يقف التاريخ هنا هنيهة؛ ليسطر صفحة خالدة في سجل الشهادة والفداء، لا تقل بهاء وروعة عن سواها من الصفحات التي وقف فيها الحق أعزلا في مواجهة الظلم المتمترس خلف دروعه وأسلحته وصولته وصولجانه. هو صراع ما انفك يتأجج بين أبناء الإمام علي بن أبي طالب وأحفاده، وخلفاء بني أمية وأمرائهم الذين أعماهم حب السلطة والاستئثار بالأمر، وجمع الأموال والعيش الرغد في القصور الشامية، صراع ما فتئ يذكِّر الناس بوجوب مواجهة الطغاة وإعلاء كلمة الحق مهما قل العدد وضعفت الوسائل وتخاذل المتخاذلون. في الكوفة مجددا تبدأ تباشير المواجهة بين الإمام زيد بن زين العابدين علي بن الحسين وأصحابه، وجيش الأمويين بقيادة يوسف بن عمر الذي أرسله هشام بن عبد الملك للقضاء على الثورة، ولا يخرج أهل الكوفة في هذا المشهد عن مسلكهم الأول يوم كربلاء، وكأنهم قد طبعوا على الغدر ما لهم منه فكاكا، يسارعون بتأييد الإمام زيد في موقفه الرافض للحكم الأموي الجائر، ثم ما يلبثون أن ينتكسوا فينكثوا عهدهم، ويسوقون الأسباب الواهية لتبرير تخليهم بل خيانتهم. كان الإمام زيد يعلم مكمن ابتلاء هذه الأمة، وأساس الداء العضال الذي أصابها، فما جار هؤلاء الحكام ولا بغوا إلا عندما انخذل علماء الأمة عن دورهم، وارتضوا الدنية في دينهم، وأغراهم السلطان بالزائل من متع الدنيا، وها هو يحاول أن يعيدهم إلى الجادة بالرسالة تلو الأخرى قائلا:" إنما تصلح الأمور على أيدي العلماء، وتفسد بهم إذا باعوا أمر الله ونهيه بمعاونة الظالمين الجائرين" ويضيف مواجها إياهم بحقيقتهم التي طالما حرصوا على تجنب مواجهتها" أمكنتم الظلمة من الظلم، وزينتم لهم الجور، وشددتم لهم ملكهم بالمعاونة والمقاربة- فهذا حالكم، فيا علماء السوء: محوتم كتاب الله محوا، وضربتم وجه الدين ضربا، فَنَدَّ والله نَدِيْدَ البعير الشَّارِد، هربا منكم، فبسوء صنيعكم سُفِكت دماء القائمين بدعوة الحق من ذرية النبي، ورُفِعَت رؤوسهم فوق الأسِنَّة، وصُفِّدوا في الحديد، وخَلص إليهم الذل، واستشعروا الكرب، وتسربلوا الأحزان، يتنفسون الصعداء ويتشاكون الجهد". ثم يأتيه نفر من علماء الكوفة وهو يتجهز ومن معه لملاقاة جيش الشام ليسألوه ما يقول في أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما، وما كانوا يريدون من وراء سؤالهم إلا الانفضاض عنه ونكث عهده، فيجيبهم" ما سمعت أحدا من آبائي تبرّأ منهما، ولا يقول فيهما إلا خيرا" فإذا بهم يجادلونه باطلا ألا ينفذون عهده إذا لم يقل بأنهما- يقصدان أبا بكر وعمر – قد نازعا الحق أهله، وأنهما كبني أمية سواء بسواء، فيردهم بقوله:" إن أشد ما أقول فيهما أنّا كنا أحق بالأمر بعد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من الناس أجمعين، وإنَّ القوم استأثروا علينا ودفعونا عنه ولم يبلغ ذلك عندنا بهم كفرا، قد وُلوا فعدلوا في الناس أجمعين، وعملوا بالكتاب والسنة". فقالوا له: إذا لم يظلمك أولئك فلِم يظلمك هؤلاء، فلم تدعو إلى قتال قوم ليسوا لك بظالمين ؟ فقال: "إنَّ هؤلاء ظالمون لي ولكم ولأنفسهم؛ وإنما ندعوكم إلى كتاب الله وسنة نبيه وإلى السنن أن تُحيى وإلى البدع أن تُطفأ، فإن أنتم أجبتمونا سُعدتم وإن أنتم أبيتم فلست عليكم بوكيل". ففارقوه ونكثوا بيعته. فتبرأ زيد منهم وصاح: "فعلوها حسينية". وكان يوسف بن عمر قد أرسل بعض رجاله إلى شوارع الكوفة لإثارة الرعب في قلوب الأهالي، ودعوة الناس إلى الاجتماع في المسجد الأعظم، وحظر التجول وحمل السلاح، وبث الإشاعات عن الجيش القادم من الشام. ولكن الإمام زيد توجه مع من بقي من أنصاره لرفع الحصار عن أهل المسجد وطمأنة أهل الكوفة، وفي طريقه إلى المسجد وقعت بينه وبين جند الأمويين مواجهة عنيفة كان النصر فيها حليفه، ولما وصل إلى جوار المسجد نادى أصحابه بشعاره (يا منصور أمت) وأدخلوا الرايات من نوافذ المسجد، وكان نصر بن خزيمة ينادي: "يا أهل الكوفة اخرجوا من الذل إلى العز ومن الضلال إلى الهدى اخرجوا إلى خير الدنيا والآخرة فإنكم لستم على واحد منها"ولكنهم لم يستجيبوا تأثرا بالدعاية الأموية الكاذبة. ومع ذلك فقد استطاع الإمام زيد ومن معه أن يقهروا طلائع الجيش الأموي، ويطردوهم إلى خارج الكوفة، لكن جيش الأمويين وصله المدد من الحيرة، واشتبك الجيشان من جديد ودارت الدائرة مجددا على الأمويين بعد قتال شديد ونادى الإمام زيد في أهل الكوفة عله يحيي موات النفوس: « انصروني على أهل الشام فو الله لا ينصرني رجل عليهم إلا أخذت بيده حتى ادخله الجنة، ثم قال: والله لو علمت عملا هو أرضى لله من قتال أهل الشام لفعلته، وقد كنت نهيتكم أن لا تتبعوا مدبرا ولا تجهزوا على جريح ولا تفتحوا بابا مغلقا". واستمر القتال واستبسل الإمام زيد وأصحابه وقاتلوا قتال المستميت فلم يجرؤ أحد على مواجهتهم أو مبارزتهم، وحين شعر الأمويون أنه لا قدرة لهم على المواجهة تحصنوا خلف الكثب والجدران، وأخذوا يمطرون الإمام زيد وأصحابه بوابل من السهام، وفي جنح الليل سُمِع صوت الإمام زيد يرتفع قائلا: الشهادة.. الشهادة.. الحمد لله الذي رزقنيها! فهرعوا إلى مكان الصوت، فإذا بالإمام مُضَرَّجاً بدمه، قد أصيب بسهم في جبهته، ولما أحس بلذع السهم القاسي ارتفع صوته بتلك الكلمات، وكان ذلك في الثاني من شهر صفر من عام 122ه وإن هي إلا عشر سنين بعد تلك الثورة المباركة إلا وقد تمزق ملك الأمويين شر ممزق، وحاق بهم من الويل والعذاب على أيدي أعدائهم ما صار مضربا للأمثال، وبقي الإمام زيد بن زين العابدين رمزا للدفاع عن الحق في مواجهة المتجبرين.