المصريون ثاروا على «خورشيد باشا» الوالى العثمانى 1805، أجبروا السلطان على عزله، وتولية «محمد على» قائد الجيش حاكماً، ليقود «نهضة مصر»، بادئاً بتأسيس الجيش.. ألحق أبناء الشعب كضباط، فتشكلت الطبقة الوسطى، التى تصنع الحضارة والتقدم، أنشأ مدارس للضباط والجنود وللأسلحة المتخصصة وأركان الحرب، وللطب والهندسة لخدمة الجيش، البعثات التعليمية لأوروبا ارتبطت بالعلوم العسكرية وبناء السفن والهندسة وصناعات الأسلحة، الجيش بلغ ربع مليون مقاتل وقتما كان تعداد مصر 4 ملايين نسمة، الوحدات البحرية المتطورة بتسليحها الثقيل، والأسطول التجارى، بنتهما ترسانتا الإسكندرية وبولاق، والمدفعية الثقيلة والهاونات والبنادق بذخائرها إنتاج المصانع الحربية، لذلك سحق الجيش التركى فى معركة نصيبين 1839، قبل احتشاد الغرب وفرض معاهدة لندن 1840.. وحتى فى التاريخ القديم، كان الجيش دائماً أداة تحديث وتنمية لمصر. بعد هزيمة 1967 تعرضت مصر لضغوط رجال أعمال الداخل ورأسمالية الخارج.. ما رفضه عبدالناصر إبان النكسة، قبله السادات بعد نصر أكتوبر؛ طبّق الانفتاح الاقتصادى فارتفعت الأسعار وتفاقم الفقر والبطالة، ووقعت اضطرابات يناير 1977، الجيش استقرأ المخاطر، وأنشأ جهاز مشروعات الخدمة الوطنية 1979 «تتبعه 21 شركة»، والهيئة القومية للإنتاج الحربى 1984 «يتبعها 18 مصنعاً»، ووجههما -مع وزارة الإنتاج الحربى «تمتلك 8 مصانع»، والهيئة العربية للتصنيع «تمتلك 11 مصنعاً»- لتحقيق الاكتفاء الذاتى من مأكل ومشرب وملبس وإيواء ودواء، والمساهمة فى توفير السلع والخدمات للشعب بأسعار تنافسية وجودة عالية.. استراتيجية لا تستند لاعتبارات المصلحة الاقتصادية بقدر انطلاقها من اعتبارات الأمن القومى، فرانك ريتشاردونى سفير أمريكا الأسبق «مارس 2008» أشار ل«تحفظات الجيش على خطة الإصلاح الاقتصادى، وتصفية القطاع العام، حرصاً على الاستقرار الاجتماعى».. مشاركة الجماهير فى أحداث يناير 2011، نتيجة معاناتها الاقتصادية، أكدت عمق رؤية الجيش. الإخوان حاولوا قبل انتخابات الرئاسة 2012 استخدام مؤسسات الجيش كأداة للمساومة، بالتعهد بعدم المساس بها مقابل تكليفهم بوزارات الخدمات، لكن المجلس العسكرى رفض، بعد الانتخابات حاولوا السيطرة عليها من خلال هشام جنينة رئيس المحاسبات المُقال، لحرمان الجيش من مصادر تمويله، رغم ذلك ضخ نحو 11 مليار جنيه لدعم موارد الدولة، وحاول تخفيف الأزمات التى اصطنعوها للضغط على الشعب، لتقبل الإجراءات الاستثنائية «أزمتا الوقود وأنابيب الغاز..»، اعتماداً على مؤسساته الاقتصادية.. التقرير الاستراتيجى الصادر عن «جلوبال فاير باور 2016»، إحدى أبرز المؤسسات البحثية الأمريكية المتخصصة يعكس مؤشرات بالغة الدلالة؛ ميزانية مصر العسكرية 4.4 مليار دولار ترتيبها 45 بين دول العالم، لكنها فى المرتبة 12 من حيث القوة العسكرية الشاملة، سادس قوة بحرية، ثامن جوية، الثالثة مدرعات، الرابعة راجمات صواريخ، الأولى أفريقياً، الثانية بالشرق الأوسط.. الإدارة الحديثة، النزاهة، الانضباط، التخطيط والمتابعة والتقييم، رشادة الاختيار وحسن اتخاذ القرار، عناصر دفعت الجيش لتحقيق مراتب متقدمة من القوة بقدر متواضع من التمويل، غير أن هذه القوة لن تترجم لواقع على الأرض فى ظل غياب هذه العناصر عن مؤسسات الدولة المدنية، التى أدى انهيارها لتراجعنا ضمن دول العالم الفاشلة من المركز 49/2010، إلى 31/2012، ثم 38/2015!!. قيادة الجيش تشارك فى مكافحة الإرهاب، الذى تحالف مع الجريمة المنظمة -رغم أن تلك مهمة الشرطة- ولولاها لسقط الأمن، وانعدم الأمان، أما إدارة المؤسسات الاقتصادية فهى مستقلة تماماً، حتى لا تمس مهامه الاحترافية، وكفاءته القتالية، الجيش يتصدى للمشاريع التى لا يُقبل عليها القطاع الخاص، لضخامتها أو قلة ربحيتها أو صعوبة بيئة العمل «سيناء..»