بعد أسبوعين من حديث أبو محمد الجولاني، زعيم تنظيم "جبهة النُصرة" الإرهابي، الذي يُعد فرع تنظيم "القاعدة" في بلاد الشام، مع قناة الجزيرة القطرية في إطار تبيض صفحة الجبهة والترويج لها كفصيل من "المعارضة المعتدلة"، وهي المقابلة التي برهن فيها مذيع الجزيرة وضيفه على تسامح الجبهة مع سكان من المذاهب والطوائف المختلفة في المناطق التي تسيطر عليها برواية عن الحرية والأمن الذي يتمتع بها الدروز السوريين، أتت مجزرة قرية "قلب لوزة" لتكشف بالوقائع أن النُصرة لا تختلف كثيراً عن مثيلتيها من التنظيمات التكفيرية. أمس أقدم أحد قادة النُصرة العسكريين ويدعى أبو عبد الرحمن التونسي على نزع ملكية أحد المنازل التي يملكها شخص درزي في قرية "قلب لوزة" أحدى قرى منطقة "جبل السماق" في مدينة إدلب السورية التي سيطر عليها مقاتلي الجبهة مؤخراً، وهو الأمر الذي نتج عنه مقتل ما يقري من 40 شخص بعد استدعاء قائد النُصرة لقوة عسكرية قامت بفتح النيران على قاطني المنزل وجيرانهم الذين هبوا لنجدتهم، وأوضحت مصادر أهلية بحسب وسائل إعلام رسمية ومعارضة أن من بين قتلى المجزرة أطفال وشيوخ. فيما ذهبت روايات أخرى أن المجزرة وقعت بعد رفض أهالى القرية لعدد من القرارات التي أتخذها أمير النُصرة التونسي في جبل السماق، ومن ضمنها وجوب تسليمهم لأطفالهم الذين تتراوح أعمارهم ما بين 10 : 14 عام لمعسكر تدريب تابع للنُصرة لمدة شهرين، كذلك إقدام الجبهة على طلب تزويج مقاتليهم من فتيات القرية الدرزيات كإثبات لاعتناق أهل القرية للإسلام، وهو الشرط الذي ضمن استمرار حياتهم، وهو الأمر الذي رفضه أهل القرية، بالإضافة إلى أن مقاتلي النُصرة شرعوا في عملية مداهمات ومصادرة أسلحة أهل قرى جبل السماق الفردية. وتوجت هذه الممارسات بحادثة المنزل سابق الذكر. وتعتبر "جبهة النُصرة" أن كل الطوائف والمذاهب المختلة "كفار يجوز قتلهم بعد استتابتهم" وهم بذلك يختلفون عن "داعش"، حيث أن الأخير يقتل أهل المذاهب والطوائف المختلفة على الفور، وهو الفارق الذي حاولت "الجزيرة" توضيحهُ في حوارها مع الجولاني، إلا أن الأخير بعد تأكيده على مظاهر التسامح مع الطائفة الدرزية أشار إلى أن ما يتمتعوا به أتى بعد تطبيق "المقاصد الشرعية" وهي الاستتابة ودعوتهم لدخول الإسلام، وهدم قبورهم ومعابدهم! وتعد مدينة أدلب أحد ثلاث مناطق رئيسية (السويداء-ريف دمشق-إدلب) يقيم بها الدروز في سوريا، وأستولى مقاتلي الجبهة على منطقة جبل السماق قبل ما يزيد عن العام، ويخشى دروز سوريا -البالغ عددهم حسب إحصاءات غير رسمية 350 : 500 ألف- مع قرب سقوط مدينة السويداء (جنوبسوريا) أن يتعرضوا لحملة تهجير وقتل مثل التي تعرض لها الإيزيدين في العراق. وجدير بالذكر أنه مع اندلاع الأزمة السورية فأن السمت العام لجمهور الطائفة الدرزية كان الحياد وعدم الانحياز إلى أحد أطراف الأزمة، خشية من تعرضهم لمذابح على يد التكفيريين، وهو الأمر الذي وصل إلى محاولات عواقل القرى والبلدات الدرزية إلى إيجاد تفاهمات مع مسلحي النُصرة، إلا أن ذلك لم يمنع من ظهور تخوفات منذ العام الماضي حول مصيرهم، وذلك بعدما حدث لعدد من الاقليات المذهبية والعرقية في سورياوالعراق من قبل التنظيمات الإرهابية، وعلى رأسها "الدولة الإسلامية" و"جبهة النُصرة"، خاصة بعد الجرائم التي أرتكبها الأول في حق الإيزيديين من قتل وتنكيل وتهجير وأسر للنساء وبيعهم كجواري. وعلى اختلاف المواقف تجاه ما يحدث في سوريا منذ أربعة سنوات، إلا أن الهيئات والشخصيات الدرزية البارزة في الشام وخاصة في لبنان عملوا على حماية طائفتهم بمنأى عن المواقف السياسية،وكان موقف رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي اللبناني، النائب وليد جنبلاط من تعاطيه مع الأزمة السورية ورأيه في "جبهة النُصرة" أنها ليست تنظيم إرهابي، يبرره دائماً بحماية الدروز في المناطق التي يسيطر عليها مسلحي الجبهة، وأن الحادث الأخير لم