النطعات، مؤنث أنطاع، يمزقن ثياب أستاذاتهن فى رحاب جامعة الأزهر أو على قارعة الطريق، ليصورنهن عاريات بالموبايل، يتصرفن كبلطجية المواخير فى قلعة الكبش قبل ثلاثينيات القرن الماضى، يهشمن أعمدة النور والأبواب الزجاجية، ويحرقن الأشجار والسيارات. جابوا السعرنة دى منين؟ أمام الأنطاع، فيعربدون فى الطرقات، يطلقون الخرطوش أو الرصاص الحى على الشباب اللى مالهوش حد يخافوا منه، ليعيشوا على الدوام فى مآتم ضحاياهم، وقد فهمت منذ فترة طويلة أن العقلية ذات التكوين الإرهابى، لا تعانى من تدهور حاد فى خلايا مراكز الإدراك بالمخ فقط، إنما أيضاً من الانخفاض الكارثى فى هرمونات الذكورة، فضلاً عن تبلد المشاعر ونطاعة القلب، إلى متى سنظل ندعى أننا مش واخدين بالنا؟ إلى متى سنظل نتطوح أو نلف حول أنفسنا هكذا كالمجاذيب؟ إلى متى سنظل نتصور أن الحياة ليست سوى حلقة ذكر كبيرة بحجم مصر من السد العالى حتى مكتبة الإسكندرية؟ نسأل على الفضائيات من نعرف أنه لا يعرف، أو عارف بس يستنطع: من يرتكب كل هذه الجرائم - هنا أو فى سيناء - يوماتى على الله؟ الجماعات الإرهابية - أبداً - لا تستنكر هذه الفظائع، الأمر الذى يؤكد - على الأقل - أنها ليست منزعجة مما حدث كبقية المواطنين، وأن جميع البيانات الصادرة عنها تدعو إلى المزيد من الإرهاب، وأن فى مقدور المتابع لتاريخ هذه البؤر الإرهابية أن يتوقع أنها ستشير بأصبع الاتهام إلى إسرائيل، أو أى جهة أخرى، المهم أن تبعد الشبهة عن نفسها. أيا كانت المجموعة التى ارتكبت الجريمة، فإن الإخوان هم المسئولون عن إدخال هذه الأفكار التكفيرية إلى مصر منذ ثلاثينيات القرن الماضى. الإخوان هم المسئولون عن تفريخ كل هذه التنظيمات الشبقة إلى الدم: الجهاد والجماعة الإسلامية والتكفير والهجرة والقطبيون وطلائع الفتح والقاعدة وفروعها والشوقيون وبتوع صالح سرية والناجون من النار. ألم يكونوا هم من اغتالوا الدكتور أحمد ماهر وحكمدار القاهرة سليم زكى والقاضى أحمد الخازندار والدكتور محمود فهمى النقراشى؟ ألم يكونوا هم من حاولوا مراراً اغتيال مصطفى النحاس أو جمال عبدالناصر؟ دائما كان حسن البنا يحمل أمر القتل فى الجيب الأيمن وبيان الاستنكار فى الجيب الأيسر. لا يوجد ما هو أروع من تلخيص الجبرتى لأحوال القاهرة عشية غزو الجيش الفرنسى لها، بقيادة نابوليون بونابارت، مؤكداً أن الأهالى قضوا الليل بطوله يجمعون السلاح، ويقسمون على الكفاح، ويتصايحون: حى على الفلاح، «فلما نزل عليهم القنبر» أى القنبلة، انقلب الموقف رأساً على عقب، قالوا: يا سلام! من هذه الآلام! يا خفى الألطاف! نجنا مما نخاف، ثم تفرقوا، وذهب كل حى إلى حال سبيله.
