انتهت الدولة البويهية على يد السلاجقة عام 447 ه، وكان البويهيون من طائفة «الشيعة الزيدية»، نسبة إلى زيد بن على بن الحسين، وهو من وجهة نظر أصحاب هذا المذهب الإمام الخامس من أئمة الشيعة، خلافاً لما يراه الشيعة الاثنى عشرية الذين يعتقدون أن الإمام الخامس هو «محمد الباقر» أخو «زيد بن على» الأكبر. وقد كان ل«زيد» قصة مع أهل العراق تتشابه إلى حد كبير مع قصة جده «الحسين بن على»، حين التف حوله عدد من الشيعة المناوئين للدولة الأموية، وكانوا -كما يحكى ابن كثير- حوالى أربعين ألفاً، فنهاه بعض النصحاء عن الخروج وقالوا له إن جدك -يقصدون الحسين- خير منك وقد التفت على بيعته من أهل العراق ثمانون ألفاً ثم خانوه، وحذّروه من أهل العراق فلم يقبل منهم «زيد»، بل استمر يبايع الناس فى الكوفة على كتاب الله وسنة رسوله حتى استفحل أمره بها، وما زال كذلك حتى دخلت سنة 122ه، فكان فيها مقتله، بسبب انفضاض أهل العراق من حوله. ويرى المؤرخون أن سبب انفضاض الشيعة من حوله ارتبط برأيه فى الشيخين أبى بكر وعمر رضى الله عنهما، فقد سأله شيعة العراق: ما قولك يرحمك الله فى أبى بكر وعمر؟، فقال: غفر الله لهما ما سمعت أحداً من أهل بيتى تبرّأ منهما، وأنا لا أقول فيهما إلا خيراً، قالوا: فلِمَ تطلب بدم أهل البيت؟ فقال: إنا كنا أحق الناس بهذا الأمر، ولكن القوم استأثروا علينا به ودفعونا عنه ولم يبلغ ذلك عندنا بهم كفراً، ثم سألوه لماذا يقاتل بنى أمية وهو يوقر الشيخين أبا بكر وعمر، فقال: إن هؤلاء ليسوا كأولئك، إن هؤلاء -يقصد الأمويين- ظلموا الناس وظلموا أنفسهم، وإنى أدعو إلى كتاب الله وسنة نبيه وإحياء السنن وإماتة البدع فإن تسمعوا يكن خيراً لكم ولى، وإن تأبوا فلست عليكم بوكيل. فرفضوه وانصرفوا عنه ونقضوا بيعته وتركوه، فلهذا سُموا «الرافضة» يومئذ ومن تابعه من الناس على قوله سُموا «الزيدية». يُظهر هذا الخطاب أن من نهجوا نهج «زيد بن على» كانوا أكثر فرق الشيعة اعتدالاً، وربما كان السبب فى ذلك أن قضية «زيد» كانت واضحة أشد الوضوح. فالرجل خرج ليدفع عن المسلمين ظلم بنى أمية واستبدادهم، وأراد أن يُحيى مفهوم الدولة «الديانة» أى الدولة التى تُحيى قيم وأخلاقيات الإسلام، لذلك كان من الطبيعى أن يخالف التيار الشيعى السائد الذى يتبنّى فكرة الهجوم على الشيخين أبى بكر وعمر، وأن يترضّى عنهما، لأنه ببساطة التقى معهما فى الفكرة والهدف، فكرة بناء «الدولة الديانة» التى تختلف فى توجهاتها أشد الاختلاف عن «دولة المُلك» التى أقام بنو أمية دعائمها، حين تخلوا عن الكثير من قيم الإسلام وعلى رأسها قيمة «الشورى» وحق المسلمين فى الاختيار لأنفسهم، وأقاموا ملكاً عضوضاً يتوارث فيه الأبناء الحكم عن الآباء، وأسسوا الحكم على الغلبة بالسيف والاستبداد بالأمر، لأنهم آمنوا أن فكرة «تقوية الدولة» مقدَّمة على فكرة «حماية كرامة الإنسان»، فرضوا بإهدارها من خلال الممارسات الظالمة. وقد نجح الأمويون بالفعل فى بناء دولة قوية استطاعت التوسُّع وزحفت بالإسلام إلى بقاع أخرى من الأرض، لكن ذلك جاء فى النهاية على حساب كرامة الإنسان. وكرامة الإنسان مفهوم أساسى من المفاهيم التى تستند إليها «الدولة الديانة»، إعمالاً لقوله تعالى: «وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى آدَمَ». أمر آخر يستحق أن نتوقف أمامه فى قصة «الزيديين»، وهو ذلك الأمر المتعلق بأهل العراق -من المتشيعين- الذين دأبوا عبر تاريخهم على الالتفاف حول دعاة التغيير، ولكن ما إن تحتدم المعارك حتى ينفضوا من حول القيادة، مؤثرين السلامة، وهاربين من الميدان، تاركين خلفهم من كانوا يلتفون حوله بالأمس. كذلك فعلوا مع على بن أبى طالب حين نابذوه العداء بعد حادثة التحكيم الشهيرة فانفضوا من حوله، وهو ما فعلوه مع ولده «الحسين»، ثم مع حفيد الحسين «زيد» الذى تبقى معه من الأربعين ألفاً الذين التفوا حوله فى البداية خمسمائة فقط، فقاتل الأمويين قتالاً يائساً وانتهى الأمر بهزيمته وقتله، واحتز يوسف بن عمر قائد الجيش الأموى الذى قاتله، رأسه، تماماً مثلما وقع مع جده «الحسين»، ليتم إرسالها إلى الخليفة الأموى هشام بن عبدالملك فى الشام. وقد مرت عقود كثيرة حتى استطاع الزيديون تأسيس حُكم يُبشر بمذهبهم فى عصر الدولة البويهية، لكن البويهيين ترددوا فى الإطاحة بالخلافة العباسية وتولية أحد العلويين رغم سيطرتهم على بغداد، بعد أن أعجبتهم لعبة الاستحواذ على خلفاء بنى العباس، بالإضافة إلى خشيتهم من العلويين على ملكهم، وكأن السياسة لا تعرف قيم الدين وشعاراته الكبرى إلا على سبيل المتاجرة، وعندما تتحقق الأهداف تتنحى الفكرة جانباً لتشخص المصالح بوجهها الصريح.