولقد حدث جدل كبير حول عقيدة كل من الشاعرين، فذكر البعض أن «أبا العلاء» كان زنديقًا، معتمدًا علي ما ورد في بعض أشعاره، كقوله: ولا تحسب مقال الرسل حقًا.. ولكن قول زور سطروه وكان الناس في عيش رغيد.. فجاءوا بالمحال فكدروه وقوله أيضًا: إن الشرائع ألقت بيننا إحنا/وأورثتنا أفانين العداوات/وهل أبيحت نساء الروم عن عرض للعرب إلا بأحكام النبوات وقوله أيضًا في بيتين أوردهما «ياقوت» في معجم الأدباء عند كلامه عن «اللاذقية»: في اللاذقية فتنة.. ما بين أحمد والمسيح /قس يعالج دلبة.. والشيخ من حنق يصيح (الدلبة: شجرة مفرطة الورق واسعته، شبيهة بورق الكرم)... وبعد هذين البيتين السابقين، تبعهما بيت ثالث، لم يذكره «ياقوت: كل يعزز دينه.. ياليت شعري، ما الصحيح؟! ولكن أشعاره في مواضع أخري، تنم عن توحيد ويقين، قال: والعقل زين، ولكن فوقه قدر/ فما له في ابتغاء الرزق تأثير/ إذا كنت بالله المهيمن واثقًا/فسلم إليه الأمر في اللفظ واللحظ/انفرد الله بسلطانه.. فما له في كل حال كفاء/ما خفيت قدرته عنكم.. وهل لها عن ذي رشاد خفاء وقد أجمل بعضهم آراء «أبي العلاء» بقولهم: «إنه كان متشككًا، وكان يؤمن بالتوحيد، وإلهه قدر غير مشخص، وأنه أنكر الوحي الإلهي، فالدين عنده من صنع العقل الإنساني، وكان يفضل الورع والتقوي علي الصوم والصلاة. وكذلك «الخيام»، منهم من عده مستهترًا، يهزأ من الأديان، ولا يعتقد بالبعث، ومنهم من أنزله منزلة الصالحين، وعده طاهر الذيل، راسخ اليقين... علي أن«الخيام» كان جبريًا، يعتقد أن الإنسان تسيره قوة خفية لا يملك دفعها، ولا تدع له فرصة الاختيار بين النافع والضار ورغم ما أظهر في رباعياته من الشك في أمر الحياة والموت، فهو موحد يؤمن بوجود خالق خلق الخلق، إله واحد هيمن علي الكون، مؤد فريضة الحج، مواظب علي الصلاة. إن كثيرًا من معاني عمر الخيام الفارسي في رباعياته الشهيرة، مأخوذة عن الشاعر العربي «أبي العلاء المعري»، وعلي سبيل المثال، لا الحصر، نذكر ما يلي: قال المعري: تمنيت أن الخمر حلت لنشوة/ تجهلني، كيف استقرت بي الحال/ أيأتي نبي يجعل الخمر حلة/فتحمل شيئًا من همومي وأحزاني أخذ الخيام هذا المعني، فقال ما تعريبه: ربي افتح لي باب رزق وأرسل/لي قوتي من دون منّْ الأنام/وأدم نشوة الطلا لي حتي تذهلني ما عشت عن آلامي وقال المعري: أرواحنا معنا، وليس لنا بها /علم، فكيف إذا احتوتها الأقبر أخذه الخيام، قال: سر الحياة لو أنه يبدو لنا/لبدا لنا سر الممات المبهم/لم تعلمن وأنت حي سرها/فغدا إذا ما مت، ماذا تعلم؟! قال المعري: يموت المرء ليس له صفي / وقبل اليوم عز الأصفياء وقال الخيام: اختر بدهرك قلّة الرفقاء/واصحب بنيه وأنت عنهم ناء/فمن اعتمدت عليه إن تنظره في/عين البصيرة أعظم الأعداء. قال المعري: فهل قام من جدث ميت/فيخبر عن مسمع أو مرا وقال الخيام: ما شهد النار والجنان فتي/أي امريء من هناك قد جاء/لم نر مما نرجو ونحذره/إلا صفات تحكي وأسماء قال أبو العلاء المعري: صاح، هذه قبورنا تملأ الرحب/فأين القبور من عهد عاد/ ودفين علي بقايا دفين/ضاحك من كثرة الأضداد/خفف الوطء ما أظن أديم/الأرض إلا من هذه الأجساد ويقول عمر الخيام فيما تعريبه حول هذا المعني: أري أحداثنا تبني بلبن.. غدا يا صاح إن نرد المنونا/ويصنع من ثرانا بعد لبن.. به تبني قبور الآخرينا.. وقول الخيام أيضًا: إن هذي الكأس الظريفة صنعًا/كسرت ثم ألقيت في الدريق لا تطؤها ويك احتقارًا فقدما/صنعوها من كأس رأس سحيق وقال أبو العلاء المعري: وزهدني في الخلق معرفتي بهم/وعلمي بأن العالمين هباء/وأرواحنا كالراح إن طال حبسها/ فلا بد يومًا أن يكون سباء أخذه الخيال فقال: دع عنك حرص الوجود واهنأ/إن أحسن الدهر أو أساء/واعبث بشعر الحبيب واشرب فالعمر يمضي غدا في هباء رحم الله الشاعرين، وتجاوز عما لا يقصدان، وأوسع لهما جناته وأسبغ عليهما رحماته.