بالفعل كان القنبر ابن الكلب ده هو الذى أنهى المعركة قبل أن تبدأ القوات الغازية حتى فى الاقتراب من أسوار المدينة، انهزموا أمام جيش لم يتح لهم أثناء القصف من على بعد حتى أن يروه، ولم تكن هذه هى المرة الأولى أو الأخيرة، حدث هذا فى الحقيقة مراراً وتكراراً قبل أو بعد ذلك، جرائم الإخوان ليست فى الواقع أكثر من قنابر يصنعونها تحت بير السلم، بالاشتراك مع أعداء الوطن الذين لا يعترفون فى أدبياتهم بوجوده، الصول صبحى صالح يطردونه من الخدمة العسكرية فى السلاح البحرى لأنه يرفض تحية العلم، ملايين الناس شاهدوا هؤلاء الذين أصروا على عدم الوقوف احتراماً لعزف السلام الجمهورى، بل إن ممثل حزب النور فى لجنة الخمسين، راح يتعمد الغياب لكى لا يحضر هذه اللحظة، المدارس التابعة لهذا النوع من البشر يمنعون فيها الطلبة من تأدية التحية لعلم مصر أو عزف السلام الجمهورى، الخونة وحدهم ينظرون إلى هذه المسائل باعتبارها من الأمور الثانوية التى لا تستحق التوقف عندها، الوطن بالنسبة لهؤلاء هو دولة الخلافة على الطريقة العثمانية، المرشد يحلم بأن يكون مولانا السلطان المعظم الذى يتحدث عن نفسه قائلا: حظرتنا، بينما لا ينام الشاطر الليل متوهماً أنه الوحيد الذى يصلح لملء مكان الصدر الأعظم الذى لا ينادى أحداً من المصريين إلا باسم: فلاح خرسيس نرسيس.
القنبر عاش يهددنا على مدى التاريخ، قدماء المصريين اتضح لهم أن سيوف الأحباش أقوى من تلك التى يقاتلون هم بها، كانت سيوف الأحباش يجرى صنعها من الحديد، بينما سيوف المصريين من البرونز، فما كان منهم سوى أن عملوا على اكتشاف مناجم الحديد بأسرع ما يمكن، لم يكن لديهم حل آخر، عرابى بنى استراتيجية العسكرية فى التل الكبير على أساس النظرية القائلة: الإنجليزى كالسمك، إذا خرج من البحر هلك، البعض يذهبون إلى أن من همس بها فى أذنه هو ديليسبس، غير أن من الصعوبة بمكان تصديق أن فرنسياً يمكن أن يصوغ باللغة العربية مقولة بالسجع كهذه، عموماً أثبتت التجربة أن اعتماد الجيش البريطانى على الأساطيل فى الحروب الاستعمارية التى يشنها لا يعنى أنه أصبح ينتمى إلى سلالة الأسماك، كما أثبتت أنه- لسوء الحظ - يستطيع القتال أيضا فى البر، غاية ما فى الأمر أن القنبر ابن الكلب ده اتخذ يومها شكلاً آخر هو المدافع الكثيفة النيران المحمولة على قواعد بعجلات تجرها الخيول، كان من الطبيعى ألا تستغرق المعركة أكثر من أربع دقائق ونصف بالعدد، صباح الخامس من يونيو 1967، تنكر القنبر فى هيئة أجهزة التشويش على الرادارات بواسطة السفينة ليبرتى، وفى رواية أخرى: انتحل شخصية القنابل التليفزيونية، حتى صدام حسين، خلال المواجهتين اللتين خاضتها الولاياتالمتحدة ضد العراق فى عهده، بدا مفاجأ بما فى الترسانة الأمريكية من قنابر، دائماً كان هناك قنبر يجردنا من القدرة على الدفاع عن أنفسنا، قنبر يجعل كلا منا يتسمر فى الوضع فاغراً فاه من الذهول، كأنما هو تمثال حجرى لشخص كان يوماً ما إنساناً من لحم ودم، إنسان له ذاكرة.
أى نعم تزحزح السجع قليلاً من مقدمة المشهد. اختفى عملياً - أو كاد - مع أربعينيات القرن العشرين، على الأقل بالمعنى اللغوى لوصف الظاهرة أو تفسيرها، لكن الزعمات الغاشمة الضيقة الأفق التى أدارت كل هذه الحروب، سياسية كانت أو روحية، ظلت تعلن عن إصرارها على التفكير بالسجع، الأمر الذى يشى بأن السجع ليس مجرد أسلوب فى التعبير كالشعر أو النثر، إنما هو فى الأصل طريقة فى التفاعل مع الوجود، ما يبعث على السخرية أيضاً هو أن الإخوان أضافوا مؤخراً لغة الكتاتيب، وهم لا يستطيعون أن يفكروا إلا بها.
هناك شيء يرفض منذ العصور الوسطى أن ينمو فى مراكز المخ المختصة بإدراك المتغيرات.
كم قرنا مر علينا حتى الآن، بينما نحن لا نزال نتجرع القنبر تلو القنبر، أو على حين نواجه بعقلية السجع كل أنواع الهزائم التى تقودنا إليها الديكتاتوريات الفاسدة أو الأشباح الهاربة من ليل التاريخ! كم قرناً مر علينا حتى الآن، بينما نحن لا نملك كلما ألمت بنا كارثة سوى أن نمصمص الشفاه ونغمغم: يا خفى الألطاف! نجنا مما نخاف! بالسجع أيضا.