يكن متعمداً، حيث أنه رأى في تغريدات له على موقع تويتر أن ما حدث يعد إشكال بين سكان القرية الدروز وبين عناصر النُصرة الذي حاولوا اقتحام بيت ضابط في الجيش السوري ينتمي للطائفة الدرزية، وأتى بيان الحزب بنفس المضمون الذي هو نفس الخطاب الذي رددته مصادر قريبة من النُصرة ويهدف إلى حصر المجزرة في أنها خلاف بين المسلحين وبين عائلة ضابط مؤيد للنظام السوري. في المقابل كان موقف رئيس حزب التوحيد العربي، وئام وهاب، الذي طالب بتسليح الدروز في سوريا للوقوف أمام جرائم النُصرة، بالتوازي مع مطالبته للنظام السوري بتوفير السلاح والحماية لأبناء الطائفة الدرزية بصفتهم مواطنين سوريين، وأضاف في مؤتمر صحفي دعى إليه أمس أن: " الدروز لا يخشون احدا، وهم مستعدون لذل الارهابيين، وما ينقصهم هو السلاح، ودروز لبنان مستعدون للمساعدة، ونحن جاهزون لإنشاء جيش من 200 الف مقاتل للدفاع عن الدروز، ومجزرة قلب اللوز تتحمل مسؤوليتها قطر وتركيا، وحقنا لدى هاتين الدولتين". إلى ذلك، تجددت دعاوى قد أطلقت منذ العام الماضي تطالب بإنشاء منطقة إدارة ذاتية للدروز في سوريا على غرار تجربة مثلث روج آفا الكردي، مع فارق أن المنطقة الدرزية لن تحظى بحماية ذاتية مماثلة للتجربة الكردية ووحدات حماية الشعب -الوحدات التي سجلت انتصارات في كوباني على مقاتلي داعش- التي نتجت عن تجربة الإدارة الذاتية للمناطق السورية ذات الأغلبية الكردية، ولكن يتم الحديث على أن المنطقة الدرزية ستشمل برعاية وحماية من جانب أطراف إقليمية، سواء الأردن وإسرائيل في السويداء، أو إسرائيل حصراً في المناطق المحاذية لهضبة الجولان والتي يقطنها دروز أيضاً. وفي هذا السياق، لم تفوت تل أبيب الفرصة واستغلت الحادث في الترويج لمسألة الوصاية الإسرائيلية على دروز الشام، وكان أبرز ما في هذا السياق هو تصريح الرئيس الإسرائيلي، رؤوبين روفلين، أن "بلاده تشعر بالقلق على مصير الأقلية الدرزية وأنه أعرب عن قلقه للإدارة الأميركية" وذلك عقب لقاء جمعه بمارتن ديمبسي، رئيس هيئة الأركان المشتركة الأميركية. وبالتوازي مع تصريحات الرئيس الإسرائيلي، أبرزت وسائل إعلام إسرائيلية مسألة دروز سوريا، ومقارنة وضعهم بوضع الدروز في فلسطينالمحتلة، وبحسب موقع "واللا" الإسرائيلي، فأن تقديرات الحكومة الإسرائيلية في الفترة القادمة تشير إلى أنها ستتخذ إجراءات أمنية وعسكرية إذا تعرض دروز سوريا إلى مخاطر من جانب التكفيريين، وأن ذلك طُرح في اللقاء الذي جمع روفلين مع ديمبسي. فيما ذهبت القناة الثانية الإسرائيلية في تقرير مصور إلى أن التهديد الذي يحيط بدروز سوريا وخاصة في الجنوب السوري يبرر التدخل الإسرائيلي الاستخباراتي والعسكري في هذه المنطقة، حيث تعمد الأجهزة الأمنية الإسرائيلية إلى التنسيق مع مسلحي النُصرة وغيرهم في هذه المناطق للضغط على القرى الدرزية، ثم مخاطبة أهل هذه القرى عن طريق رموز دروز فلسطينالمحتلة والإيعاز لهم بطلب الحماية من الدولة العبرية. من المتوقع أن تشهد مسألة دروز سوريا مزيد من التطورات استهلت بالمذبحة الأخيرة، التي عكست ما تضمره أطراف اقليمية على رأسها إسرائيل في استغلالهم لحصد مزيد من المكاسب الأمنية والإستراتيجية من تداعيات الأزمة السورية، خاصة وأن استراتيجية تل أبيب الأمنية التي هدفت منذ أكثر من عامين إلى خلق طوق أمني على طول حدود سورياوفلسطينالمحتلة قد مُنيت بفشل كبير على أثر الانتصارات العسكرية التي حققها الجيش السوري وحزب الله في هذه المناطق، والتي حالت دون تحقيق التفاف يهدف إلى عزل الداخل السوري عن حدوده الجنوبية-الشرقية وتمركز مسلحي النُصرة وغيرها في هذه المناطق بالتوازي مع حملات الشرعنة والتبييض التي هدفت إلى قبول شعبي وإقليمي ودولي بوجود النُصرة، ولذلك أتت مسألة دروز سوريا لتجدد طموح الكيان الصهيوني في إيجاد طوق أمني ومنطقة نفوذ مبررة وشرعة داخل الأراضي السورية، بعد أعوام من التواجد الغير رسمي والغير معلن.