، الكوادر العسكرية المؤهلة قادت المشاريع القومية الناجحة فى كافة المجالات «السد العالى بصدقى محمود، البعث الثقافى بثروت عكاشة، الإعلام الوطنى بعبدالقادر حاتم، الخارجية والأمن القومى بحافظ إسماعيل..»، وحالياً يتولى الجيش تأهيل وتشغيل مصنع الحديد والصلب، وشركة النصر لصناعة السيارات، ومضاعفة الطاقة الإنتاجية للأسمنت، حماية للصناعات الوطنية الاستراتيجية، وتصدياً لاحتكار المنتجين والمستوردين ومضارباتهم، وينفذ مشروع صوامع القمح توفيراً للفاقد الضخم نتيجة سوء التخزين، ويدعم شبكة الطرق والكبارى والأنفاق، والمستشفيات والمدارس، ومراكز التدريب المهنى.. مؤسسات الجيش اكتسبت ثقة شركات عالمية «جنرال إلكتريك، لوكهيد مارتن، ميتسوبيشى» بمنتجاتها العسكرية والمدنية، رغم ما تفرضه عليها من ضرورة جلب المال من الخارج، وليس من البنوك المحلية، والتنفيذ بخامات وعمالة مصرية، ولا بديل عن مشاركته فى الإصلاح، وإعادة الهيكلة والتحديث، وتطوير آليات العمل، بالمصانع المتوقفة، ومؤسسات الإنتاج والخدمات المدنية، حتى تؤدى دورها، بدلاً من اللجوء إليه، حتى فى مواجهة الأمطار!.. مشاريع الجيش يمكن أن تستوعب آلاف الخريجين ممن «لم يصبهم الدور»، كطاقات «مدنية» منتجة. الإعلام ومراكز البحوث والدراسات الغربية تبالغ فيما يمثله اقتصاد الجيش من الاقتصاد الكلى للدولة، لتضليل الرأى العام، وتعبئة رجال الأعمال ضده، البيانات الرسمية تؤكد أن نسبة المساهمة العامة والحكومية فى الناتج القومى الإجمالى أقل من 20٪، تشمل شركات قطاع الأعمال العام والقطاعات الحكومية المختلفة والقوات المسلحة.. اللواء محمد نصر نائب وزير الدفاع الأسبق للشئون المالية كشف 2012 أن نسبة الأنشطة الاقتصادية للجيش فى ميزانية الدولة 4.2%.. ونجيب ساويرس اعترف لوكالة الأنباء الألمانية بأن «الجيش محرك للسوق، لا مستحوذ عليه، لأنه يستخدم القطاع الخاص فى كافة المشاريع».. فى مشروع ازدواج القناة استعان بأكثر من 70 شركة خاصة، ونفس السياسة يلتزم بها فى مشروعات توليد الكهرباء والإسكان والعاصمة الجديدة. تهمة «العسكرة» قد توجه لنا، ضمن حرب تستهدف تهميش دور الجيش فى الإصلاح والنهضة، وهو ما لا ينبغى أن نخشاه، «العسكرة» بمفهومها الموضوعى استراتيجية تعبوية وتدابير احترازية تلجأ لها الدول فى حالات الطوارئ واختلال الوضع الأمنى أو العدوان الخارجى، وهو ما تتعرض له مصر.. دور الجيوش فى الإدارة والتنمية ليس حكراً علينا، الإمارات العربية -الأكثر حداثة عربياً- أدركت أن التنمية تتطلب تجييش المجتمع، بدأت مطلع القرن تعيين قيادات عسكرية وأمنية لبعض المؤسسات المرتبطة بالتعليم والتنشئة والثقافة، للإسراع فى التنمية وتهيئة الشباب للخدمة الإلزامية.. الكنيست الإسرائيلى قنن الدور السياسى للعسكريين 1973، 10% من كبار الضباط المتقاعدين يترشحون للانتخابات من خلال الأحزاب، وأصبحوا المصدر الرئيسى لشغل المناصب وإدارة مؤسسات الدولة.. الجيش الأمريكى اخترع الإنترنت، وسوَّقها كوسيط لشبكات تواصل المدنيين، وسلاح المهندسين يشارك فى الأنشطة الاقتصادية، داخل أمريكا وخارجها، كإنشاء الموانى والمطارات والقواعد العسكرية، فأين نحن من كل ذلك؟!.