كان استشهاد الحسين حدثاً جللاً فى تاريخ الإسلام، ولم يكن من المتوقع أن يمر كما مرت أحداث أخرى عاشها المسلمون بعد وفاة النبى صلى الله عليه وسلم. فكل ما سبق هذا الحدث يمكن وصفه بالأحداث العابرة، مهما كان حجمها، بما فى ذلك حالة الاقتتال الداخلى التى وقع فيها المسلمون أواخر عهد عثمان، وخلال فترة حكم على بن أبى طالب. فمع مرور الزمن تم نسيان ما حدث، وتقارب المتنافرون، وتصالح المتخاصمون، لكن الأمر لم يكن كذلك بالنسبة لواقعة قتل الحسين حفيد النبى صلى الله عليه وسلم، فقد أحدثت هذه الواقعة شرخاً عميقاً فى العقل والوجدان الإسلامى، تواصل أثره عبر أجيال، وأدى إلى شق الصف المسلم إلى الأبد. وقد كان من الطبيعى أن يظهر بين المسلمين من يبحث عن التوبة عن خذلان الحسين الذى تُرك ليموت وحده فى كربلاء، ومن يطارد قاتليه ويبحث عن الثأر لدمائه من بنى أمية وحكام بنى أميه. فى هذا السياق تشكل «تيار التشيع» الذى تبنى فكرة التوبة عن خذلان الحسين بالثأر من قتلته. وقد عبّر سليمان بن صرد عن هذا الموقف بقوله: «إنا كنا نمد أعناقنا إلى قدوم آل بيت نبينا، صلى الله عليه وسلم، نمنيهم النصر ونحثهم على القدوم، فلما قدموا ونينا وعجزنا، حتى قُتل فينا ولد نبينا وسلالته وعصارته وبضعة من لحمه ودمه، اتخذه الفاسقون غرضاً للنبل ودريئة للرماح حتى أقصدوه، وعدوا عليه فسلبوه. ألا انهضوا، فقد سخط عليكم ربكم ولا ترجعوا إلى الحلائل والأبناء حتى يرضى الله، والله ما أظنه راضياً دون أن تناجزوا من قتله، ألا لا تهابوا الموت فما هابه أحدٌ قط إلا ذل». بدأت ملامح تيار «التوابين» الشيعى فى التبلور، منذ العام 61 هجرية، وأخذوا فى إعداد عدة الحرب لتحقيق هدفهم فى الثأر للحسين، وظلوا على ذلك حتى مات يزيد بن معاوية سنة أربع وستين، وحينها فكر بعض أتباع سليمان بن صرد فى الانقضاض على الوالى الأموى على الكوفة «عمرو بن حريث»، لكن «سليمان» رفض هذا الاقتراح، خصوصاً أنه كان ينوى الدخول فى مواجهة مع أشراف الكوفة وفرسانها ممن لعبوا دوراً فى قتل الحسين، وبالتالى كان الأمر يحتاج إلى استعداد، لذلك فقد دعا مناصريه إلى تجنيد الأتباع والدعوة إلى هدفهم وسط الناس، فانضم إليهم كثيرون. ولما كثر الأشياع حول «سليمان» أخرج أهل الكوفة «عمرو بن حريث» وبايعوا لابن الزبير. وفى هذه الأثناء قدم المختار بن أبى عبيد الكوفة فى النصف من رمضان، وأخذ يدعو الناس إلى قتال قتلة الحسين ويقول: جئتكم من عند المهدى محمد بن الحنفية وزيراً أميناً. فرجع إليه طائفةٌ من الشيعة، وكان يقول: إنما يريد «سليمان» أن يخرج فيقتل نفسه ومن معه وليس له بصرٌ بالحرب. وكانت الشيعة تسب المختار وتعيبه لما كان منه فى أمر الحسين، حين بعث مسلم بن عقيل إلى الكوفة، وكان المختار فى قرية له تُدعى لفغا، فجاءه خبر ابن عقيل عند الظهر أنه قد ظهر، ولم يكن خروجه عن ميعاد، فأقبل المختار فى مواليه، فانتهى إلى باب الفيل بعد المغرب، وقد أقعد «عبيد الله بن زياد» «عمرو بن حريث» بالمسجد ومعه راية، فوقف المختار لا يدرى ما يصنع، فبلغ خبره عمراً فاستدعاه وأمنه، فحضر عنده. فلما كان الغد ذكر عمارة بن الوليد بن عقبة أمره لعبيد الله بن زياد، فأحضره فيمن دخل وقال له: أنت المقبل فى الجموع لتنصر ابن عقيل؟ قال: لم أفعل ولكنى أقبلت ونزلت تحت راية عمرو، فشهد له عمرو، فضرب وجه المختار فشتر عينه وقال: لولا شهادة عمرو لقتلتك! ثم حبسه حتى قُتل الحسين. ثم إن المختار بعث إلى عبدالله بن عمر بن الخطاب يسأله أن يشفع فيه، وكان «ابن عمر» تزوج أخت المختار صفية بنت أبى عبيد، فكتب ابن عمر إلى «يزيد» يشفع فيه، فأرسل «يزيد» إلى «ابن زياد» يأمره بإطلاقه، فأطلقه وأمره ألا يقيم غير ثلاث. فخرج «المختار» إلى الحجاز، فلقيه «ابن العرق» فسلم عليه وسأله عن عينه، فقال: خبطها ابن الزانية بالقضيب فصارت كما ترى، ثم قال: قتلنى الله إن لم أقطع أنامله وأعضاءه إرباً إرباً! ثم سأله المختار عن ابن الزبير، فقال: إنه عائذ بالبيت وإنه يبايع سراً، ولو اشتدت شوكته وكثرت رجاله لظهر. فقال «المختار»: إنه رجل العرب اليوم، وإن اتبع رأيى أكفه أمر الناس. إن الفتنة أرعدت وأبرقت وكأن قد انبعثت، فإذا سمعت بمكان قد ظهرت به فى عصابة من المسلمين أطلب بدم الشهيد المظلوم، سيد المسلمين وابن بنت سيد المرسلين وابن سيدها، الحسين بن على، فوربك لأقتلن بقتله عدة من قُتل على دم يحيى بن زكرياء». هكذا أصبح أمر الثأر للحسين شركة بين فريقين، فريق يتزعمه سليمان بن صرد، وآخر يقوده المختار بن أبى عبيد. لقد كان الحزن على استشهاد الحسين عظيماً، وعلى قدر عمق الحزن كان عمق الارتباك فى صفوف من يطلبون ثأره. يشهد على ذلك توجه الشيعة الملتفين حول سليمان بن صرد باللوم إلى المختار بسبب تنكره لمسلم بن عقيل، وحالة الرعب التى انتابته عند مواجهة عبيد الله بن زياد، وتأكيده على أنه لم يكن من شيعة «الحسين»، فقد كان كل من دعوا الحسين بن على شركاء فى ذلك، حين دعوه ثم خذلوه، وتركوه يقاتل -وآل بيته- وحده.