بدأت الكوميديا السوداء والانفصال التام عن الواقع، عندما نشرت إحدى الصحف "ألبوم صور" عن جولة داخل سجن برج العرب، حمل الألبوم صورًا عديدة يظهر خلالها السجناء وأمامهم ما لذ وطاب من أشهى أنواع الطعام والشراب، وكأنه قادم لتوه من إحدى فنادق الخمس نجوم، ولم ينقص الصور شيئًا سوى أن تكتب الجريدة الحوار الذي دار بين إدارة السجن من جهة وبين السجناء من جهة أُخرى، يتحدث خلالها سيادة اللواء وهو يُخاطب المصور الصحفي ويقول "طبعًا زي ما حضرتك شايف الطعام عندنا وارد مزارعنا من لحوم وطيور، والخضروات والفاكهة، كلها طازجة، حرصًا منا على سلامة السُجناء وتنفيذًا لأوامر سيادة المشير أول عبد الفتاح السيسى بالتخفيف عنهم وتحسين الحالة الصحية لهم، ولكي لا نشعرهم بأنهم غرباء ومسجونين.. ليقاطعه أحد السجناء ويشتكي من المعاملة السيئة التي يحظي بها البعض دون باقي أقرانه، ويقول في حزن وأسى أن أغلب الطعام الوارد للسجن لا يراعى النباتيين الذين يفضلون الخضروات عن اللحوم ويطالب أن تنتبه إدارة السجن لهذه الشكوى؛ لكي لا يقوم بتصعيد الأمور وفضح الإدارة أمام الرأي العام، ليتدخل سجين آخر ويروي مأساته داخل غرفة الحجز ويشتكي من تكدس عدد السجناء داخلها، حيث يقبع داخل الغرفة خمس سجناء وأن هذا العدد يحول بينه وبين الاستمتاع بالهدوء والسكينة والتأمل، ويعيقه عن القراءة قبل النوم نتيجة الضوضاء التي يُحدثها البعض.. ومن جانبه، وبعد سماع شكوى المسجونين وعد سيادة اللواء أن يتم حل هذه المشاكل في الحال. لينصرف السُجناء وهم منبسطي الأسارير، سعداء ومبتهجين وهم يمارسون أعمالهم الحرفية، ولسان حالهم يقول لا تُحطموا آمالنا وأحلامنا وتُخرجونا من هذا النعيم، نُريد البقاء داخل السجن، وفي مشهد مهيب احتضن السجناء بعضهم البعض من فرحتهم، وبدأوا يقبلون كل من حولهم، ويعودون إلى غرفهم التى يُطلق عليها زورًا وبهتانًا زنزانة. كتبت الناشطة رنوة يوسف، وزرجة الصحافي والناشط السياسى يوسف شعبان، المعتقل بسجن برج العرب شهادتها على موقع صحيفة "البداية"، روت حقيقة ما يحدث أثناء زيارتها ليوسف وعن الأوضاع المأساوية داخل هذا المكان اللعين كما أطلقت عليه، وعن معاناتهم ومآسيهم في العالم الموازي الذي لم تتحدث عنه الجريدة التي نشرت هذه الصور، ولم تُكلف خاطرها أن تتواصل مع أهالى المعتقلين لكي تقف على حقيقة الأوضاع داخل السجون، والتي يعلم بها القاصي والداني، وسأكتفي بنشر فقرات من شهادة رنوة. تقول رنوة: طابور طويل وساعات من الانتظار أمام قلعة برج العرب الحصينة، ساعات من الانتظار والقهر والتعب تفصلنا عن زيارة ذوينا في هذا السجن اللعين، تتبعها أداءات سخيفة من كل فرد يعمل بهذا السجن، أمناء شرطة ومخبرين وضباط. أما عن لقائنا بأهلنا وذوينا في المعتقل فيتم في قاعة قذرة، مليئة بالقمامة، وتتميز بالبرودة الشديدة في عز الشتاء، وبالحرارة الشديدة في عز الصيف، فهي شبيهة بزنازين هذا السجن اللعين. حمام تلك القاعة لا يشبه الحمامات العمومية في شيء، فتلك الحمامات مقارنة به حمامات فنادق خمس نجوم، حمام قذر مليء بالفضلات ولا يتم تنظيفه سوى مرة أسبوعيا. على الجانب الآخر يعاني المسجونين من ظروف أسوأ، تكدس وأمراض متفشية، بينما تسكن أجسامهم، في زنازين خرسانية باردة لا تدخلها الشمس وتمتص الرطوبة. لا يستطيع المسجون في هذا السجن اللعين أن يري الشمس إلا ساعتين فقط يوميا، وأحيانا تقوم إدارة السجن بمنع التريض بحجة تربية المسجونين، الذين يتعدى عددهم الأربع آلاف مسجون. حتى عندما يخرج السجناء إلى الشمس فيكون في مساحة صغيرة خرسانية أيضا، رمادية اللون مثل كل شيء في هذا المكان، ترى شعاع الشمس من خلال سلك شائك من بعيد، أما بقية اليوم فهم داخل الزنزانة الصغيرة الضيقة، كل مسجون له مساحة معروفة، شبرين وقبضة، لا تزيد ولا تنقص. الجديد رواه لي صديقي المعتقل هناك، أنهم ينامون على "طيارة".. وهذا الاختراع فهو عبارة عن «شيكارة أرز» مثبتة في الحائط حتى يتيح النوم لصفين من البشر فوق بعضهما البعض، بالطبع ليست هذه محاولة للتشبه ببلاجات الاثرياء حتى لو كان مكان النوم شيكارة أرز لكنها محاولة لمواجهة الزحام الخانق، والتكدس الشديد . اما عن طعام السجن "التعيين" فلا علاقة لها من قريب أو بعيد بصور طعام فنادق الخمس نجوم التي صورها سجن برج العرب ونشرتها صحيفة المصري اليوم مما تسبب في سخرية أهالي المعتقلين منه، فتعيين السجن لا علاقة له بطعام الآدميين، مما دفع أهالي المعتقلين للتوقف عن الاعتماد عليه، خوفا على صحة أبنائهم وذويهم. فربما نرى سجانًا يومًا سجين فلا نستكثر عليه ما حرمنا وحرم أهالينا منه… أو ننسى له أنه حتى لم يرق لحال مريض يصارع المرض ولا زوجة حلمت أن تخرج زوجها من كأبة حبسكم ولو بنوع طعام يحبه، ولا أبن أراد أن يلامس أبيه ويحتضنه فمنعته حواجزكم من الاقتراب منه.. ثم خرجتم لتنشروا أكاذيبكم ثم تعاونكم صحف ووسائل إعلام في نشرها.