ما إن رحل الجند عن الكوفة بعد أن ارتكبوا جريمتهم النكراء في كربلاء؛ حتى أفاق أهلها من سكرتهم، وصحوا من غفلتهم، وأدركوا فداحة ما اقترفوا بخذلانهم لسيد الشهداء وآل بيت النبوة ومن كان معهم من الصحب الكرام، لقد كان الكوفيون شركاء للسفلة فيما اجترحوا بتخاذلهم وصمتهم وخوفهم من بطش بني أمية؛ حتى أنهم لزموا الدور، وما كان أحدهم ليجرؤ على الخروج للصلاة وقد حاصر جند ابن زياد المساجد وتُخُطِّف الناس في الطرقات. لقد استشعر الكوفيون الندم والحسرة على ما فرطوا في جنب الله إذ بخلوا على سيد الشهداء الإمام الحسين بالنصرة، وتركوه وحيدا، يواجه أخس من تقيّأت الأرحام على وجه البسيطة، وكان الندم على هذا التفريط الفادح هو العامل الأقوى في استلهام روح الثورة مجددا، والخروج لطلب ثأر الإمام الحسين من بني أمية وكل من شارك في جيش ابن زياد وكل من تلطخت يداه بأطهر الدماء. كان الصحابي الجليل سليمان بن صرد الخزاعي قد خرج لتوه من سجن الأمويين ومعه نفر من أصحابه ممن ناصروا الإمام عليًا، وشهدوا معه المشاهد، وهم المسيب بن نخبة الغزاوي الغذاري وعبد الله بن سعد بن نفيل الأزدي وعبد الله بن وال التيمي ورفاعة بن شداد البجلي لقد كانت القلوب ملآى بالحزن والغضب، إذ حيل بين هؤلاء النفر والدفاع عن الإمام الحسين وآله؛ فاتفق القوم على الاجتماع في بيت سليمان بن صرد ومعهم عدد من شباب الكوفة ممن ضاقت صدورهم بجور بني أمية، بدأ المسيب فخطب خطبة طويلة أظهر فيها الندم والحسرة على ما كان من تفريط في نصرة الإمام الحسين، ثم حثَّ أصحابه على الثورة؛ موضحًا أنَّها أمرٌ لا بد منه، متسائلا: ماذا سنقول غدًا لرسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم- عندما يسألنا عن عدم نصرة سبطه؟ ثم توالت الخطب واشتعل الحماس في الأفئدة، وكان اتخاذ القرار بجمع آلة الحرب ودعوة الناس سرا للخروج على بني أمية، على أن يسموا أنفسهم بالتوابين، تمثلا لقوله تعالى:" …فَتُوبُواْ إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ" (54) البقرة. وقد حددت الحركة أهدافها فيما يلي: إزاحة الأُمويّين من السلطة في الكوفة وتحويلها إلى قاعدة للحكم الذي ينبغي أن يسود في مختلف أقاليم الدولة، الأخذ بثأر الإمام الحسين، وتطبيق القصاص على كل من شارك في هذه الجريمة سواء أكان من الأمويين أو ممن تواطأ معهم، تجسيد فكرة الاستشهاد، وذلك بالتنازل عن الأملاك واعتزال النساء،الإلحاح في طلب التوبة عن طريق التضحية بالنفس. وقد سرت الدعوة في الكوفة وما حولها سريان النار في الهشيم؛ حتى هلك يزيد بن معاوية عام أربعة وستين للهجرة، مما كان له بالغ الأثر في إضعاف الأمويين وانكسار شوكتهم، وكانت الأوضاع في هذه اللحظة أنسب ما تكون للانقضاض عليهم وهدم دولتهم والأخذ بثأر الحسين، لكن سليمان بن صرد رأى ألا يتعجل الأمر لعلمه أن قتلة سيد الشهداء هم من بيدهم أمر الناس يومئذ وسلطتهم نافذة ولتفويت مكرهم، وسوء تدبيرهم، كان لا بد من التريث قليلاً حتى تحين الفرصة المناسبة. كما كان لهلاك يزيد الأثر الفعال في استجابة الناس لدعوة سليمان إلا أن استجابة الناس لدعوة عبد الله ابن الزبير الذي خرج على الحكم الأموي في الحجاز- قد أدت إلى قدوم عبد الله بن يزيد الأنصاري أميرًا على الكوفة من قبل ابن الزبير، وكذا قدوم المختار بن أبي عبيدة الثقفي إلى الكوفة – سنأتي على ذكر دوره لاحقًا- الأمر الذي يصور خطورة الوضع يومئذ وما حوى من اضطراب وخلل في النظام ناهيك عن نقمة الناس على السلطة الأموية التي نكلت بهم ، وجرعتهم صنوف العذاب أشكالا وألوانا. بعد أن انجلى الغبار عن هذه الأحداث الجسام كان مروان بن الحكم قد وصل إلى سدة الحكم، وكانت عينه على الكوفة حيث صار التوابون يعدون بالآلاف- قيل أنهم وصلوا نحو ستة عشر ألفا- واجتمعت قيادة الحركة وفق أوامر سليمان في النُخلية في الثاني من شهر ربيع الآخر من العام الخامس والستين للهجرة النبوية المشرفة ، وتمت الدعوة للخروج لملاقاة الجيش الأموي، فاجتمع لهم أربعة آلاف ممن بايعوا، وكان لدعوة المختار بن عبيد الله الثقفي الذي وصل الكوفة ودعا لخلافة محمد بن الحنفية الذي لقبه بالمهدي ما أدى إلى تفرق الصف إلى فرقتين- بالغ الأثر في إضعاف عزيمة الكوفيين للخروج في جيش التوابين. سار جيش التوابين حتى نزل عند منطقة عين الوردة، ووقف الصحابي الجليل سليمان بن صرد أمام جيشه مخاطباً:"… فقد أتاكم الله بعدوكم الذي دأبتم في المسير إليه آناء الليل وأطراف النهار- تريدون فيما تظهرون التوبة النصوح ولقاء الله مُعذرين، فقد جاءوكم بل جئتموهم أنتم في دارهم وحيزهم؛ فإذا لقيتموهم فاصدقوهم واصبروا إن الله مع الصابرين … لا تقتلوا مدبرًا ولا تجهزوا على جريح ولا تقتلوا أسيرًا من أهل دعوتكم إلا أن يقاتلكم بعد أن تأسروه أو يكون من قتلة إخواننا ب ( الطّف )رحمة الله عليهم". ودارت رحى حرب طاحنة أبدى فيها جيش التوابين بطولات نادرة وشجاعة فائقة لمدة ثلاثة أيام ,وأوقعوا بالجيش الأموي خسائر فادحة، إذ كان التوابون يقومون بهجمات شرسة كالصواعق في عمق الجيش الأموي المذهول، حتى أن اليوم الأول قد انتهي بهزيمة الأمويين مما اضطرهم للانسحاب مخلفين وراءهم قتلاهم وجرحاهم، وفي اليوم الثاني وصلت التعزيزات للجيش الأموي فأعاد ترتيب صفوفه وبدأ الاشتباك محاولاً إنهاء المعركة مستفيدًا من تفوقه الواضح من حيث العدة والعدد إلا أن الأمر لم يحسم إلا في اليوم الثالث حيث أدرك الأمويون أنهم إن اشتبكوا مع التوابين لم يفلحوا فتجنبوا الاشتباك واستخدموا النبال، حتى أصابوا سليمان بن صرد بسهم كان فيه شهادته عن عمر ناهز الثالثة والتسعين. وحمل الراية من بعده المسيّب بن نجبه، فقاتل بها حتّى استشهد، وتبعه بقية القوّاد وعدد كبير من المقاتلين، باستثناء رفاعة بن شداد الذي اعترف بالهزيمة وأدرك عدم جدوى القتال، وكانت القيادة قد انتقلت إليه، فأصدر أوامره سرّاً إلى البقية الباقية من التوّابين بالانسحاب والتراجع. وتمّت عملية التراجع بنجاحٍ تام، وابتعد التوّابون المنسحبون عن ميدان المعركة، وأصبحوا في منأىً عن مطاردة الجيش الأُموي الذي آثر قواده عدم ملاحقة التوابين بعد أن ذاقوا الأمرَّين على أيديهم، وانتهت المعركة بهزيمة التوابين بعد أن ضربوا أروع الأمثلة للبطولة والفداء والتضحية، وصدق العزم والانتصار لآل بيت رسول الله الأطهار المطهرين. كانت حركة التوابين هي المسمار الأول في نعش الدولة الأموية التي قامت على الجور، ومنازعة الأمر أهله، فعمَّت مظالمها الأفاق، وانتهت نهاية مأساوية على يد العباسيين، أما الحسين الثائر الشهيد سبط الحبيب محمد – صلى الله عليه وسلم- ومن خرج من بعده مجاهدًا يطلب ثأره؛ فإنَّ مآثرهم الباقية، ودماءهم الطاهرة قد صارت هاديا لكل ثائر على طريق الحق؛ حتى قيام الساعة.